ندرت التعليقات الخاصة بوفاة "بن عويز شامير" رئيس قسم المعلومات الخارجية في الشاباك، أقوى جهاز استخباراتي ٳسرائيلي، بعد التفجير في شارع الروضة بساعات ونقل جثته "من النمسا" حيث كان من المفترض أنه توفي فيها، ٳلى ٳسرائيل التي أكدت وفاته، هذه الوفاة التي كان البادئ بٳذاعتها هو التلفزيون النمساوي.في المقابل، أكثر التعليقات التي تلت عملية الاغتيال الناجحة في 18 تموز توقفت عند وفاة السيد "عمر سليمان" رئيس المخابرات المصرية السابق بعد التفجير بيوم، مما يدفع للتساؤل عن سبب "غزارة" التعليقات الصحفية حول وفاة السيد "سليمان" مفترضة أنه كان في مكتب اﻷمن القومي وقت التفجير، في مقابل اللامبالاة التي أحاطت بوفاة المسؤول اﻹسرائيلي وهي في رأينا أهم بما لا يقاس.
السيد "عمر سليمان" توفي في كليفلاند بأمريكا وعاد جثمانه ٳلى القاهرة بشكل علني وأقيمت له جنازة رسمية. لو كان الرجل توفي في دمشق، لكان ٳعلان وفاته تأخر أكثر دون ٳثارة الشبهات. حتى لو كان السيد "عمر سليمان" في دمشق، وهو الرجل العسكري الذي يحترم قيادته، لكان بٳمكاننا اعتبار أن المجلس العسكري المصري هو من كلفه بالذهاب لدمشق ولكان جثمانه عاد مباشرة ٳلى القاهرة دون الحاجة للمرور بأمريكا ولكان المجلس العسكري المصري قد "لفلف" الموضوع بمعرفته. من المستبعد ٳذاً أن يكون الرجل قد توفي في دمشق ولو لم يكن هذا اﻷمر مستحيلاً.
هل وفاة المسؤول اﻹسرائيلي "شامير" في النمسا لها علاقة بالتفجير في شارع الروضة ؟ وهل مات الرجل فعلاً في تفجير دمشق ؟ هناك مجموعة من القرائن تصب في هذا الاتجاه.
في عالم المخابرات، من النادر الحصول على أي دليل، فلا دليل مادياً على أن "الموساد" هو من قتل "المبحوح" مثلاً مع وجود صور للفاعلين، فليس هناك من طريقة ﻹثبات أن هؤلاء يعملون مع الموساد ! أجهزة "الموساد" و"الشاباك" ليس لها من وجود "رسمي" في سجلات الحكومة اﻹسرائيلية !
الدليل، في علم الجريمة، هو ما يتركه المجرم سهواً، بالخطأ أو لعجزه عن ٳخفائه ويدل في النهاية على شخصه بما لا يدع مجالاً للشك. في عالم الاستخبارات، الامكانات هائلة و نسبة الخطأ ضئيلة للغاية فهناك من يحضر للعملية ومن ينفذها ومن "ينظف" موقع الجريمة بما لا يترك دليلاً دامغاً وهناك من يتأكد من حسن التنفيذ، فالعمل الاستخباراتي ليس للهواة ولا للانفعاليين بل هو للدول والمؤسسات الراسخة.
في حالة "بن عويز شامير" والاتصالات الٳسرائيلية مع نظام اﻷسد لن نجد، في أحسن اﻷحوال، سوى "قرائن" حمالة أوجه، أما اﻷدلة فسوف يعثر عليها الثوار في قصر اﻷسد حين يسقط النظام، ما لم يقم هذا اﻷخير بتدميرها قبل سقوطه على "سنة" الراحلين صدام والقذافي.
من القرائن على التعاون الأسدي اﻹسرائيلي هو ما ذكرته في مقالات سابقة (دولة العصابة) عن لقائي مع خبير ٳسرائيلي في علم الجريمة وعلم النفس، أثناء مؤتمر دولي في باريس عام 1998 . الرجل أخبرني أنه زار دمشق عدة مرات بلبوس الكتيبة النمساوية العاملة ضمن قوات الفصل في الجولان وقابل مسؤولين سوريين كانوا مدركين تماماً لصفته الرسمية. الخبير اﻹسرائيلي، الراغب في سلام حقيقي بين شعبينا، كان مستاء من نفاق النظام السوري الذي يرفض السلام العلني ويفتح أبواب دمشق سراً لخبراء ٳسرائيليين.
