" أكتب لأنني لا أستطيع أن أتحمل الحقيقة وحدي " ، " أورهان باموك " الأديب التركي الفائز بجائزة نوبل للآداب .
فكرت كثيرا في جواب السؤال : لمن أكتب مقالاتي ؟ فكانت الأجوبة تترى لا أعرف أيها أختار منها .
هل أكتب مقالاتي لمن يحب المعرفة والثقافة و لمن يجد المتعة في التعرف على المعرفة الانسانية حتى تنكشف لهم أجوبة عن وجودهم على هذه الأرض ، بل و معنى وجودهم في مجتمع إنساني و لتذكية طموحهم نحو الأفضل .
أم أكتب مقالاتي لأصحاب العقائد الدينية ودعوتهم الي الإطلاع أكثر لمعرفة أن الدين وُجد لخدمة الانسان وأن يكون لديه الوعي والالتزام الحضاري.
أم أكتب مقالاتي لطبقة الفقراء لكي يعرفوا سبب فقرهم ، وكيف يتخلصوا من هذا الفقر .
أم أكتب مقالاتي للأغنياء الذين كل همهم مراكمة الثروة والاستمتاع بتكديسها، قائلا لهم أن هذا السلوك يظلم الآخرين ، فما زاد في كفة الا نقص من غيرها .
أم أكتب مقالاتي لمن يعيشون في ظل حكم فردي أو عائلي أو دكتاتوري يسيطر على الدخل الوطني ، لكي يعرفوا الوسائل للتخلص من هذا الحكم الجائر .
أم أكتب لمن يحبون العلم وينتظروا بلهفة كل جديد في المكتشفات العلمية ،و الاستزادة من الوعي العلمي الذي يرشدهم الي الحقيقة وينمي لديهم الجرأة للتخلص من ما تلقوه من المناهج في المدرسة عن طريق التلقين و التحفيظ من أجل النجاح .
أم أكتب بطريقة منهجية لخلق دافع للقارئ للبحث ولتنمية الرغبة للمعرفة وحب العلم وخلق مناخ للفهم العلمي .
أم أكتب لتدعيم نظام اجتماعي واقتصادي أرى أنه يلبي طموحات الشعوب نحو التحرر من كل ظلم .
أم أكتب داعيا للوعي العلمي والالتزام بالحقيقة التي يركن اليها العقل والتخلص من الخرافة المبنية على الجهل و اللامبالاة .
أم أكتب لمن يريد أن يعرف كيف يتحرك الزمن وكيف تتراكم الأحداث ضمن قوانين شاملة تكشف لنا كيف تتطور أشياء الطبيعة والمجتمع والتاريخ والتفكير الانساني .
أم أكتب لمن لديهم الكثير من التعنت المشحون بالتخويف من الموت وعذاباته . والدعاة الذين يحشرون المقدس واسم الله بسرعة في أقل المواضيع أهمية ، والذين ينصبون أنفسهم خارج القانون كوعاظ و شرطة دينية وأخلاقية .
والسؤال من أعطاهم هذا الحق ليكونوا كذلك ؟
إن هؤلاء يؤمنون بالدين الشكلي وليس بالدين كمعاملة ، الدين كفهم ، الدين كعلاقة نقية بين العبد وربه ، الدين هو العزاء للإنسان في الدنيا و الاخرة ، وأن الدين صالح لكل زمان بالتكيف مع روح العصر في تنظيم وتركيب المجتمع .
أم أكتب لمن يؤمنون بأن الحقيقة المطلقة وصلتنا دفعة واحدة ، ولا تُعرف بالتدريج ، وما الغاية من وجودنا غير الالتزام بها لأنها هي طريق سعادتنا في هذه الدنيا .
أم أكتب لمن يحب الفلسفة ولديهم حالة من الاندهاش تثير لديهم العديد من الأسئلة التي لم يسعفهم ما لديهم من معرفة في الاجابة عليها ، لهذا فهم في حالة بحث ومحاولة لتنمية وتنظيم وتنقية معارفهم عن الطبيعة والحياة والمجتمع والتاريخ .
أم أكتب لمن يريد أن يعرف كيف يسير التاريخ من الأدنى الى الأعلى مدفوعا بقوانين التضاد والتراكم التجديدي و نفي النفي في طريق أبعد أن يكون مستقيما بل متعرجا وحلزونيا متصاعدا دوما ، وما حالات التباطؤ والسكون إلا حالات نسبية مؤقتة .
أم أكتب لمن لا يرى أن التاريخ الاجتماعي الإنساني هو مراحل تتفاوت في مدتها الزمنية ، وأن كل المجتمعات البشرية قد سارت من مرحلة الوحشية الي البربرية الي الانسانية التي أفرزت الإنسان عن الحيوان عندما تطورت لغته ووعيه ، فسن قوانين اجتماعية وأخلاقية .
