ما هو الزمن ؟ حينما يسأل واحدا منا الآخر ، كم تاريخ ميلادك ؟ فاٍن هذا يعني أنك لم تولد هكذا بطول كذا ، وعرض كذا ، بل كنت في زمن ما لا تزيد عن حجم أرنب كبير ، والآن تختلف حجما وطولا . فكم تاريخ ميلادك ، أي كم عمرك ؟ أي كم مر عليك من أحداث ، من أكل وشرب وجري ولعب وذهاب الى المدرسة ، وكم مر عليك من أيام وشهور وسنين الى أن وصلت الى ما أنت فيه . فالزمن ، هو تتابع الحركة ، في الأشياء ، وعلى الأشياء ، تتابع الأحداث ، هو التغيرات ، هو الأشكال الجديدة للشيء ، والتي لم تكن كذلك فبل برهة ، أو قبل ساعة ، أو قبل يوم ، أو قبل شهر ، أو قبل سنة . فالزمن هو جريان الأحداث على الأشياء . والزمن لا يمكن فهمه بمعزل عن الأشياء وأشكالها التي كانت عليها وتغيرت ، أي ارتدت حلة جديدة ومحتوى جديد . أي لكل تغير بداية ونهاية ،والنهاية هي بداية لحدث جديد ، هو بداية لتغير جديد ، انه الزمن الذي مر حتى حدث هذا التغير ، وظهرت لنا صورة جديدة لم تكن من قبل . فالعالم في كينونته يوجد في حالة سرمدية من التغير والحركة والتطور ،ويكشف عن ذلك تتابع الظاهرات في الطبيعة من ليل ونهار ، وصيف وشتاء ،والمجتمع البشري وتطوره من حالة البداوة الى الزراعة ، ومن حالة المشاع ، الى مرحلة الأسياد والعبيد ، الى مرحلة الاقطاع ، الى الرأسمالية ، ثم مجتمع الرفاه العام .
الزمن احساس أم وعي ؟
يتبادر الى الذهن سؤال ، هل الزمن اٍحساس ، أم وعي وادراك ؟ اذا كان الزمن اٍحساس فقط ، فمعنى ذلك أن كل من يملك جهازا حسيا لديه اٍحساس ما بالزمن ، وفي هذا يتساوى الانسان والحيوان في الاحساس بالزمن ، ولما كان الحيوان يتحرك مدفوعا بغرائزه فقط ، وهو يتحرك ليلبي ويشبع هذه الغرائز وبشكل آني ، أي يتحرك لتلبية غرائزه حينما ينتابه احساس داخلي ودافع داخلي للاشباع وبالتالي للحركة ، أما غير ذلك فلا . أي ليس لديه تخطيط مسبق . فالتخطيط المسبق يتطلب الوعي ، العقل ، المعرفه بما هو مطلوب ، وما هو ممكن وما هو محتمل . وهذا الجانب لا يملكه الحيوان ، ولو أن لدى بعض الحيوانات شذرات من الحذر والمكر والتمويه ، ولكن هذا بدافع غريزة المحافظة على الحياة .
هناك من يفهم الاحساس بالزمن بارتباطه بالحالة النفسية ، التي يكون عليها شخص ما ، فالسجين والموظف والمٌحب هم أكثر الناس رغبة في جريان الزمن بسرعة ، ولكن الرغبة ، لاتؤثر في تسريع جريان الزمن . من هنا كان الزمن وعي ، ادراك للتتابع ، لتتابع الأحداث ، للتواتر ، وعي لبداية الحدث ، ووعي لما سيؤول اليه الحدث ، أي وعي لنتيجة الحدث ، أي هل ما سيحدث بعد ذلك هو المطلوب ، هو المرغوب والمتوقع ، أم ليس لدينا ادراك ومعرفة بالنتيجة لهذا العمل أو ذاك الذي نحن بصدد القيام به ؟
ان عدم الوعي هو العفوية ، هو الجهل بالنتيجة ، هو المفاجئة بالمجهول ، أو كما وصف بول دافيس الزمن ب " تدفق الغامض " .
اذا لم تعي الزمن ، فأنت لا تعي نفسك ، ولا امكاناتك ، ولا تحترم عقلك ، ولا تعي تجربتك ، ولا تجارب الانسانية ، ولا تعرف كيف تصنع ، ولا كيف تخترع ، ولا كيف تٌجدد ، ولا كيف تطور . انك ابن شرعي للعفوية والتخبط .
