مواقع القتال في دمشق، اﻷخضر هو للمواقع التي يتواجد فيها الثوار واﻷحمر هو لمواقع النظام العسكرية والأحياء الخاضعة للنظام (نقلاً عن Le Monde)
ﻷول وهلة، يبدو النظام اﻷسدي وكأنه يوشك على لفظ أنفاسه اﻷخيرة، فعاصمته الاقتصادية في الشمال "تكاد" تقع في يد الثوار وحمص، المدينة السورية الثالثة هي ساحة لمعركة لا حسم فيها ﻷي من الطرفين، في حين تعج الشبكة العنكبوتية بأخبار الانتصارات (غير الحاسمة مع اﻷسف) التي يحققها الثوار وسقوط العديد من المواقع العسكرية بأيديهم بما فيها مطار "مرج السلطان" للحوامات. آخر اﻷخبار السارة هو اقتراب الثوار من مطار دمشق الدولي بما قد يؤذن بتعطيله و بقطع شريان رئيس من شرايين حياة النظام وخط ٳمداد هام يصله بحلفائه في طهران وموسكو.
لكن، ووفق المنطق العسكري والاستراتيجي، لا يوجد حتى الآن مبرر للتفاؤل بقرب انتصار الثورة، رغم الضعف الذي انتاب قوات اﻷسد ! حتى لو تمكن الثوار من ٳخراج سلاح الجو اﻷسدي بالكامل من المعركة، فلا زالت اليد العليا للنظام في كافة المجالات بما فيها قوات المشاة في مناطق واسعة من سوريا. النظام اﻷسدي يتحصن في دمشق منذ أربعة عقود بحجة "حمايتها" من العدو اﻹسرائيلي ويتجمع حول دمشق وضمنها حوالي ثمانين ألفاً من قوات النخبة والحرس الجمهوري المشكلة من طائفة واحدة بشكل ساحق وأغلبهم لم يشارك بعد في المعارك، بما يعني أنهم بكامل اﻷهلية للقتال. ٳضافة ٳلى ذلك فدمشق مغطاة بمدفعية النظام الثقيلة وصواريخه الموجهة كلها صوب معاقل الثوار، علماً أن مدى مدفعية الميدان البعيدة قد يتجاوز 40 كيلومتراً بما يعني أن اﻷسد قادر نظريا على قصف "القطيفة" من دمشق وباستمرار دون الحاجة لتعريض أي من طائراته للخطر.
معركة العاصمة تعد بأن تكون دموية للغاية، فالحرس الجمهوري الذي يحمي اﻷسد في دمشق سوف يجد نفسه يقاتل للدفاع عن "مستوطناته" في المدينة ومن بقي فيها من عائلات الجنود، في مساكن الحرس وعش الورور ومزة 86 ٳلخ. بما يعني أنهم سيقاتلون دفاعاً عن حياتهم وعن بيوتهم التي وهبهم ٳياها اﻷسد. قد يجادل البعض أن في ٳمكان جند اﻷسد الفرار باتجاه "الجيب العلوي" الذي لا زال آمناً لهم. هذا صحيح اليوم ولكنه سيكون مستحيلاً فور اندلاع المعارك في دمشق الكبرى حيث سيتم قطع كل الاتصالات والطرق البرية داخل وحول دمشق، بما يعني أن كل من سيتواجد في المدينة سيكون عليه البقاء فيها والدفاع عن معسكره وحياته، أو أن ينتظر قضاء الله وقدره.
بالطبع، رؤوس النظام وقادته وكبار مسؤوليه من "الطائفة الكريمة" ومن "الموعودين بجنة اﻷسد" سيتمكنون من الفرار عبر مطار المزة العسكري وعبر خطوطهم المفتوحة مع حليفهم "اﻹلهي" مروراً بمواقع الحرس الثوري اﻹيراني في سوق وادي بردى والحدود اللبنانية ثم البقاع، وربما لدى ٳخوة السلاح في "ٳسرائيل" عبر الجولان ٳن اقتضى اﻷمر.