وأن التاريخ مراحل كشفت لنا طريق طويل من المشاعية البدائية الي مرحلة العبودية فالإقطاع فالرأسمالية وصولا الى مجتمع الكفاية والعدل.
أم أكتب لمواطن اضطره القهر والديكتاتورية لمغادرة وطنه ، داعيا إياه أن يعود الى وطنه ، لأنه حدثت تغيرات في البلاد ، وزال القهر وسادت الحرية والديمقراطية ، وعليه ألا يتخلف عن المشاركة بفعالية في بناء البلاد .
وهل أكتب لشعب ليس لديهم دستور ، ولا عقد اجتماعي مع الجالس على الكرسي ، وأدعوهم الى أن يكون لهم دستور ينظم حياتهم وعلاقاتهم مع جهاز الدولة بما يضمن كرامة الانسان وحريته وطموحاته .
وهل أكتب لشعب لا تنطبق عليه مواصفات شعب ، ولديهم من الفلتان الأمني والقانوني وتفشي العائلية والتكتلات والبلطجة ما يجعل الفرد العادي يعيش في حالة من الخوف وعدم الأمان على ماله وحياته وأولاده ، داعيا لهم أن يلتفوا حول الأحزاب الأكثر تنظيما وانضباطية ليأخذوا زمام المبادرة للتغيير .
وهل أكتب لشعب داعيا إياه أن ينتبه للأحزاب التي تؤمن بالحرفية الحزبية في الادارة والتوظيف مهملة مبدأ تكافؤ الفرص ، ولا تعترف بمفهوم المواطنة للجميع في البلد الواحد .
وهل أكتب لشعب ليس لديهم صحافة متعددة المنابر ، وكل شيء يعتبر من الأسرار العسكرية ، وبهذا تختفي النواقص وتتراكم الأخطاء دون اصلاح ، والشعب يعيش في حالة من الجهل والعزل والضياع .
وهل أكتب لمن لا يعرفون أن حرية الكلمة ، وحرية الرأي حق لا يجب المساس به ، وأن لكل مواطن الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو بالكتابة ، أو غير ذلك من وسائل التعبير ، وأن هذا وارد في الدستور ، والذي يمنع فرض القيود عليها .
وأتساءل : كيف يبيح أي شخص لنفسه بإسم أي سلطة زمنية أو دينية أن يكون وصيا على عقول الآخرين من أبناء شعبه ، لا لشيء إلا لمجرد اعتقاده أنه هو على صواب وهم على خطأ ، أو هو على حق وهم على باطل ، أو أن لهم توجهات حزبية تختلف عنه .
وهل أكتب لضابط أمن المنشورات الذي يتصيد كلمة في هذا المقال أو ذاك التصريح ، أو تلك المناقشة لكي يعطي أوامره لكسر ذاك القلم أو اغلاق ذاك الفم وتقصير ذلك اللسان . داعيا ذلك الضابط أن يتذكر أن ليس بهذه الوسائل تُخدم الأوطان ، وأن الشعوب المتحضرة ما وصلت الى هذا إلا بإشاعة الحرية والنقد والنقد الذاتي .
وهل أكتب لمن هم في يدهم تقرير المناهج المدرسية للجيل ، لألى يجعلوا من التلقين والصم والحشو الآلي وسيلة لتعليم النشىء المعارف ، بدلا من الفهم ، وأن اشاعة التفكير والنقد والتساؤل هو الوسيلة التي تربي الجيل على المعرفة الحقيقية النافعة ، والتي لها مردود فعلي في التربية والبناء والتطوير .
ان التلقين والصم هو إلغاء للعقل ، هو إلغاء لإمكانية التفكير ، هو تعطيل لملكة النقد والتساؤل ، ولها انعكاسات سلبية في تخريج جيل من البصمجيين السهلي الانقياد ، والذين ممكن استخدامهم لأهداف ليست ضد شعبهم ودينهم فقط ، بل وضد انفسهم . فكثير من الأنظمة الديكتاتورية اعتمدت هذا الاسلوب فخلقت أجيالا من الشباب ، واستخدمتهم لتركيز بقائها في الحكم لعقود طويلة .
وهل أكتب لتاجر يتصيد التوترات وينشر الدعايات الاقتصادية والاجتماعية التي ستجعل البضاعة المكدسة في مخازنه تدر عليه أرباحا اسطورية ، قائلا له أن هذا لم يقره ، لا أخلاق انسانية ، ولا دين ولا قانون وضعي .