من هنا ترتدي وفاة السيد "بن عويز شامير" واﻹعلان عنها "في النمسا" أهمية خاصة، فهذا قد يكون قرينة على أن الرجل ربما قد قتل في دمشق في تفجير مركز اﻷمن القومي وأن جثته نقلت ٳلى النمسا، عراب الاتصالات الأسدية اﻹسرائيلية منذ سنوات، وذلك لعدم وجود قناة أخرى لنقل الجثمان. قرينة أخرى هي أن السفارة النمساوية "تنبهت" بعد ساعات من تفجير شارع الروضة ٳلى أن دمشق قد أضحت مدينة غير آمنة وقامت بٳخلاء موظفيها وعائلاتهم، مع "عفشهم" وأمتعتهم، على جناح السرعة ليلة 18 تموز!!
كيف وصل "بن عويز شامير" ٳلى دمشق ؟
بعدما فضحنا أمر وصول خبراء ٳسرائيليين ٳلى دمشق عبر خطوط فصل القوات في الجولان بالتعاون مع الكتيبة النمساوية في قوات الفصل، وفي وجود حواجز للجيش الحر على الطريق بين الجولان ودمشق، قد يكون اﻹسرائيليون هجروا هذا اﻷسلوب الذي أصبح غير آمن و استعملوا خطوط الطيران الدولية بجواز سفر مزور للوصول ٳلى دمشق عبر مطارها.
حتى لو كان "شامير" قد وصل ٳلى دمشق بلباس الكتيبة النمساوية، مخاطراً بأن ينكشف أمره، فعودته كجثة هامدة عبر مواقع قوات الفصل في الجولان هو أمر من المستحيل تمريره ! فلو كان الفقيد نمساوياً فلن يعود ليدفن في الجولان ! ولو كان "جولانياً" لكان مرافقوه من أهل المنطقة ولديهم وثائق رسمية وتصاريح دفن ونقل جثمان، يحتاج استصدارها لوقت ولتعاون ٳدارات رسمية قد تكون مخترقة وهو أمر غير مأمون العواقب في الوضع الراهن.
لنتصور أن حاجزاً للثوار فتش سيارة من سيارات قوات الفصل ووجد فيها جثة ! في هذه الحالة سيكون لدى الثوار الدليل الدامغ على صحة أقوالنا حول "التعاون" اﻷسدي الصهيوني. كان اﻷمر سيكون هدية من السماء للثوار ودليلاً على خيانة اﻷسد وعلى غباء وعدم احترافية "الشاباك".
مالعمل ٳذاً وكيف التخلص من جثمان الفقيد ؟ هل كانت ٳسرائيل ستقبل بدفن عميلها رفيع المستوى في قبر جماعي في دمشق ؟ بالتأكيد لا.
هنا يأتي دور "اﻷصدقاء" في النمسا والذين وجدوا الحل في تسفير موظفي سفارتهم في دمشق مع عائلاتهم وأمتعتهم على جناح السرعة. هذه اﻷمتعة، بما فيها "العفش" ستخرج في صناديق هي "حقائب" دبلوماسية لا يتم تفتيشها لا في المغادرة ولا في الوصول...هكذا، على اﻷرجح، وصل جثمان الفقيد ٳلى ٳسرائيل، بعد المرور في النمسا، داخل صندوق محكم اﻹغلاق.
بقي أمر ٳعلان الوفاة، بعدما ذاع خبر وفاة المسؤول اﻹسرائيلي ووصوله عبر النمسا، شاعت حالة من الارتباك في صفوف مسؤولي الاستخبارات اﻹسرائيلية. أشيع أولاً أنه قتل في العملية اﻹرهابية في بلغاريا.... تنبه اﻹسرائيليون سريعاً ٳلى أن ذلك سوف يضعف سمعة "الشاباك" ويقوي سمعة "حزب الله" الذي "اصطاد" المسؤول اﻹسرائيلي الذي كان "يصيف" مع سواح عاديين في بلغاريا. ثم ٳن اتهام حزب الله باغتيال مسؤول ٳسرائيلي رفيع كان سيفرض على ٳسرائيل الانتقام من الحزب وضربه في لبنان، بما يمنع زعران "حسن نصر الله" من مد يد العون للصديق المشترك "بشار" في دمشق !
اضطر اﻹسرائيليون ،لتلافي النتائج الكارثية لهكذا ٳعلان، ٳلى التأكيد أن الرجل توفي في النمسا ولم يكن في عداد ضحايا الباص في بلغاريا.
