الدين هو استنساخ المجهول ، استجلاء المجهول ، استعطاف المجهول ، وأحيانا استعداء المجهول ضد مظاهر الحياة التي يعجز الانسان عن مواجهتها بنفسه . واندفع الانسان في هذا التوجه بسبب الخوف من مظاهر الطبيعة من برق ومطر ورعد وأعاصير وزلازل وفيضانات ، ومحاولة اتقاء شرها . وتلعب الأحلام دورا كبيرا في كيفية تشكيل ، استنساخ المجهول ، فكل شعب يستنسخ المجهول حسب ظروف معيشته ، وحسب موقعه الجغرافي ، فساكني شواطىء البحار والأنهار و الذين ترتبط حياتهم بالزراعة لهم آلهه مستوحاة من الماء وهيجان البحر وفيضان الأنهار والفصول ، كما في مصر حيث ارتبط تصورهم للآلهه بالنيل وجريانه وفيضانه والفصول , فظهر أوزوريس واٍيزيس . و كذلك ساكني الصحراء ، فكانت الحجارة والأشجار هي الاٍشارات الدالة لهم في الصحراء الواسعة و هي التي توحي لهم بالمجهول فكثرت آلهتهم وتعددت بتعدد أشكالها ، فكانت اللات والعزى ومناة وهًبل والأًقيصر ، وكذلك ساكني الجبال ، فكل جبل له شكل يختلف عن الآخر وكل جبل يوحي بأنه يخفي خلفه شيئا ما غير مًدرك الصفات ، طولا وعرضا وشكلا ، فتعددت الآلهه لديهم كما في اليونان القديمة .
ان تعددية الآلهه هو مظهر طبيعي ومرتبط بمستوى تفكير الناس وتصورهم عما يقع تحت مدركاتهم الحسية من مظاهر الطبيعة ، وتكشف مقدرة العقل البشري آنذاك أن يضع أسبابا وتصورا لهذه المدركات الحسية عما حوله ، في ظل الحياة البدائية التي كان يعيشها .
ان الآلهة المشخصة على تعدد أشكالها قد اكتسبت صفة القداسة وحلت محل ا التخيلات المجهولة ، وأصبحت الوسيلة لاٍستجلاء المجهول ، لاسترضاءه وكسب مودته بل واستعداءه ضد الأعداء عن طريق الطقوس والقرابين التي تعددت واختلفت في طرائق تأديتها من شعب الى آخر ، فليس هناك من اله مشخص أو غير مشخص له نفس الطقوس التي للآخر . وبتكرار هذه العبادات والطقوس والتي تناقلتها الأجيال في كل شعب من جيل الى جيل تكتسب قوة المقدس و يصبح من الصعب التنازل عنها والتخلص منها ، حيث قوة الميراث عن السلف والآباء .
ان قوة الميراث هي من أكبر العوائق التي تقف حائلا أمام اكتساب الجديد ، وهذا ما يكشف ردة الفعل القوية لدى قبائل شبه الجزيرة العربية حينما أعلنوا رفضهم للدعوة المحمدية التي تدعوهم الى التخلي عن عبادة آلهتهم المتعددة والتوجه لعبادة اله واحد غير مشخص ، فهم لا يتصورا اله غير مشخص لا يستطيعوا أن يقفوا أمامه ويقوموا بطقوسهم ويقدموا له قرابينهم عند الحاجة له . وقد حدث هذا الر فض عند اليونان القديمة قبل ألف سنة من ظهور الاٍسلام حينما رفض سقراط تعدد الآلهه ، فاتهم بأنه يضلل الشباب الأثينيين ويبعدهم عن دين الآباء ، فحكموا عليه بتجرع السم .
اٍن الدين التعددي المشخص كان له أسبابه الاٍجتماعية ومرتبط بمرحلة من مراحل التقدم الاجتماعي والنضوج العقلي والنفسي للاٍنسان ، حيث أن تعدد القبائل في شبه الجزيرة العربية قد أوجد بل وفرض التعددية في التشخيص ، والتعددية في الطقوس . ان التطور الاجتماعي والفكري للانسان قد تخطى مرحلة الاٍله المشخص عند بعض الشعوب ، كما أن الدين التوحيدي له أسبابه المرتبطة بمرحلة من تطور المجتمع الانساني الاجتماعي والاقتصادي والفكري والسياسي . فنظام حكم الفرد الواحد يحتاج الى الاٍيمان بالاٍله الواحد الوحيد القوي القادر الغني المتفرد في الحكم دون مشاركة من أحد . وأحيانا كان الملك أو الحاكم أو الولي أو السلطان أو فرعون يدعو الناس لاعتباره الاله أو ممثل للاٍله . وقد يستغل الاختلاف في الدين والمقدس كوسيلة لاستعداء الشعوب على غيرها ، فكانت الصراعات الدينية هي الأكثر تدميرا في حياة الشعوب .
ان المجتمع الانساني يدخل مرحلة من تعددية الآراء والمعتقدات والأحزاب ، وأحيانا في داخل المجتمع الواحد ، فلكي يسود السلم الاجتماعي لا بد من التعايش بين الأديان وأن يتعود الناس على تقبل الآخر المختلف معه في المعتقد الديني والرأي السياسي ، وبالتالي تنضج نزعة السلوك التعايشي والأخلاق التعاونية الحضارية وتحل محل التمحور والتعصب للمقدس .
التعليقات (0)