وهل أكتب لمن لديه آراء ووجهات نظر تختلف عن الآخرين ، أن لا يلجأ الى الاتهامات اللا أخلاقية والمروق والهرطقة ، أو التهديد بالعنف . وعليه أن يلجأ الى الاسلوب الحضاري بمقارعة الحجة بالحجة ، وطرح الفكرة مقابل الفكرة ، وأن يؤمن بأن الاختلاف في الرأي طريق الى الصواب ، لا الى الحرب ، طريق الى البناء ، لا الى الهدم .
لقد تداخلت عندي الإجابات على هذا السؤال حتى أنني لم أستطع أن اكتفي بإجابة واحدة شاملة تشفي الغليل .
أخيرا في هذه المرحلة العصيبة ، المرحلة الضبابية في كل شئ في حياتنا بل وفي مفهومنا الذي جرى تشويشه وتسريبه للناس بطريقة تبدو وكأنها مبرمجة أحيانا .
هذه المرحلة تجد الفرد في حالة فقدان اتجاه لما يواجهه من عدم قدرة على فهم الهوية الوطنية ،فقد مل من حالة انتظار الفجر ، ويعيش حالة من القلق الدائم في ليله ونهاره ، في حاضره ومستقبله . وكل فرد يتساءل : متى الخروج من هذا ؟ .
أعود فأقول انني أكتب لكل هؤلاء ، لمن يريد المعرفة ، لمن يحب المعرفة بكل فروعها العلمية والفلسفية و الاجتماعية .
ولكني لا أقصد من كتابتي هذه فئة معينة أو دين معين أو حزب معين أو نِحلة أو طبقة معينة تستهدفها كتاباتي بالنقد المخصص لها ، فكل هذه الفئات وكل الأحزاب لها أدبياتها ومبادئها و تفرعاتها التي تحوي الخطأ والصواب ، وتحوي من النقد للآخر بطريقة أو بأُخرى ، ما لا تتسع له مئات الكتب .
وما نكتبه هو دعوة للتفكير والتمحيص والتدقيق في كل معارفنا ، وهي دعوة لزيادة المعرفة حتى تكون حصيلتنا المعرفية أقرب الى العلم والحقيقة منها الى الخرافة والاسطورة ، فهناك الكثير من الأساطير ، مثلا : هناك من يعتقد أن الزلازل تحدث بسبب أن الأرض محمولة على قرني ثور ، وكلما تنقلت الأرض من قرن الى قرن حدثت الزلازل .
وأيضا ان مثلث برمودا هو مملكة الشيطان ، فمنذ ظهور الديان التوحيدية هرب الشيطان الى مثلث برمودا . ( قوقل – مثلث برمودا مملكة الشيطان ) .
انها دعوة لا تؤمن بالحدود الحزبية ولا القومية ولا العرقية ولا الجنسية ولا الجغرافية ، فهي دعوة لمعرفة ما عرفته الانسانية من علوم عبر تاريخها الطويل في صراعها من أجل البقاء .
انها دعوة لزرع الثقة والوعي ولتنمية الشخصية الفاعلة النشيطة والمشاركة الفعالة لخدمة المجتمع ، انها دعوة لكي يتعرف على حقوقه كانسان .
انها دعوة لممارسة الحرية بوعي بعيدا عن الفوضى التي تثيرها النزعات الفردية الجامحة . وانها دعوة لإشاعة الحرية الفكرية ، فمن تلاقح الأفكار ينتج الأحسن الذي ينتشر لحسنه ويتمسك به الناس ، أما السيئ فيذوي ويضمحل . ان الارهاب الفكري يخلق النفاق والغش والخداع ، ويقتل الابداع والتجديد .
انها دعوة لكل انسان أن يكون شعاره : اطلبوا العلم ولو في الصين ، بدلا من اطلبوا العلم ولو في اطلنطا !!!
قد يقول قائل ان هذه الكتابات ضدنا ، فهو يذكر تاريخنا بسوء .
إن هذا الفهم خاطئ ، فلا نذكر تاريخ أحد بسوء بل نذكر الشيء السيء في التاريخ ، والذي يوافق الجميع على أنه سيء ، لكي لا يتكرر . فمثلا ، حينما نذكر استغلال الدين في التاريخ ، نذكر محاكم التفتيش و صكوك الغفران ، وكيف أن الاستعمار الذي كان شعاره فرق تسد ، قد قسم الهند الي دول لها سمات دينية ، وكيف تكرر هذا في السودان ونرفض القتل باسم الدين أو بسبب الدين كما يجري الآن في ميرامار .
