فرق كبير بين أن تكون "ثورجياً " بدوام جزئي أو "معارض في عطلة منتصف اﻷسبوع " وبين أن تنغمس في الثورة حتى تصبح هذه الثورة هي الهواء الذي تتنفسه و الماء الذي تسبح فيه كما السمكة.
أن تصبح ثورياً يعني ألا تبالي بما تبثه "الجزيرة" أو غيرها، بل أن تكون منتج الحدث وناقله، أن تدفع من دمك ومن وقتك ومالك لكي تسعف ٳخوة في الوطن ولكي تسهم ولو بقسط ضئيل في ٳسقاط الطاغية.
تنسى أن لديك بيتاً قد ينهبه شبيحة اﻷسد، أو مالاً قد ينتهي في جيوب لصوص نظام الممانعة ، تنسى أن سوريا التي تحبها و تراها سائحاً قادماً بالطائرة أو زائراً لمطعم يقدم وجبات لذيذة ، لن تذوقها قريباً ، سوريا "السياحية" هذه أصبحت أثراً بعد عين.
شارع "العشاق" في حمص أصبح مسكوناً بالموت بعدما كانت مشاريع حياة العاشقين تبدأ بموعد في جنباته . حي الميدان الدمشقي لم يعد المكان الذي تقصده لشراء حلوياته الشهيرة ، بل أصبح حي الثائرين ورمز الرجولة بامتياز، مثله مثل حمص ، مدينة الظرف والذكاء بأهلها الطيبين. حمص صارت "ستالينجراد " سوريا لكن دون شريان حياة يمدها بالدعم الخارجي وأصبح أبناؤها مشاريع شهادة وبطولة.
أن تصبح ثورياً يعني ألا تبالي بقرارات الطاغية وأن لا تهتم لما يقوله ٳعلامه المسخ ، أن تنسى أن هناك جامعة عربية وعرباً عاربة ومستعربة ، أن لا تلقي بالاً لفيتو روسي قادم من شبيح موسكو أو من المارد الصيني الفاقدين لكل حس ٳنساني ، مثلهم مثل دول البريكس، مشاريع الدول "الشبيحة" الراغبة في الحصول على حق فيتو خاص بها ، حق نقض تقايض به الدم السوري في سوق النخاسة العالمي أو لقاء صفقات رخيصة و حسابات ضيقة وقذرة بآن معاً.
الانضمام للثورة يجعلك تدرك معاناة كل المعذبين الذين سبقوك و تتعلم المعنى الحقيقي لكلمات مثل الممانعة والصمود ، لكن ليس على طريقة زعران اﻷسد وحليفه الحزب اﻹلهي المقاوم. تدرك حينها أن الشجاعة هي كلمة حق في وجه سلطان غاشم ، وليس الاختباء وراء مدنيين عزل ، في وكر حصين ، وٳطلاق صاروخ على عدو غافل.
أن تصبح ثورياً ولو للحظات وأن تختلط بمن خاطروا بحياتهم و فقدوا حريتهم لسنوات ، في حين تمتعت أنت بكل مباهج الحياة المرفهة والعصرية ، يجعلك تشعر كم أنت صغير وكم هم كبار هؤلاء اﻷنبياء الصغار، الذين حملوا أرواحهم على كفوفهم و راحوا يصرخون "ارحل ارحل يا بشار" في حين ترتعد أنت خوفاً لمجرد رؤيتك للشبيحة بأشكالهم البشعة وبعضلاتهم المفتولة المتدربة على الضرب والصفع ، على التلفاز...
حين تصبح ثورياً لا تقدر أن تصغي لخطاب أبواق النظام ، من "منحبكجية " محليين أو من أُجراء لبنانيين يشتمون بقدر ما يقبضون. لا تستطيع أن تتابع خطاب المعلقين الآتين من أنقاض "السوفيت" مادحي النظام و الطامعين بخيراته وبصفقاته. تُصعق حين تقع بالخطأ على قناة "الدنيا " وتراها تُسهب في مدح "الماكياج الأنثوي الدائم " و تخصص الدقائق الطوال لعروض اﻷزياء في حين يسيل دم الشهداء غزيراً في كل شوارع البلد المنكوب بنظامه.
