مواضيع اليوم

الوعي العربي والاعتقاد الخوارقي

عيسى رمضان

2012-02-22 09:19:47

0

 
كثيرا ما نسمع السؤال : لماذا الوعي العربي مُولع بالضبابية وفي حالة فقدان اتجاه ؟ نجده أحيانا وكأنه مصاب بصدمة حضارية , رافضا لجميع مظاهر الحضارة , لا يفهم الحضارة من أين بدأت , والى أين تسير , وكيف نشأت وما الهدف منها ؟
هل الحضارة والعلم هِبة غيبية ,هي تنفيذ لإرادة غيبية تضع الإنسان أمام اختبار في هذه الحياة , أم هي نتاج إنساني وتطور عقلي وعملي دام قرونا وقرون ؟
هل أُصيب الوعي العربي بحالة خوف من أن تُفقده الحضارة الشيء الغالي من أكداس القيم والأخلاق والتاريخ الناصع الجميل الخلاق , وكردة فعل أُصيب بحالة من التحجر والتصلب والحوصلة , وصارت الحضارة عنده عصية عن الفهم والاستيعاب , فبقي غارقا في كهف الأُصولية والقَبلية , حذرا في التعامل معها ؟
من الملاحظ أن الوعي العربي مُصاب بالخوارق ,ولا يؤمن بدور الإنسان الحضاري الخلاق , إنه غارق في الإيمان بها , والثقافة بمجملها مبنية على الإيمان الخوارقي .