الزمن الشخصي
يمر الزمن لا اراديا منا ، أي لا يستطيع أحدنا التحكم في الزمن ، ولا جريانه ،ولا تتابع دقائقه ، ولا ساعاته ، ولا أيامه ولا شهوره . والسؤال الآن ما موقفنا من هذا الجريان للزمن ؟ هل نتركه يمر بأحداثه وانقضاء أوقاته رغما عنا ،ونكون سلبيين ساكنين لا نفعل شيئا ؟ أم يسرع كل منا الى ملء الزمن ، أي القيام بالأفعال الهادفة ، الأحداث المرسومة ، فبدلا من قتل الزمن ، يجب اٍحياء الزمن ، بالقراءة ، بممارسة الهوايات التي تنشط العقل ، أو تقوي الجسد ، وقد نرسم خطة لانجاز مشروع ما قد يستغرق من الزمن أكثر من سنة ، ولكن بالنشاط والمثابرة ، قد يمكننا انجازه في تسع شهور . وبالتالي نكون قد كسبنا ثلاثة شهور ، يمكننا فيها من اٍنجاز مشاريع أخرى . وبهذا نكون ملأنا الزمن بأحداث كثيفة ، استطعنا من خلالها تحقيق فوائد أكثر مما لو تركنا الزمن يمر حولنا بمروره العادي العفوي .
وقد يقال أن هذا المدير صغير ، وهذا الطبيب صغير ، وهذا المهندس صغير ، أي أن عمره لا يتناسب مع شهادته أو مركزه . لا اٍنه بمثابرته ووعيه للزمن ، استطاع أن يملأ الزمن بأحداث تجعله يحصل على درجات أكاديمية ويلحق بمن سبقوه بمراحل . فاٍذا عُرف السبب بطل العجب .
في كتاب " كيف تكسب الثروة والنجاح والقيادة " يروي لنا " دايل كارنجي " قصة شاب في الثلاثين من العمر جرى تعيينه مديرا لشركة كبيرة ، فدهش الحضور من تقديم هذا الشاب مديرا للشركة بدلا من المدير السابق أشيب الرأس ، والذي أحيل للتقاعد . وكان هذا الشاب من النباهة بأن حصل على شهادات في الاٍدارة تؤهله للفوز بهذا المركز بالرغم من صغر سنه .
العرب والزمن !!!
هناك من لديهم شعار قتل الزمن ، وسلوكهم اليومي له دعائم في ثقافتهم ، وكيفية ملء التواتر الزمني ، فاكثر ما يشغل تفكيرهم هو الماضي ، والماضي عند العرب هو سيد الموقف ، هو المسيطر على التفكير ، والأدهى والأمر ، هو المسيطر على الحلول لما يواجه العرب من معاضل اجتماعية ، أو شخصية ، وحتى الآن لا يستطيعوا أن يدركوا أن الماضي لا يخلق الدافع للتجديد ، بل للتكرار ، لتكرار المحنط ، القديم ، انه محاولة لبعث من في القبر ،وحل أي اشكالية اجتماعية ، أو سياسية ، أو اقتصادية ، أو فكرية ، فيجب مناسبتها مع الماضي ، اذا اختلفتم في شىء فردوه الى القبور .
ان هذا المسلك الحياتي موجود عند العرب ،والملاحظ أنه لا يمكن منطقيا ولا فعليا فصل العرب عن المسلمين في المنطقة الجغرافية من المحيط الى الخليج ومن لف لفهم من الجيران الجغرافيين أو السياسيين . والسبب الرئيسى هو ثقافة المجتمع المستوحاه من التاريخ الديني الممتزج بالقدرية، فما يحدث ليس من صنع الانسان ، بل من صنع القدر . ولا يعرفون تاريخ غيرة ، ويأخذون منه كل شيء ، ولا يشعرون بأنهم يحتاجون لغيره ، رغم اعترافهم بانحطاطهم وتخلفهم ، وثقافتهم لا تعير الزمن أي انتباه ، فالزمن عندهم هو تواتر صلواتي ، وتواتر قدري ، لا أكثر ،وانعدمت لديهم ليست القدرة على التغيير ، بل الرغبة في التغيير ، وليس به أي تساؤل ولا محاولة لتشغيل العقل . وليس لديهم لا السؤال : لماذا نحن هكذا ؟ ولا الجواب ..
ان الزمن هو : الماضي ، والحاضر ، والمستقبل .