أتيح لي الأسبوع الماضي أن أكون، لأيام قلائل، في صحبة ثائرين "بدوام كامل " ورأيت بأم عيني ضعف إمكاناتهم المادية ، وارتفاع معنوياتهم. هم لا يجتمعون في فنادق مكيفة ولا في صالات فخمة ، يتقاسمون سندوتشات منزلية و يستقلون قطارات في الدرجة السياحية. بعضهم ترك بيته وعمله ليتفرغ لثورة شعبه. كلهم ساهم إما بالقليل مما يملكه أو بالكثير مما يملك ، حالمين بالاشتراك في صنع مستقبل أفضل لبلد لم يروه منذ سنين. أولادهم كبروا في الغربة ، يتكلمون العربية بصعوبة، إن هم تكلموها، و منهم من لم يتعلم لا قراءتها ولا كتابتها.
ثائرون هم، يحلمون ببلد حر بعضهم لم يدوسوا ترابه منذ زمن طويل ، ولا يحملون جواز سفره فسوريا الأسد حكر لعائلة الحاكم بأمره في دمشق ، يفتح أبوابها لكل مارق وشبيح ويحرم الأحرار من أبنائها من زيارتها والتسكع في حاراتها . بعضهم أمضى في الغربة أكثر من أربعين عاماً ويحلم أن يرى ياسمين الشام بعينيه قبل أن يفارق هذه الدنيا الفانية.
حين تختلط بهؤلاء الأبطال تدرك كم هو الأسد طاغية وكم هي متجبرة هذه العائلة اللقيطة. "المغضوب عليه " من أسرة الأسد المالكة ، من قتل عشرات الألوف من الأبرياء في حماه يتجول حيث يشاء بحماية جواز سفر دبلوماسي سوري ويرتع في قصور دفع السوريون ثمنها دماءً و إتاوات ، في حين يتخفى اللاجئون السوريون ، دون جوازات ولا إقامات ، دون دخل سوى تبرعات الموسرين من سوريي المهجر.
الجرح السوري النازف يتجلى في عيون ثوار الشام ، الفقراء ، الضعفاء ، اليتامى على موائد اللئام ، يتقاسمون خبزهم اليابس مع لاجئي تركيا القابعين تحت الثلوج في انتظار العودة لبيوتهم التي احتلها جند الأسد.
بوسائل بدائية وبإمكانات فردية ومحدودة يواجهون فرعون دمشق وكل داعميه ، من عرب متخاذلين ومن عجم طامعين في بسط نفوذ امبراطورية فارس النجادية ومن روس يبيعون الدم السوري بالقبان في سوق النخاسة الأممية. بمدخراتهم الفردية وبقوت أولادهم، يشتري الثائرون الطعام لشعبهم وأجهزة الاتصالات اللازمة لكي يرى العالم الموت اليومي لشعب عريق يرفض الذل.
في هذه الأيام القلائل ، أتيح لي أن أرى أن لا أحد يمد يد الدعم للثورة السورية ، غير السوريين من ذوي الشهامة والكرم. لا أحد من أثرياء النفط تبرع بقرش لكي تصل أجهزة الاتصالات إلى ضحايا القمع. الأتراك يقدمون بالكاد الكفاف للاجئي الشام ، والكثير من اللبنانيين يعاملون السوريين كما لو لم يكونوا من جنس البشر. نسي هؤلاء بيوت الشام التي فتحت لهم حين مارس زعران المقاومة الجوفاء عنترياتهم الفارغة على حساب الدم اللبناني الزكي ، مثله مثل الدم السوري سواء بسواء.
العرب العاربة، وحتى المستعربة، تذرف ربما الكثير من الدموع تعاطفاً مع آلام أهل الشام لكن القليل القليل من المال و الدعم المادي. العرب مشغولون عن دعم الثورة بأمور جلل ، ليس بينها كسوة العراة من أهل الشام ولا إطعام جائعي حمص وريف دمشق ولا حتى إيصال الدعم أو المال للثائرين.
الثورة السورية أمها الشام وأبوها شعب سوري عريق يأبى الذل ويرفض الخضوع لعصابة الأسد ، ليس للسوريين سوى أنفسهم وسوى الله وهو خير نصير.
حين تحتك بهؤلاء الأطهار ، وترى كم هي الثورة السورية منكوبة بنظام قمعي وبمعارضة تقليدية رديئة وخائبة ، تدرك حجم المعجزة التي تمثلها هذه الثورة.
كم هي كبيرة ثورة السوريين هذه ، كم هم كبار هؤلاء الأنبياء الصغار الذين يواجهون الرصاص بصدور عارية ، بصراخهم و أنين ألمهم يتحدون مؤامرة الصمت الكبرى والتخاذل الجمعي عن نصرة شعب يذبح...
كم هي سوريا الثورة كبيرة وكم نحن جميعاً صغار أمام هؤلاء العمالقة...
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في بيروت اوبسرفر 1 شباط 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=70294:chami&catid=39:features
التعليقات (0)