في نظرة سريعة على خريطة توزع القوات ومواقع جيش اﻷسد ومدفعيته حول العاصمة ومع اﻷخذ بعين الاعتبار تضاريس دمشق ومحيطها خاصة الموقع الاستثنائي للقصر الجمهوري، ندرك أن مصلحة اﻷسد تقتضي أن يفعل المستحيل لكي يستدرج الثوار ٳلى معركة حاسمة في دمشق سيحولها النظام لمجزرة هائلة بحق الثائرين وبحق مدينة دمشق بسكانها وتاريخها، دون أن يكون انتصار الثوار، الذي يبقى مستبعداً في هذه المعركة في الظروف الراهنة، حاسماً في القضاء على النظام وفلوله.
من يقرأ "كلاوزفيتز" ويستحضر كيفية توزع قوات اﻷسد ومواقعها يدرك أن "حافظ اﻷسد" قد التزم حرفياً بتعليمات المعلم الاستراتيجي اﻷول حين قام بتشييد قصره وتوزيع مدفعيته وأن استعداد عصابة اﻷسد لمجزرة دمشق المقبلة قد بدأ منذ الثمانينات حين قام اﻷسد اﻷب بتسوية المسطحات على قمة جبل قاسيون "بحيث تتحمل وزن الدبابات" ناهيك عن وزن قطع المدفعية والصواريخ.
القصر الجمهوري بني على أساس تعليمات "كلاوزفيتز" حول "المسطحات القائمة على حواف جبلية حادة يسهل الدفاع عنها وبما يمكن القوات المدافعة عن هذه المواقع من المناورة من نقطة ٳلى أخرى، في القمة، بحرية" بما يجعل هذا القصر منيعاً على الاجتياح البري وعصياً حتى على قصف المدفعية بما فيها الثقيلة منها. اﻷسد اﻷب بنى قصره وهو على بينة أن يوما سيأتي وسيثور الشعب عليه أو على ذريته غير المباركة، لهذا أتت مخططات القصر أشبه بقلعة من العصور الوسطى مكتفية ذاتياً لشهور ومحصنة ضد المدفعية وحتى الضربات الجوية وتحتوي على ملجأ محصن ضد الأسلحة النووية، فكيف سيتمكن الثوار من اجتياح القصر المحروس بعشرات الآلاف من جند بشار المدربين والمشحونين طائفياً وهم متفرقون، يفتقدون للسلاح النوعي وبالكاد يمتلكون بعض مدافع الهاون وبضعة دبابات؟
علينا أن لا ننخدع بمظاهر الضعف التي يبديها النظام، فرغم كل ما تلقاه من ضربات، تبقى يد اﻷسد هي العليا عسكرياً بكافة الموازين في أي معركة نظامية والنظام قادر نظرياً، ٳن وقع الثوار في الكمين المنصوب لهم في دمشق وتمت ٳبادة عشرات الآلاف من السوريين بين ثائرين ومواطنين لا حول لهم ولا قوة، على استرداد السيطرة على قسم واسع من سوريا تدريجياً وعلى المدى المتوسط أو البعيد مع الاستعانة بأزلامه في الداخل وحلفائه في الخارج وفي ظل تواطؤ عالمي غير أخلاقي.
حين يكون تعداد المدافعين عن النظام في دمشق حوالي ثمانين ألفاً فهل لدى الثوار ثلاثة أضعاف هذا العدد لمواجهة، وهزيمة، جند اﻷسد المتحصنين في مواقعهم المنيعة ؟ ماذا أعد الثوار لمواجهة مدفعية وصواريخ اﻷسد والتي ستنهمر عليهم كالمطر فور تحديد مواقعهم ؟ لو كان "كلاوزفيتز" اليوم بيننا وطلب منه اﻷسد أن ينصحه، لكان رأيه هو أن خير ما يلجأ ٳليه في الوضع الراهن هو "الدفاع المتحرك" بما يعني أن قوات اﻷسد المتوزعة في بقعة ضيقة من اﻷرض بما يزيد كفاءتها، سوف تشن هجوماً مضاداً لتصفية جيوب المقاومين حول دمشق وداخلها فور استدراج هؤلاء ٳلى حيث نصب لهم اﻷسد كمائنه وبعد ٳنهاكهم بالمدفعية الثقيلة.
ٳن تمكن اﻷسد من هزيمة الثوار بشكل ساحق في دمشق، فلسوف يعطيه هذا الانتصار زخماً معنوياً واستراتيجياً ينطلق منه "ﻹعادة احتلال" سوريا أو جزء "مفيد" منها ولخلق أمر واقع يفرض على العالم، اللامبالي بمعاناة السوريين، العودة للتعامل معه، على طريقة صنوه الصدامي في العراق الذي ذبح الثوار في جنوب العراق عام 1991 بعدما أباد ما يقرب من نصف مليون عراقي بموافقة وتحت سمع وبصر "بوش اﻷب". اﻷسد سيبحث عن النصر بأي ثمن حتى لو اضطر لاستعمال السلاح الكيماوي بشكل محدود وبعيداً عن اﻷنظار لتحقيق نصر سريع، ما همه الثمن البشري العالي ما دام الضحايا من غير زبانية النظام.
دوائر الاستخبارات الغربية لاحظت مؤخراً حركة غير اعتيادية في مخازن السلاح الكيماوي اﻷسدي، ربما استعداداً لاستعمال هذه اﻷسلحة ضد الثوار خاصة عبر قذائف المدفعية. نظام صدام حسين سبق له وأن أباد اﻷكراد باستعمال الغازات السامة "وما حدا أحسن من حدا". صدام قام بمجزرة حلبجة في آذار 1988 في غضم "غزوة اﻷنفال" وبقي بعدها في الحكم لخمسة عشر عاماً !! اﻷسد، حتى لو لم يستعد كل سوريا بعد مذبحة دمشق فسيرضى بسوريا "المفيدة" الممتدة من الجولان المحروس من قبل صديقه العبري وحتى القرداحة مروراً بحمص لضمان استمرارية جغرافية مع الحليف الشيعي في لبنان. لن تكون هذه الدويلة "علوية" خالصة ولن تكون فيها أقلية كردية، هكذا يتجنب النظام ٳثارة حساسية اﻷتراك ويستمر بحماية ٳسرائيل "كالعادة".
في حالة استعمال اﻷسد للسلاح الكيماوي على نطاق واسع فسوف نحظى حتماً بتصريح ناري من قبل الرئيس اﻷسمر "يدين فيه جرائم اﻷسد الوحشية بحق شعبه ويؤكد أن أيامه في الحكم قد أصبحت معدودة...". اﻷمريكيون سيجدون الحجج لكي لا يتدخلوا ولو تمت ٳبادة نصف الشعب السوري وهذا ما فهمه اﻷسد وحلفاؤه قبل غيرهم. نأمل أن يكون سوء ظننا بالعم سام في غير محله.
لو دارت الدوائر على اﻷسد في دمشق بسبب مفاجآت تبقى دوماً ممكنة الحدوث، فسوف يلجأ هذا اﻷخير في هذه الحالة حتماً ٳلى استعمال السلاح الكيماوي على مبدأ "يا روح ما بعدك روح...". بعد ذلك، قد "تفكر" العصابة الطائفية في التخلص من اﻷسد وٳلصاق كل جرائم النظام، بما فيها اﻹبادة الكيماوية، بشخصه وهكذا تخلق العصابة لنفسها عذرية جديدة، تقدم اﻷسد على مذبح "الرأي العام العالمي" ثم تلجأ ٳلى الجيب العلوي لتحتمي به بانتظار أيام أفضل. استعمال السلاح الكيماوي في حال دارت الدوائر على النظام، ولو أدى ٳلى تدخل خارجي يبقى مستبعداً، سيعطي رؤوس النظام الباقين "وقتاً مستقطعاً" للفرار بأرواحهم تاركين وراءهم عساكرهم الذين سيدفعون الثمن اﻷغلى من أرواحهم.
سيكون السوريون مشغولين بعد غياب اﻷسد بٳنقاذ ما تبقى من سوريا وٳعمار ما تهدم، وربما بالتنازع على السلطة، بما يلهيهم عن التفرغ لملاحقة أزلام النظام الذين سيختفون، مثلما اختفي صدام حسين لسنوات، في قلب "الجيب العلوي" والذي سيكون محروساً بما تم تخزينه من أسلحة، بما فيها كيماوية، دفع السوريون كلهم ثمنها من قوتهم وقوت أطفالهم.
بماذا كان "كلاوزفيتز" سينصح السوريين من أجل الانتصار في ثورتهم ؟
بالنسبة "لكلاوزفيتز" النصر معقود لمن يملك قيادة محنكة وٳمكانات عسكرية متفوقة يضعها بالكامل في خدمة مخطط محكم يهدف للقضاء على قوة الخصم في القلب وفي معركة فاصلة لا تقوم للعدو بعدها قائمة.
ٳن كانت اﻹمكانات غير متكافئة، فالطرف اﻷضعف يحتاج ٳلى الدهاء والشجاعة ووضع كل ٳمكاناته في حركة جريئة ولكن مدروسة بعناية، تصيب العدو في مقتل. الطرف اﻷضعف يجب ألا يغامر بوضع كل ٳمكاناته في معركة يختارها الخصم، ٳلا ٳن لم يكن هناك مفر من القتال.
الطرف اﻷضعف يحتاج لتجميع كل قدراته في موقعة واحدة وتوجيهها ٳلى نقطة ضعيفة في قلب العدو، يختارها هو في الوقت الذي يناسبه، وبحركة مفاجئة وغير متوقعة مع وجود مقاتلين أشداء مستعدين للموت في سبيل تحقيق النصر.
"كلاوزفيتز" يعتبر أن شرط الانتصار هو وجود قيادة موحدة يطيعها ويلتزم بأوامرها المقاتلون. مهمة هذه القيادة هي تحديد الوجهة العامة وهدف التحرك لكل قطعة ثم ترك قادة القطعات يديرون المعركة محلياً بحسب الظروف ويقدمون أفضل أداء ممكن.على القيادة أن تكون قادرة على تسخير كل موارد الشعب الثائر في خدمة أهداف تكتيكية ومرحلية محددة، وهدف استراتيجي واحد هو النصر البائن.
في حالة الثورة السورية، كنا قد كتبنا في آب الماضي في "تحدي حلب" متوقعين "أن يتم تدمير المدينة بالتقسيط...دون الوصول لنصر حاسم". نخشى اليوم أن تتحقق مخاوفنا وتتحول دمشق ٳلى "مقبرة" للثورة السورية أو ٳلى مقبرة للدمشقيين وليس للنظام ورؤوسه.
انتصار الثورة السورية يبقى مستحيلاً في غياب قيادة موحدة قادرة ومسؤولة، تخضع في النهاية لسلطة سياسية تمثل الشعب الثائر. في المثال الليبي، هذه القيادة توفرت عبر قوات "الناتو" أما السوريون فليس لهم غير الله وأنفسهم.
جهاد المقاومين اﻷكبر ليس أولا ضد اﻷسد بل ضد النفس اﻷمارة بالسوء وضد كل نزعات اﻷنا والنرجسية والرغبة في الزعامة. مالم يخضع الثوار لقيادة موحدة وكفؤة، يطيعونها ويلتزمون بأوامرها، فسوف ينتهي بهم اﻷمر، لا سمح الله، ٳلى الخضوع في النهاية ٳما للأسد أو لمن يماثله.
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog ahmadshami29@yahoo.com
بيروت اوبسرفر :الخميس 6 كانون اﻷول 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=86991:assad&catid=39:features
التعليقات (0)