طرح عامر قلم الفلوماستر جانياً وأمسك باللوحة وثبتها على الطاولة قائلاً:
ها فد انتهيت من عمل اللوحة وتخطيطها، وآن لي أن أستريح بعد يوم عمل طويل.
كان عامر خطاطاً بارعاً موهوباً، يعمل في محله دون كلل لكي يحصل على قوت يومه، يرسم لوحات مدرسية، يخطط واجهات محلات، إعلانات تجارية، إعلانات طبية، تخطيط أسماء واجهات منازل، إشارات. وفي ذلك اليوم طرح عامر أقلامه جانباً بعد أن أنجز عمله وهمُّ بإغلاق دكانه وإذ برجلٍ يحمل على كتفه بندقية ينتصب أمامه. قال الرجلً: السلام عليكم. فرد عامر قائلاً: وعليك السلام، هل من خدمة أقدمها لك ؟ قال الرجل: نعم، أريدك أن تكتب لي بعض الشعارات. فقال عامر: لقد انتهى عملي هذا اليوم ونحن الآن في المساء، وعليك الحضور غداً وسأكون جاهزاً. فقال الرجل: إن عملك في التخطيط والكتابة سيكون ليلاً وليس نهاراً. فسأل عامر باندهاش: ليلاً ؟ فقال الرجل: نعم ليلاً. وأردف قائلاً: أريدك أن تكتب وتخطط على الجدران بعض الشعارات التنظيمية، وسأدفع لك مقابل ذلك قدر ما تعمل نهاراً. دارت الأفكار في رأس عامر، حيث أن كتابة شعارات تنظيمية وسياسية على الجدران في الشوارع ليس عملاً سهلاً ، حيث أن هذا العمل له تبعات خطرة في ظل الاحتلال، فإذا ما وشى به أحد أو صادفته دورية عسكرية فإن مصيره الاعتقال والسجن وربما يتعرض للموت. حقاً إن لديه شعوراً وطنياً، وهذه المشاركة بتخطيط وكتابة الشعارات المضادة للاحتلال أو الشعارات السياسية التحريضية لهو عملٌ وطني يولد لديه شعوراً بالاعتزاز والفخر. وافق عامر على العرض. فسلمه الرجل ورقة مكتوب عليها عدد من الشعارات التنظيمية وورقة أخرى بها عدد من الشعارات السياسية والوطنية. بدأ عامر عمله ليلاً، حيث كان يحمل أدواته من فرشاه ووعاء الطلاء إلى الشارع بعد انقطاع المارة، وقام بعمله في كتابة الشعارات التنظيمية والسياسية. صحا الناس في صباح اليوم التالي فوجدوا أن الجدران قد امتلأت بالشعارات وهي منقوشة ومخططة بإتقان. فقال أحدهم: لمن هذه الشعارات ؟ فرد آخر للجبهة الشعبية: إنه لخط جميل، إن من كتبه خطاط موهوب. في إحدى الليالي تصادف عامر مع مسلحين تابعين لتنظيم فتح الذين يشاغلون المستوطنات بنيران أسلحتهم، وقد عرفوه شخصياً بأنه هو كاتب الشعارات وأنه الخطاط الذي كتب الشعارات لتنظيم الجبهة. أبلغ المسلحون مسئولهم السياسي، فما كان من الأخير إلا أن ذهب إلى عامر وعقد معه اتفاقاً بأن يكتب ويخطط لتنظيم فتح بعض الشعارات. امتلأت ليالي عامر بالعمل حيث عرفته جميع الأجهزة السياسية والإعلامية للمنظمات العاملة على الساحة، ونتيجة لشهرته عقد اتفاقا مع أغلبية المنظمات على كتابة شعاراتها السياسية والتنظيمية والإعلامية والإرشادية. فما تمر ليلة إلا وتكتب شعارات جديدة على جدران شارع من شوارع المدينة مما أزعج سلطات الاحتلال، فصارت دورياته تجوب الشوارع بحثاً عن الخطاط الذي يرسم الشعارات بشكل ملفت للنظر وكان عامر يختفي بسرعة كلما سمع هدير أي سيارة للجنود ليلاً. كثفت دوريات الاحتلال من نشاطاتها للعثور على الخطاط المجهول، فنشرت الدوريات الراجلة ونشرت بعض الجنود بلباس مدني حتى في الشوارع الضيقة. أصبحت مهمة عامر أكثر صعوبة، وفي نفس الوقت كثرت الأجهزة السياسية المتعددة بعدد المنظمات الفلسطينية التي تكلف عامر بتخطيط شعاراتها. فصار يخرج ليكتب في الليلة الواحدة شعارات لأكثر من تنظيم وفي أكثر من شارع. كم كان فخراً لعامر أن يرى شعاراته في الصباح وقد ملأت الشوارع ويقرأها الناس ويتناولونها بالحديث، وأشد ما يلفت نظر الناس في هذه الشعارات على كثرتها هو حسن