فكل المبتدأ في الوعي الثقافي العربي قد انطلق من الصحراء , ولا زلنا نلمس تأثيره حتى الآن . فحالة البداوة التي عاشها العرب منذ ألفي سنة , وارتبطت معها حياته اليومية , وإسلوبه في الحصول على الغذاء , حيث كان يرى المساحات الشاسعة المنبسطة أمامه , وبعد عدة أيام يرى مكانها التلال الرملية الممتدة لمسافات طويلة , وكأنها أنصاف بطيخ مشطور بأحجام مختلفة , وبالمقابل يرى الجبال الشامخة والجالسة في مكانها ترتفع عالية وتمتد لمسافات بعيدة مُكونة تسلسلا جبليا متعرجا ليس له قدرة على اجتيازه. وليس هناك من أنهار ولا غابات , والحياة بسيطة وعادية وليس هناك من دافع للتجديد ولا للاختراع .
هذه المناظر في الصحراء , وضعت البدوي في حالة دهشة وتعجب , ولكن لم يصل مستوى التفكير أبعد من أن هذه الظواهر الطبيعية تعود لأسباب خارقة , وهي التي قامت بزرع الجبال وتقوم بنقل التلال بصورة دورية دون انقطاع , فتلبس الصحراء في كل دورة ثوب جديد , مادته الحبيبات الرملية الصفراء .
حتى الآن ليس هناك من مشكلة , ولكن المشكلة نشأت من التعميم , أي حينما قام الوعي العربي بتعميم هذا الإيمان بالخوارق على كل شيء في الحياة ,مما قَزم بوادر الإنتاج والإبداع والتجديد .ولم يكن له احتكاك بالحضارة إلا عن طريق الرحلات التجارية الموسمية .
وجاء الإسلام فاحتضن فكرة الخوارقية وتفرع بها لتشمل كل شيء في الحياة الاجتماعية والفكرية . من هنا تشرب العرب والمسلمون في كل نظامهم المعرفي والحربي وتنظيمهم السياسي , وامتزجت فكرة الخارق مع القدرية فماتت عندهم فكرة التجديد والإبداع , وظلت هذه النظرة مسيطرة حتى يومنا هذا , فأُهملت العلوم الإنسانية . مما سبب عدم مقدرتهم على استيعاب العلوم الحديثة . ولكن المعضلة أكبر من هذا, فإن القشرة الصلبة الحاجبة لاستيعاب الحضارة تعود إلى الفقر في العلوم الانسانية ورفض الفلسفة وعدم النظر الى التراث والتاريخ العربي والإسلامي بشكل نقدي ومحاولة فلترة التاريخ من فكرة الميراث التناحري على السلطة السياسية .
أن مرض الانقلاب الأموي القديم وروح الغدر والتآمر الذي تأصل بين ظهرانينا مازال يفعل فعله عبر ألف سنة من الزمن، ولم نتعافى من هذه الظاهرة حتى الآن فهي ظاهرة مرض حضاري ..
فكرة الخوارقية هذه ترفض التجديد في النظم السياسية , وتعمق المراتبية الطبقية في المجتمع , فدوما هناك الخليفة مدعوما بالقدرية الإهية , ودوما هناك أُولي الأمر , ودوما هناك الفقهاء وأصحاب العمائم , ودوما هناك الفقراء والمساكين ,ورُسمت هناك علاقة لا تتغير بينهم , كما رُسمت العلاقة مع أصحاب الديانات الأُخرى بنصوص حرفية لا تقبل التغيير ابداً , وتطل برأسها الأُصولي لتضع فواصل صلبة بين أبناء الوطن الواحد , ويظل المجتمع في حالة تصارع بين الملل الدينية , والنظر لهذا وكأنه نظاما شمسيا .