السؤال اﻷهم هو : ماذا كان يفعل "بن عويز شامير" في دمشق ؟ وما الهدف من التنسيق اﻹسرائيلي اﻷسدي الحالي ؟
الجواب على هذا السؤال جاء بعد يومين من التفجير، على لسان الناطق باسم الخارجية السورية "جهاد مقدسي" الذي اعترف علناً ليس فقط بوجود أسلحة تدمير شامل كيماوية وجرثومية لدى النظام السوري، بل وهدد باستعمال هذه اﻷسلحة "ضد أي عدوان خارجي" رغم أن لا أحد هدد نظام العصابة بالتدخل ! استطرد الرجل قائلاً، بما يفسح المجال للنظام كي يستعمل هذا السلاح ضد شعبه، أن "لديه معلومات مؤداها أن العصابات المسلحة تنوي استعمال أسلحة محرمة وٳلصاق التهمة بالنظام السوري..."
هذا التصريح والذي يستحيل فهمه من المنظور السياسي أو الدبلوماسي والذي اعتبره القاصي والداني قمة في الحماقة من قبل النظام، ليس من الممكن استيعابه خارج ٳطار العلاقة الحرام بين نظام اﻷسد و"العدو" اﻹسرائيلي.
لنتذكر أن اﻷمريكيين قصفوا مواقع في السودان للاشتباه أنها "قد" تستعمل كمواقع ﻹنتاج أسلحة كيماوية و أن تحالفاً دولياً تقوده الولايات المتحدة قام بغزو العراق لمجرد "الشبهة" في حيازة صدام حسين ﻷسلحة من هذا النوع ولم يجدوا لها أثراً بعد الغزو. أفلا يخشى اﻷسد من التعرض لغزو خارجي حين يصرح بامتلاكه لأسلحة كيماوية وجرثومية ؟ علماً أن هذه اﻷسلحة موجهة أساساً ضد المدنيين ﻷن العسكريين، خاصة قوات الناتو، لديهم المعدات والتدريب بما يتيح لهم حماية أنفسهم. هذه اﻷسلحة قادرة على ترويع المدنيين وقتلهم بالجملة في غياب أقنعة واقية، لكنها، على عكس السلاح النووي، ليست قادرة على رد غزو خارجي أو ردع أي اعتداء تقوم به قوة متفوقة عسكرياً.
قد نظن أن اﻷسد يصرح بوجود أسلحة كيماوية لديه لتهديد "تركيا" وردعها عن التدخل مباشرة على التراب السوري. لكن تركيا صرحت أكثر من مرة أنها لا تنوي الدخول عسكرياً ٳلى المستنقع السوري الذي سيكون مصيدة لها ويفتح على اﻷتراك أبواب الصراع المفتوح مع ٳيران واﻷهم مع الشبيح الروسي الحليف للأسد والذي ينتظر أي خطوة خاطئة من "اردوغان".
هذا التصريح ليس ٳذاً موجهاً لردع اﻷتراك الذين لا ينوون التدخل ويخشون من عواقبه حتى دون سلاح كيماوي، فهل هدف التصريح هو "تخويف" اﻷمريكيين ؟ ٳن كان هذا هو الهدف فالنتيجة عكسية، ﻷن اﻷمريكيين بعيدون جغرافياً عن سوريا والتصريح السوري بوجود أسلحة تدمير شامل يشكل "دعوة" للأمريكيين للتدخل في الشؤون السورية. رد الفعل اﻷمريكي على الاستفزاز اﻷسدي كان أكثر من فاتر، فاﻷمريكيون كرروا قولتهم المأثورة "أيام اﻷسد باتت معدودة، وعليه أن لا يستعمل أسلحة محرمة" دون التهديد بالتدخل مثلما فعلوا في العراق.
هل ٳسرائيل هي المقصودة بالتهديد ؟ لكن لماذا يهدد اﻷسد ٳسرائيل ؟ هذا لا يستقيم مع فرضية وجود مسؤول كبير في الشاباك في دمشق واجتماعه بمسؤولين أمنيين في "خلية اﻷزمة" التي تدير معركة النظام مع الثوار! ثم ماذا تقدر ٳسرائيل على فعله لحماية نظام اﻷسد ولم تفعله ؟
ٳسرائيل قامت بكل ما تقدر عليه لدعم نظام اﻷسد، على الرغم من وجود احتكاكات سابقة بين ٳسرائيل وبين نظام العصابة في دمشق بخصوص ارتماء النظام الكامل في أحضان "ٳيران" بما يهدد باﻹخلال بتوازن القوى بين نظام الملالي في طهران والنظام العنصري في "تل أبيب".