أي ما هو الموقف من الماضي ؟ أي ماذا نقبل ، ماذا نرفض ؟ ماذا ممكن أن ينفعنا في هذا العصر ، ماذا لو أننا تمسكنا به أضر مسيرتنا التعليمية والتطويرية والبنائية ؟ ليس من منطلق الفتاوي ، بل من منطلق الحاجة الفعلية لهذا الشيء ، أو ذاك ، لهذه الطريقة أو تلك .
والحاضر ، ماذا يوجد في الحاضر غير مرغوب فيه ؟ تنظيم المجتمع ، التطور العمراني ، طبيعة السكن الرأسي ،وتنظيم المدن ،من طرق ومتنزهات ، ووسائل ترفيهية تربط الأجيال ببعضها ؟ وسائل المواصلات المشتركة ، أم هناك اعتراض عن ماذا يلبس هذا الجيل ، أو الفتاة في الروضة .
وبهذا نلاحظ أن النقد من منطلق الماضي لا يترك صغيرة ولا كبيرة الا وأفتى فيها بفتوى الرفض ، ولا يدرك بهذا أن جميع مظاهر الحياة من لبس وتفاعل اجتماعي وثقافي هي مظاهر مرتبطة بتطور المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وفكريا، وبالتالي فاٍن فتاوي الرفض تجعل الناس يعيشون في حالة من الشعور بالذنب والانحسار عن التفاعل الاجتماعي .
والمستقبل ، فالمستقبل هو وعي الزمن ، هو معرفة كيف سيأتي الزمن ، ما هي الخطط التي تجعلنا نعرف أن الأحداث ستأتي وفق المطلوب ولو بنسبة معقولة ، أي يأتي بشكل تكون فيه الأضرار أقل ما يكون .
ان من يرفض الحاضر وجميع مظاهره المدنية والمادية ، من تكنولوجيا وحضارة وعمران وعلاقات اجتماعية وسياسية وتنظيم دولة ونظم حكم ، لن يستطيع أن يرسم خطة لمستقبل أفضل ، وسيبقى أسيرا لفتاوي الماضي ، ويدخل نفقا مظلما من الصراع الفكري والاجتماعي والديني الى مالا نهاية .
ان التاريخ يعلم أن الصراعات الدينية هي الأكثر تدميرا لمقدرات الشعوب وحضارتها .
من هنا فقد العرب المقدرة على تشخيص ما هم فيه من معاضل اجتماعية وتفكيرية ، رغم معرفتهم بانحطاطهم وتأخرهم الاجتماعي والسياسي .
وبالتالي فاٍن موقفهم من الزمن ، هو اللامبالاه ، اللامبالاه اتجاه التسارع الحضاري ، ومحاولة التمايز الحضاري ، وهذا تعبير بأشد ما تكون الصورة عن العجز في التكيف الحضاري ،بل والمجاهرة بمعاداة المظاهر الحضارية ، بدعوى أن العرب أمة مميزة ومتميزة بالتدين ،وأنهم خير أمة أٌخرجت للناس .
ان هذا الفهم قد وضع العرب في اشكالية صعبة ، وهي عدم وعي الزمن ، حيث بهذا اٍفتقد العرب الدافع للتجديد ، وجعلهم امة استهلاكية ، عالة على البشرية ، فكل ما يستخدمونه ليس من صنع أيديهم ، من سيارات وطائرات وأدوات ،وحتى الألبسة التى يلبسونها ليست من صنع أيديهم ، بل من صنع غيرهم ، حتى العمران والبنيانات ذات الفن الهندسي هي من نتاج وتطبيق لنظريات هندسية ليست من ابتكار عقول عرب ومسلمين .
والمشكلة الثانية هي غرقهم في الحضارة الناعمة ، واستخدامهم لثورة الاتصالات بشكل خاطىء ، وهي قتل الزمن ، والمتعة الزائفة .
والمشكلة الثالثة هي : ميوعة الالتزام بالحقيقة. وهذا يعود الى القهر الذي تعيشه أجيال هذا العصر . فالجيل واقع تحت جملة من الضغوطات والقيود القهرية التي لا تترك له فرصة التفكير السليم ، ومن أمثال ذلك البرامج المرئية والمسموعة والتعليمية ،وفوق كل هذا سوط الفتاوي التي تطلق يوميا أسرع من طلقات بندقية ، فتنقلها وسائل الاعلام بالصوت والصورة والمقال والخبر ، وكل هذا لا يضع للزمن أي اعتبار ، وفوق كل هذا يزيد من حالة التشتت العقلي التي تعيشها الأجيال .
التعليقات (0)