إن إرجاع كل شيء في الكون والمجتمع لقوة خارقة تحرك التلال في الصحراء وتشكلها , وهي التي نصبت الجبال الشامخة , وهي التي تحرك النجوم والكواكب والشمس , وبتعميم هذه الفكرة على المجتمع والتاريخ , فهي التي ترتب الناس في مراتب اجتماعية , وهي التي توزع الرزق , وهي التي تحرك التاريخ وتقلب الدول وتحطمها وتنشأ غيرها , وهي التي تُغرق وتصرع العُصاة بريح صرر عاتية فلا ترى لهم من باقية .
إن فكرة الخوارقية قد زرعت حاجزا في الوعي العربي يقف بقوة أمام فهم القوانين التي تضع الكون وظاهراته في حركة تطورية تسلسلية دائمة وتكرس فكرة " الغائية " المحددة لسبب ظهور الإنسان على الأرض .
وانطلاقا من هذه الفكرة فقد وقف العرب الذين لا يمكن فصلهم عن المسلمين موقفا رافضا لكل شيء تطوري حتى وصل الى علم البيولوجيا فأعلن حربا شعواء على نظرية النشوء والارتقاء لتشارلز داروين , ورفضت فكرة الترابط والتطور التسلسلي بين الحيوانات بعضها ببعض , وبينها وبين الإنسان بوصفه أرقى الكائنات الحية .ورصدت مقابل هذا نظرية أن الكائنات الحية وُجدت " خُلقت " بهذا الشكل حسب مخطط لا تحيد عنه , ولا تتغير , ولا علاقة تركيبية بينها , فكل كائن من أصغر كائن وحيد الخلية الى أضخم ديناصور هو وحدة عضوية مستقلة لا يربطها رابط مع الحيوانات الأخرى .
وهذه الكائنات العضوية لا تتغير ولا تتطور ولا تتكيف مع الظروف البيئية المحيطة بها . وهي هكذا من البداية والى أن ينتهي الغرض الذي وُجدت من أجله , وهو خدمة الإنسان . فلم تُوجد جميع الكائنات العضوية من نبات وحيوان إلا لغاية واحدة ووحيدة وهي خدمة الكائن الذي استُخلف في الأرض , وهو الإنسان .
كما ويرفض أصحاب فكرة التدخل الخارق فكرة التشابه التركيبي العضوي والشكلي بين الإنسان وأسلافه من الكائنات الراقية .
ان الخوارقية هي فكرة عند العربي ليست نابعة من الذات الخالقة المبدعة المُجددة , إنها تماهي مع الغير , تمظهرية , تقليد شكلي للغير في زماننا هذا .
ان فكرة الخوارقية هذه لها انعكاسات ومظاهر نفسية تظهر في السلوك فتجعل الإنسان العربي يتعامل مع الحضارة من نهايتها القصوى , أو باعتبار حيازتها مصدرا رئيسيا للإشباع النفسي والتمظر الحضاري , وهذا كرسه عنصر الوفرة في بعض الدول الخليجية نتيجة لامتلاكها البترول وثصاعد أسعاره بشكل خيالي نتيجة للأزمات العالمية المتكررة في العقدين الأخيرين .فالعربي لا ينظر الى السيارة كيف صُنعت , من شرائح الصفيح والمطاط وأنواع خاصة من الزجاج , وكم استهلكت من الوقت لانجازها , وكم من العمال والفنيين احتاجت , وكم شركة اشتركت كل بتخصصه لتوريد المستلزمات لانجاز هذه السيارة بهذا الشكل المريح في المنظر والاستخدام . انه لا يسأل نفسه لماذا لم يصنع العرب السيارة والطائرة وأجهزة الاتصالات والأجهزة الكهربائية بأنواعها المستخدمة في المنازل , ولا يفكر في الأسباب , انه يأخذها من النهايه , أي يفكر في امتلاكها فقط , ولا يعنيه ما سبق .