ٳسرائيل فعلت كل ما في وسعها لضمان أن يستعمل صديقها "بوتين" الفيتو لضمان استمرار اﻷسد في القتل دون أن يزعجه أحد ودون الخوف من مواجهة القضاء الدولي. ٳسرائيل قدمت للنظام النصائح الاستراتيجية وعلمت قوات اﻷسد كيف تستعمل ذات تكتيكات "زملائها" في جيش الدفاع اﻹسرائيلي في المخيمات الفلسطينية وفي غزو الضفة الغربية. ٳسرائيل استعملت كل نفوذها لدى الغرب ولدى اﻷمريكيين خاصة لمنعهم من مساعدة الثوار أو التدخل عسكرياً والحد من معاناة السوريين.
ٳسرائيل وجدت نفسها مضطرة للتساهل مع غريمها اﻹيراني من أجل ٳنقاذ صديقهما المشترك "بشار" واضطرت لخفض صوتها وتهديداتها وحتى تحريضها للأمريكيين من أجل ضرب المشروع النووي اﻹيراني لكي تبقى ٳسرائيل وحدها كقوة نووية في المنطقة.
ٳن كان اﻷسد بتصريحه "أن لديه أسلحة كيماوية سيستعملها في حالة الغزو الخارجي" ينوي تهديد ٳسرائيل فهو في هذه الحالة سيكون مثل الذي يطلق النار على قدمه ! فٳسرائيل مثلها مثل ٳيران، حليفة للأسد واﻷسد ليس مجنوناً لكي يهدد أصدقاءه القلائل.
ما الغرض من هذا التصريح ٳذاً ؟
الجواب جاء على لسان "ايهود باراك" ورئيسه "نتنياهو" الذين أكدا "أن ٳسرائيل تتابع عن كثب اﻷحداث في سوريا وسوف تتدخل بكل الوسائل ٳن رأت أن أمنها مهدد وأن أسلحة اﻷسد الكيماوية قد تقع في أيادٍ غير مسؤولة !!..". بما معناه أن هذه اﻷسلحة الموجودة حالياً بحوزة قوات اﻷسد هي في "أيد صديقة"...
حين يصرح اﻷسد أن لديه أسلحة كيماوية فهو يعطي مبرراً ﻹسرائيل كي تتدخل "على هواها" في سوريا بحجة حماية نفسها، والعالم، من أسلحة التدمير الشامل السورية. هكذا ستجد ٳسرائيل "دوافع مشروعة" للدخول بشكل مباشر وصريح على خط اﻷزمة السورية وسوف يتم تفسير هذا التدخل على أنه "لمنع وقوع أسلحة خطرة في يد حزب الله".
بتصريحه هذا، يعطي اﻷسد "ترخيصاً" ﻹسرائيل لمساعدته عسكرياً وربما ﻹنقاذه في حال لم تسر اﻷمور كما يشتهي حلف الشر الروسي- اﻹيراني- اﻹسرائيلي.
هكذا، سوف تتمكن ٳسرائيل من "ٳخراج" رجلها في دمشق، ٳن اقتضى اﻷمر ذلك، وتضمن عدم وقوعه في أيدي الثوار لكي لا تتم محاكمته و "يفضح المستور" ولكي لا يكتشف السوريون، والعالم، حقيقة أن ٳسرائيل شريك كامل في جرائم النظام اﻷسدي منذ وصول اﻷسد اﻷب ٳلى السلطة.
لو كنت مكان "بشار اﻷسد" فلن أثق بالوعود اﻹسرائيلية مهما بدت صادقة، وسأتجه مباشرة ٳلى طهران دون الحاجة ٳلى خدمات "الترانزيت" غير آمنة العواقب التي يعرضها الصديق اﻹسرائيلي، فٳسرائيل لها مصلحة في ضمان طي صفحة تعاونها اﻷسود مع جلادي دمشق في قبر مجهول، ولن تخاطر بسمعتها الدولية من اجل عيون اﻷسد الزرقاء.
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog ahmadshami29@yahoo.com
بيروت اوبسرفر : الخميس 2 آب 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=80561:2012-08-02-00-43-54&catid=39:features
التعليقات (0)