الخط وإتقانه. وبقدر الفخر الذي أصاب عامر، كانت إدارة الاحتلال في المدينة تزداد غيظاً من هؤلاء الخطاطين وكتبة الشعارات - وبالأحرى الخطاط المجهول كاتب الشعارات الملفته للنظر . سارعت قوات الاحتلال برسم خطط جهنمية لإلقاء القبض على الخطاط الليلي، حيث أعدت مجموعة من العملاء والجنود المستعربين - الذين يرتدون ملابس عربية - . إن المهمة الرئيسية لهذه المجموعة المستعربة هي إلقاء القبض على الخطاطين وكتبة الشعارات السياسية والتنظيمية. ولا يمكن لهذا العمل أن يتم إلا بالقيام بنفس العمل الذي يقوم به الخطاطون أي مسح الشعارات القديمة وكتابة شعارات جديدة. كان هذا السلوك من قبل المخابرات الإسرائيلية والمجموعات المستعربة يهدف إلى زرع الفتنة بين المنظمات السياسية العاملة على الساحة في المدينة والتي ترى أن شعاراتها تمحى ويكتب غيرها من تنظيم آخر. وحتماً سيخرج الخطاطون - بالأحرى الخطاط عامر - لكتابة شعارات جديدة وحينما يقترب من زملاء المهنة المستعربين يُلقى القبض عليه. تحرك عامر ذات ليلة لكتابة شعاراته، فأصابه الاستغراب فتساءل قائلاً: أليس أنا المكلف الوحيد بهذه المهمة ولصالح الجبهة الديمقراطية هذه المرة ؟ لا بد أن تنظيماً آخر أحضر خطاطاً آخر وكلفه بمهمة التخطيط وكتابة الشعارات قال في نفسه: وليكن ذلك، سأنهي عملي وأغادر المكان. أخذت المجموعة المستعربة التي تخطط الشعارات تقترب منه شيئاً فشيئاً، وهو عاكف على عمله بسرعة وجدية. فجأة أنقض عليه ثلاثة رجال وقد أشهروا مسدسات كانت معهم، أسرع أحدهم، وضع الأصفاد في يديه، وما هي إلا لحظات حتى كانت سيارات عسكرية تملأ المكان والتي كانت على اتصال دائم مع المجموعة المستعربة. وُضع عامر قيد الاعتقال، حيث جرى معه تحقيق أولي تركز حول كتابة الشعارات والإرشادات السياسية والتنظيمية للمنظمات العاملة على الساحة. في اليوم الثاني، استُدعي عامر للتحقيق، جلس على كرسي مقابل المحقق. قال الضابط المحقق: عايز أعرفك بنفسي، أنا أبو جلال، وأنت عامر... شوف أنا أعرفك من زمان... أنت خطاط شاطر. واستطرد، اسمع يا عامر، نحن عملنا مسح للمدينة وشوارعها، فوجدنا أن الخط واحد، وبعد مقارنة الخط بما كتبته، وجدنا أنك أنت صاحب هذه الخطوط جميعها. وهنا دخل شخص آخر، نظر إلى عامر نظرة جانبية وقال: أنا بشوفه بعيني. لقد كان الناطق هو الضابط المستعرب الذي ألقى القبض على عامر الليلة السابقة. فقال عامر في نفسه: لا مفر من الاعتراف، ولكن الاعتراف المختصر، ولمرة واحدة، أي بمساعدة تنظيم واحد. وهنا وجه له أبو جلال السؤال قائلاً: الضابط شافك وأنت تكتب شعارات، صح ؟ فأومأ عامر بالإيجاب بدون نطق. وأكمل الضابط: وهذه الشعارات هي للجبهة الديمقراطية، صح ؟ فقال عامر: نعم. فأردف الضابط: ممتاز...ممتاز...أنت كويس. ومش رايح تتعبنا معاك يا عامر، وإحنا عارفين انك مش عسكري، أنت سياسي فقط. لقد كان كلام الضابط مبطناً، ويحمل في ثناياه أن ما اعترف به عامر، هو شئ ولكن يريده أن يقول أشياء. فقال: أنا ما في عندي أكثر من هذا، وما أعرفه وما فعلته قد قلته. فقال الضابط المحقق: أنت خطاط موهوب وخطك واضح في كل شوارع المدينة. فقال عامر: أنا بس خطاط. فقال رجل المخابرات: عارفين...عارفين. وهز رأسه كأنه يسخر مما سمع، ثم اعتدل في جلسته، وقال: الشعارات في الشارع الرئيسي لفتح، وفي الشارع الشرقي للجبهة الشعبية، وفي الشارع الغربي لحزب الشعب، وفي الشارع الشمالي لحركة حماس، والشعارات المكتوبة على جدران الشارع التقاطعي لحركة الجهاد و............و..........، وكاتب هذه الشعارات واحد. أتعلم من هو يا عامر ؟ إنه أنت...أنت... من كتب جميع هذه الشعارات التحريضية والتنظيمية. فقال عامر - وقد داهمه إحساس بالضيق والاختناق -: أنا خطاط وبس. فقال الضابط – وقد ظهر على وجهه التجهم والعدوانية -: أنت تعمل لحساب أي تنظيم ؟ فقال عامر: ولا تنظيم، أنا مش منتمي لأي تنظيم. فقال الضابط: اسمع يا عامر، أنت متهم بالانتماء ومساعدة فتح، والانتماء ومساعدة الجبهة الديمقراطية، والانتماء ومساعدة الجبهة الشعبية، وحماس والجهاد و......... والقيادة الموحدة، والنضال الشعبي والجبهة العربية ولجان المقاومة الشعبية. فانتفض عامر، وقد رأى أن الموضوع قد أخذ في التوسع أكثر مما ينبغي بدرجات لا يمكن احتمالها، وصرخ: لا...لا... أنا مليش تنظيم، أنا مليش مسئول، أنا خطاط وبس. وهنا نطق الضابط المستعرب الذي لا زال واقفاً بجانب المحقق: خلاص، اكتب له، هو مع تنظيم الوحدة الوطنية، مع كل المنظمات الإرهابية التي وجدت على الساحة. انتهى التحقيق على هذا، وأوقف عامر على ذمة التحقيق.وبعد انتهاء التوقيف تم تمديد التوقيف مرة أخرى للعرض على المحكمة العسكرية. في يوم المحكمة جلس عامر في قفص الاتهام ومعه العديد من المعتقلين السياسيين الذين أٌحضروا للمحكمة لارتكابهم أعمالاً فدائية أو بسبب نشاطاتهم ضد الاحتلال. وفي المحكمة وقف ممثل النيابة العسكرية الإسرائيلي يسرد حيثيات القضية قائلاً: هذا المخرب الماثل أمامكم - يقصد عامر – متحمس جداً للتخريب وبوسائل مستحدثة حيث يقوم بنفسه بكتابة الشعارات التحريضية للجمهور على الجدران في الشوارع، ليس في شارع فقط، بل في كل شوارع المدينة، وهذا العمل لا يدفع شخص واحد للقيام بعمل تخريبي بل أشخاص كثيرين ويهيئ الأرضية النفسية للتخريب. وأضاف أن عامر لم يكتب مرة واحدة، ولم يكتب لتنظيم واحد، بل قام بنشاطات ومساعدة لكل التنظيمات التخريبية، وأخذ يعدد أسماء المنظمات الفلسطينية العاملة على الساحة، لهذا أطلب - والحديث لممثل النيابة – أقصى العقوبات لهذا المخرب الذي هو مجموعة مخربين في شخص واحد هو عامر. كان عامر ينظر باندهاش إلى ممثل النيابة وهو يعدد أسماء المنظمات العاملة على الساحة الفلسطينية ويلصق به تهمة الانتماء والمساعدة لكل تنظيم على حده، وبأنه عمل معها جميعاً وكان نشيطاً في تقديم المساعدة لها بكتابة المواد التحريضية. وأنه في النهاية طلب حكماً تفصيلياً لقاء مساعدته لكل تنظيم على حده. وهنا أخذ عقل عامر يودي ويجيب، تصور أنه لو حكم سنة على مساعدته لكل تنظيم على حده فسيكون حكمه عدة سنين بعدد المنظمات الفلسطينية التي كتب شعارات لها. فانتفض باستهجان معلناً رفضه لهذه النتيجة وصرخ وقد أصابته حالة من الهستيريا: لا...لا...أنا خطاط...أنا وحدة وطنية...أنا مقاومة شعبية... وهنا ضرب القاضي العسكري بقبضة يده على طاولة أمامه، وأشار بيده الأخرى لعامر بالسكوت والهدوء ثم قال: حكمت المحكمة على عامر سنة لقاء كل مساعدة لتنظيم من المنظمات التخريبية. أصابت عامر رجفة من هول ما سمع، اعتقد أن حكمه قد يصل لعشرات السنين بعدد المنظمات التي كتب شعاراتها، وبالتالي سيقضي بقية عمره في السجن، ارتعد، أخذ ينظر حوله بعيون زائغة. وهنا اقترب منه أحد المعتقلين وهنأه بأن حكمه سنة. فسأله عامر: كيف ؟ فشرح له زميله ذلك بأن قال: الأحكام لا تُجمع، وأحكامك مفصلة، والأحكام المفصلة تأكل بعضها، أي أن أكبر الأحكام يأكل الأحكام الصغيرة، وأكبر حكم عندك سنة. من هنا كان حكمك سنة فقط لأنها أكبر حكم. وهنا وقف عامر وأخذ يهتف ويقول: عاشت الثورة...عاشت الوحدة الوطنية...عاشت الثورة...عاشت المقاومة...
التعليقات (0)