اننا نرى أكثر أشكال التمظر الحضاري في إشباع رغبة التملك الى الحد الأقصى , واستخدام الأداة الى الحد الأقصى , الى نهايتها القصوى . فمثلا نراه يسير بالسيارة بسرعة جنونية , ويريد أن يملك الطائرة لوحده, ويسافر بها لوحده , ويريد أن يرى أن كل شيء مطواع له وتحت الإشارة , فالنفط قدم له هذه الإمكانية دون الحاجة الى الاختراع ولا حتى التفكير في أنتاج شيء يكون له الأسبقية في إبداعه .
إنه يستطيع أن يملك كل شيء , أن يشتري كل شيء , فلا داعي لأن يصنع السيارة ولا الطائرة ولا الكمبيوتر ولا أجهزة الاتصالات ,لأن لديه القدرة على شراء كل هذا , انه سوبرمان الشراء , وسوبرمان الامتلاك .
فهو بهذا يتماهى مع فكرة الخارق , بأنه هو له صفات الخارق بمقدرته على استئجار العمال من كل البلدان وشراء أحدث السيارات واقتناء الطائرات الخاصة وامتلاك المنازل الفخمة و المتعددة , وفي أي مكان .
قرأت في مجلة أن سعودي تجول بطائرته الخاصة فوق لندن , فأعجبته فيلا وحولها حديقة وساحة واسعة , فأمر الطيار بالهبوط في ساحة الفيلا , فاندهش السكان من هذا السلوك , فخرجوا يسألون ما الموضوع , فأجابهم المرافق , نريد أن نشتري الفيلا , فقالوا له أنهم لم يعرضوا مسكنهم للبيع , فأجابهم أنه يعرف هذا , ولكن هذا الرجل يريد أن يشتري هذا المسكن , فكم ترغبون ثمنا له , فأعادوا عليه رغبتهم برفضهم فكرة بيع المسكن . فلم يغادر بل كرر طلبه , قائلا : كم ترغبون ثمنا لمنزلكم ؟ ولما لاحظوا الإصرار على الشراء , قالوا له سعرا خياليا , يساوي أضعاف و أضعاف سعر المنزل , على أساس أن السعودي سوف يتراجع , فما كان من السعودي إلا أن وافق ودفع المبلغ واشترى الفيلا .
إنه قد أشبع رغبته بأنه قد فعل شيئا خارقا لا يستطيع أحدا أن يفعله . وهكذا تجد الخليجيين يتزوجون عددا من النساء , ويطلقون عددا آخر , فلا مانع لدى الشخص منهم أن يتزوج امرأة لمدة إسبوع أو شهر , ثم يطلقها وكأنه لم يفعل شيئا .
وقد حدث أن سافر أحد الخليجيين الى رومانيا , وهناك تزوج أربعة ووضعهن في فندق تحت طلبه وفي خدمته ليل نهار , وبعد أن انتهى من نزهته هذه طلقهن جميعا وغادر .
وبهذا فإن الوفرة في الدخل عند بعض الخليجيين الذي خلفه البترول في الدخل قد عزز فكرة الخارق والتماهي مع الأعمال الخارقة والتي سيطرت عليهم بشكل مرضي , وبالمقابل , النظر الى العمل باحتقار , وبهذا تعزز السلوك الإتكالي والكسول بامتياز .
إن هذا السلوك معدوم في أوروبا والصين واليابان , وهذا يدل على أن فكرة الخوارقية لم تنشأ في بلادهم وتجعلهم كسالى , بل لم يسمحوا لها أن تصلهم .
أما من سافروا الى أوروبا من العرب ونالوا حظا من العلم وأحسوا بمقدرتهم على الخلق والإبداع , فقد فضلوا البقاء في أوروبا ولم يعودوا الى الوطن الأم , إلا قلة منهم تحكمهم ظروف شخصية أو أسرية خاصة .
وحتى من عاد الى الوطن أحس بتناقض شديد ,وفرقا شاسعا بين ما تعلمه وما هو موجود عند العرب من استهتار بالعلم وعدم العقلانية في العمل . ولما لم يجد المناخ الملائم , رجع الى أوروبا ولم يعد .
ان فكرة الخارق عند العربي تختلف عن فكرة السوبرمان عند نيتشة , فعند نيتشة أن على الفرد التغلب على ذاته وشحذ مواطن القوة عنده ليكون سوبرمان , راقي , متفوق دوما . بينما عند العربي فإن هذه الفكرة تولدت من التفكير الصحراوي المختلط مع التفكير الديني , وكانت نتيجتها عكسية , فسادت القدرية والاتكالية .
ان سيطرة فكرة الخارق على الوعي العربي أدت الى نشر اللامبالاة بالأفكار العلمية والميوعة في الموقف من الحقيقة , وقد يصل الى الاستهتار والسخرية .لهذا أُصيب العرب بحالة من القفر العلمي , ومما زاد الوضع سوءا هو إلغاء العلوم الإنسانية والفلسفة من المناهج الدراسية , وبالمقابل جرى التركيز على الدراسات الفقهية والسنة والتجويد والأحاديث النبوية والتاريخ الإسلامي .
كما أن المناهج الدراسية في الدول العربية هي عملية تكرارية ونقلية وإنتقائية وخلط غير متجانس بين الأفكار والنظريات العلمية , فكانت تعطى للجيل الجديد بثوب ديني لا يمت بصلة للعلم التجريبي , وبالتالي كان ينزع منها الثقة والمصداقية.
كما أن عملية الترجمة , كان يقدم لها أصحاب شهادات عليا في الجامعات , ولكنهم مصابون بالأصولية , فكانوا يعطون القارىء فكرة الرفض السلفي لما سيقرأ , وبالتالي تكون دراسته ليست بطريقة الفهم والتفكير , بل بالحفظ والصم عن ظهر قلب من أجل النجاح . وبهذا كانت الأفكار العلمية لاتصل الى الجيل الجديد بشكل
صحيح , بل مشوه ومنزوع منها الروح العلمية وروح الدعوة الى الخلق والإبداع والتجديد .
من هنا ونتيجة لهذا الأفكار , وهذا المناخ وهذا السلوك , فإن العرب فد دخلوا كهفا مظلما , ولا أمل لهم للخروج منه إلا بعملية أصلاح شاملة ليس للمناهج الدراسية وحسب بل والنظم السياسية وإشاعة الديمقراطية و الحرية الفكرية , وخلق المناخ السليم والنقي كي تتعلم الأجيال الجديدة العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية دون تشويه . وان هذه الحضارة من علوم وصناعة وعمران بشري , هي نتاج إنساني , ويقع عليه عبء المساهمة في هذا الصرح من أجل خدمة البشرية جمعاء .

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !