الفلسفة هي نشاط عقلي إنساني هادف إلى المعرفة , هي حالة الرغبة للمعرفة التي تثيرها حالة الاندهاش والتساؤل التي تصيب الإنسان من ملاحظته للظواهر الكونية والطبيعة والمجتمع والإنسان والعضويات النباتية والحيوانية . إن دراسة الفلسفة تنمي لدى الإنسان فكرة البحث وتوسع بصيرته وتعطيه القدرة على التمعن الواعي في كل ما يدور حوله من أحداث . فليس عبثا تعريف الفلسفة منذ القدم بأنها " حب الحكمه ، حب المعرفة " .
والتعريف الأشمل للفلسفة هي معرفة القوانين الأكثر شمولا التي تخضع لها الظاهرات في الطبيعة والمجتمع والفكر الانساني , هي التي تكشف لنا سيرورة الحركة الى أمام , سيرورة التطور الى الى الأفضل .
إذا مارست حياتك بشكل عادي دون تساؤل , فأنت تعيش على الهامش . أنت ترس في آلة بشكل عفوي , تلقائي , أنت تعيش حالة المُتلقي , حالة الطاعة , حالة السير مع القطيع , حالة أن تكون أداة سهلة في يد الغير .!! أما إذا تساءلت , وقرأت , وعرفت , وأدركت , ووصلت إلى قناعات فكرية متناسقة , ووجدت هذه الأفكار ضمن مبدأ معين , أو دين به إجابات مقنعة لكل ما يجول بخاطرك من تساؤلات . فان هذه القناعات لا بد ستدفعك الى التفاعل معها , والتقارب مع المجموع الذي يتشابه معك في الآراء والقناعات . إن القناعات الفكرية تدعو حاملها إلى التحزب , التحزب الواعي , أي معرفة لماذا تقف مع , ولماذا تقف ضد ؟ وهي تدعو حاملها للانضباط وفق متطلباتها .
من الفلسفة خرجت الأيديولوجيا ,ونضيف أن الايديولوجيا هي علم الأفكار المرتبط بالطبقات الاجتماعية , فكل طبقة تتبنى الأيديولوجيا التي تدافع بها عن مصالحها .وقد تُصبح الأيديولوجيا الفكر السائد , الثقافة السائدة , ولكن وبعد تحليل عناصرها نجدها تدافع عن مصالح الطبقة السائدة التي تعممها على أفراد المجتمع لتصبح وكأنها عادية لكل المجتمع , وفي نفس الوقت ,خاصة بكل فرد على حده . لهذا , فليس من الغرابة أن نجد أناسا لهم أصول طبقية فقيرة , مُضطٌهده , ولكنها تحمل أفكار لطبقات برجوازية وإقطاعية , معادية لموقعه الاجتماعي . وفي هذه الحالة يقف الشخص ضد نفسه بتبنيه لهذه الأفكار السائدة .
من هنا فان الأيديولوجيا تبدأ من الفرد أي مرتبطة بالإنسان وتفكيره وقناعاته , بعلاقات الإنسان الاجتماعية , وأهدافه الاجتماعية , وآراءه عن المجتمع , عن تنظيم المجتمع , هي آراءه عن الصورة التي يجب أن يكون عليها المجتمع . لها قوة السيطرة على الفرد وعواطفه اتجاه الآخرين , من الصعب التخلي عنها , أو الخروج من تحت عباءتها . هناك أيديولوجيات مسكنة , مهدئة , لمعتنقيها , تلك المرتبطة مع المقدس , أو المتداخلة مع المقدس , تلك التي تنبع من المعتقدات الدينية , سواء كانت أرثوذكسية أو إسلامية أُصولية .
إن الأيديولوجيات الدينية تجعل مؤيديها يعيشون حالة أشبه بالغيبوبة عن كل شيء حضاري ,أو يعيشون حالة أشبه بما يسمى ب " الصدمة الحضارية " . فهم في حالة رفض ونقد واستنكار للعلاقات الاجتماعية الجديدة والمفاهيم السياسية مثل الديمقراطية والعلمانية والانتخابات الدورية , والموقف من المرأة ,ودورها الفاعل في المجتمع . فهم في تشبث دائم بالعلاقات العشائرية وسيطرة المفاهيم الأبوية , ويسعون لتسييد مفاهيم أقرب إلى العصور الوسطى منها إلى روح العصر.
ان الأيديولوجيا التي تعلم وتؤمن بأن التاريخ يتطور من مرحلة إلى أخرى وفق مراحل اقتصادية واجتماعية وسياسية , والناس بوعيهم يستطيعون لعب دور كبير في دفع عجلة التطور التاريخي إلى الأمام لبلادهم , هي أيديواوجيا ثورية . ان الأيديولوجيا الثورية لا تؤمن بالصمت , إنها في حالة استنفار , تزرع الجرأة في السلوك , تدعو الشخص لإعلان رأيه في كل شيء , لا تكترث بالنتيجة المرتبة على الموقف , الطرد من الوظيفة , أو الاعتقال , أو الموت . ان الأيديولوجيا نقدية , وجدّت من نقد الغير , ضدية , وجدت في تضاد مع الغير . حزبية , دائما مع وضد , تؤمن بالفرز الفكري , وليس بالتميع . تتعامل مع الآخر على أساس أفكاره , آراءه ومواقفه من القضايا الاجتماعية والقضايا العلمية .
إن الأيديولوجيا تجعل الإنسان ليس ملك نفسه , بل ملك أفكاره وقناعاته في تلك اللحظة .كما أن الأيديولوجيا حينما تقتنع بها الجماهير تصبح قوة اجتماعية هائلة . إن الأيديولوجيا متلازمة مع الوعي ,وليس مع العادة الموجودة سلفا , أن تُولد في مجتمع مسيحي أو مسلم , أو بوذي , أو اشتراكي , وتمارس عاداتك بشكل عادي , ولا تسأل لماذا ؟ لماذا وُجد الإنسان وكيف ؟ وما معنى الموت ؟ وهل للحيوانات – من أصغر كائن , وحيد الخلية , الى أضخم حيوان - أرواح ؟ ولماذا الآلهه و الصلوات والطقوس الدينية ؟ ولماذا هي مختلفة باختلاف الأمم وليست شكلا واحدا ؟ وهل هناك قوة أوجدت الكون ,أم لم تكن موجودة , وأوجدها الإنسان بتفكيره ؟ ما هي أوجه الاختلاف بين البشر ؟ وما معنى الأخلاق , وما سبب اختلاف المقاييس الخلقية بين الأمم ؟ وكيف وُجدت اللغة ؟ وهل هناك لغة بدون إنسان ؟ وكم هو عمر الإنسان على الأرض ؟ وهل الحيوانات وُجدت بهذا الشكل , أم كانت مختلفة عن سابقاتها وتطورت لتحافظ على بقائها ؟ لماذا الفقراء والأغنياء في المجتمع ؟ لماذا تنشب الحروب بين الدول ؟ وما معنى الدولة ؟ ما معنى الديمقراطية ؟ ما معنى الديكتاتورية ؟ الخ --- من المفاهيم السياسية .
من هنا فالفلسفة ضرورية للعرب , لأن الفلسفة هي التساؤل , ولا تتوقف في تساؤلها عند حدود , والتساؤل بوابة الحقيقة والحقيقة تغسل المجتمع , وتحول التراث من حالة إستاتيكية جامدة إلى حالة ديناميكية فاعلة ومفيدة .
المطلوب فلسفة التراث وليس أصولية التراث .فالملاحظ عربيا وإسلاميا بما لا يخفى على أحد هو :"الجفاف " , الجفاف في الإنتاج المادي والجفاف في التفكير الفلسفي , , وبدلا من هذا الجفاف في المجتمعات العربية خاصة , حالة : " الاستهلاك ", وحالة " النقل " . والاستهلاك هو الاستهلاك لمنتجات الغير , وليس استهلاك منتجات من إنتاجنا .
وبدلا من التفكير الفلسفي والتجديد , حلت ظاهرة النقل من الماضي ـ أي نقل التراث كرزمة واحدة ـ, ومن الغير ليس كتراث إنساني , بل يجري نقله وتوليفه وفق التراث الأُصولي , أي مؤالفته مع الماضي , أي تشذيب النتائج العلمية , والمفاهيم الفلسفية المعاصرة لكي تدخل ثوب التراث القديم .
وللأسف , يتم إدخال هذه المفاهيم بثوبها التراثي في المناهج المدرسية , وفي الجامعات , ويتشربها الجيل الجديد وكأنها مسلمات . فيسود الاعتقاد أن العرب والمسلمون لديهم من التراث ما يكفيهم , وهم أصل كل العلم والفكر الإنساني وأن كل الحضارة في هذا العصر لها جذور إسلامية وعربية .
وبهذا المنطق أُخرجت الفلسفة عن مضمونها التساؤلي ,أي محبة معرفة الحقيقة , وتم تحييد العقل وتساؤلاته , أو بالأحرى , تم إلغاء الدور الدينامي للعقل . ومن ثم تم تغييب معرفة قوانين التطور الموضوعي في الطبيعة والمجتمع والفكر الانساني .ومن هذا التغييب أصيب العقل العربي بحالة فقدان إتجاه ,وعدم الثقة بمنجزات الحضارة , مما أدى الى وقوعه في شرك الأصولية .
ولتعديل المسار , ولإظهار دور الفلسفة في دفع عجلة التطور في المنطقة العربية يجب على العرب التحول من حالة النقل الساكن للتراث إلى حالة النقل المتحرك ,أي بحاجة إلى تمزيق ثوب القداسة الذي ارتداه التراث بحكم الزمن ,وإندماجة مع الموروثات الدينية , أي بحاجة إلى فلسفة التراث , بمعنى إبراز العنصر العقلاني في التراث , وليس بنقل التراث رزمة كاملة , واحدة , كما هي , لأن هذا خلط بين العقلاني واللاعقلاني , بين الحقيقة والإسطورة , بين الحقيقة المتناسبة مع الزمن , وبين الأفكار التي تخطاها الزمن وأصبحت لا تتناسب مع متطلبات الزمن .أي إخضاع التراث للغربلة , والتخلي عن الأفكار التي تعطي نتائج سلبية سياسيا واجتماعيا وسلوكيا .
إن العقل العربي مُصاب بالهزال والهرٌم والعقم ,فبقدر ما تتفشى النزعة الأُصولية , القبلية , في التفكير وخطط الاصلاح الاجتماعي , بقدر ما يترسخ هذا العقم في التكيف مع الحاضر , واستيعاب متطلبات المستقبل .
هذا ما يحتاجه العرب لكي يجدوا لهم مكانا في هذا العصر , لكي لا يبقوا أمة استهلاكية نقليّة , لا تعيش الحاضر ومتطلباته .
التعليقات (0)