وحينما نذكر أنظمة الحكم نرفض كل نظم الحكم الفردية والدكتاتورية الحزبية وأشباهها مهما اختلفت المسميات ، وندعو الي التعددية والحرية والانتخابات وتحديد فترة الحكم دستوريا .
وحينما نذكر التاريخ نرفض ما فعله معاوية حينما سن التوريث في الحكم بقوة السيف والخديعة ، ونرفض ما فعله ابنه يزيد في موقعة " الحَرة " في المدينة التي راح ضحيتها مئات من صحابة رسول الله وآلاف من الموالي ، واستبيحت فيها العذارى .
ان تاريخ نظام الخلافة ما بعد الخلفاء الراشدين هو اكثر الانظمة فردية ودكتاتورية وتآمرا من أجل السلطة لا يمكن ان تجد خلفها أي وازع ديني .
كما نرفض استغلال الدين في الحروب الصليبية ، وما قامت به كنائس اوروبا من تحريض المؤمنين بالمسيح على تحرير القدس من المسلمين .
كما نرفض احتلال أي بلاد باسم الدين ، أو قتل أي انسان بدعوى دينية وتحت مسميات مختلفة . كما ونرفض تقسيم مواطني الدولة على أساس ديني ، فالمواطنة حق لكل من يعيش في الوطن بغض النظر عن توجهه الديني .
هناك أخلاق لكل أمة ولكل شعب ، وهناك دستور يحدد من خلاله طبيعة الجُرم وطبيعة العقاب . فمعنى ان هذا المجتمع انساني ، أي مجتمع أخلاقي ومحكوم بقوانين ودستور يتم الاتفاق عليه وإقراره اجتماعيا ، ويصبح مُلزم للجميع . وتقوم أجهزة الدولة المنتخبة بفروعها التشريعية والتنفيذية والقضائية بالالتزام بهذا الدستور .
والدستور لا يُؤخذ من دين لوحده أو يخدم أتباع دين معين ، أو فرقة أو نحلة ، أو حزب ، أو طبقة , انه يجب أن يخدم المجتمع بكامل طبقاته وفئاته ومواطني الدولة بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العرق .كما أن الدولة جهاز يقف كبنية فوقية لإدارة شئون المجتمع حسب الدستور ، وليس لها أي صفة مقدسة ، وليست ملك لأحد ولا حزب ولا عائلة ، ولا يمكن وصمها بأي سمة دينية ، أو أيديولوجية .
فلمن أكتب ؟ أكتب لإنسان يعرف قيمة الزمن ، فلا يضيع وقته في الغوص في الكهوف المظلمة من المعارف المشتته للتفكير دون أن يكون معه النور ، العلم ، معيارا للحقيقة التي هي نقيض الضلال والخطأ .
ان الفرق بين الانسان والحيوان هو أن الحيوان يسعى دوما الى ملء أحشائه بالطعام ، وهذا هو هدفه النهائي ، أما الانسان ، فهو يُشبع غرائزه بطريقة منظمة اجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا .
ولا يقف عند هذا الحد ، فهو بحاجة الى الاشباع الروحي العقلي بالمعرفة العلمية الحقيقية التي تخدمه في سكونه وحركته ، فرده ومجموعه كانسان .
ان على البشرية أن تفخر بعلمائها وعقلائها ، وأن على العلماء أن يتذكروا أنهم لا زالوا أطفالا في طريقهم هذا لمعرفة العالم ، ولم يبلغوا سن الرشد بعد ، وأنهم لن يصبحوا كهولا الى الأبد . فالحقيقة لا زالت بعيدة ، وبالعلم نقترب منها رويدا رويدا .
إن نهم العلماء لا يعرف التوقف وعطشهم الى المعرفة وفك طلاسم الوجود لا يرويه جواب واحد ، فمن سؤال الى اسئلة في كل الاتجاهات ، ومن جديد الى جديد في حلقة تصاعدية وتفرعات نامية متطورة في حركة ديناميكية لا تعرف الاستراحة ولا الكلل ن هذا هو فضاء المعرفة الانساني .
أن تكون انسانا علميا ، هو أن تجعل المنهج العلمي والتجربة هاجسك الدائم في التقييم ، في اخضاع كل المنظومة الفكرية التي تعرفها ، كل ما تسرب الى وعيك للتجربة ، وتبدأ من جديد ، انسان علمي جديد ، ذلك أن العلم أكثر من كونه معرفة ، انه طريقة واقعية للتفكير .
التعليقات (1)
1 - فضيحة مدوية
محمود مراد - صحفي - 2013-10-02 11:30:48
فضيحة مدوية: نهاد أبو القمصان زوجة الناشط حافظ أبو سعدة تدير شبكة للدعارة