من المنطق كثرة الحديث عن علاقة التأثير والتأثر بين الفكر الغربي اليوناني والفكر العربي الإسلامي, لكن حينما يتعلق الأمر بالذات ينبغي مراجعة هذه العلاقة؛ الأمر الذي يستوقفنا الحديث عنه
في هذا المقال عند كل من " محمد إقبال " ( 1877 – 1938 م ) - الفيلسوف والشاعر الهندي – و" مالك بن نبي " – المفكر والمصلح الاجتماعي الجزائري – ( 1905 – 1973 م ). هو حديث عن ميكانيزمات هذا التأثير والتأثر وأبعاده السوسيوثقافية والسياسية ....كما هو حديث عن مستقبلية الثقافة العربية الإسلامية عموما, وما يمكن لنا توخيه أو تقبله لضماني إبداعية عربية أصيلة خصوصا.
في البداية الموقف الحضاري يطرح لنا عدة رؤى حول هذا الفكر الغربي الذي صنع " المعجزة اليونانية " في مقابل انتحاره هو بعيد عن معتقد الإيديولوجية.
فـ " إقبال" قد كان انتقاده وإستعراضة للحضارة الغربية و أسسها ومناهج تفكيرها في محاضراته العلمية التي ألقاها في " مدارس " ونشرت بعنوان " تجديد الفكر الديني في الإسلام " الذي يعتبر من أحسن البحوث الفلسفية لأن جو البحوث الفلسفية غير جو الشعر والأدب فقال وهو يتحدث عن طبيعة الحضارة المادية في الغرب, والإنسان المعاصر الذي يمثلها ويتزعمها؛ وعن الأزمة والمشكلات التي يعانيها: الرجل العصري بما له من فلسفة نقدية , وتخصص علمي يجد نفسه في ورطة, فمذهبه الطبيعي قد جعل له سلطان على الطبيعة لم يسبق إليه؛ لكنه قد سلبه إيمانه في مصيره هو. وعليه فالحديث نفسه ينطبق على الرأسمالية كما على الشيوعية نفسها, حتى وإن كانت أحدهما شرقية والأخرى غربية فهما تلتقيان على النسب المادي, أو التفكير المادي أن صح القول. والنظر المحدود إلى الإنسان.
أما في المجال التعليمي فنجده يسئ الظن بدعاة التجديد – وبأصح التغريب – في الأقطار العربية, لأنه يخشى أن تكون الدعوة إلى التجديد حيلة وستار لتقليد الإفرنج المؤدي إلى تعطل الشخصية العربية, وعدم الاحتفاظ بالكرامة التي هي جوهر الفرد, لذا يجب على الشباب العربي في فجر هذا القرن, والذين يتوسعون في الدراسات الغربية إن يحذروا من شباكها قائلا: « إن الروح تموت عطشا في سرابها, إنها تقضي على لوعة القلب بل تنزع القلب من القالب, إنها لص قد تمرن على اللصوصية فيغيرها نهارا جهارا إنها تدعوا الإنسان لا روح فيه ولا قيمة ». وهو في هذا الحكم ينطلق من تجربته الذاتية, وهذا ما يدعمه مؤلفه " الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية "؛ فالتعليم الغربي قد ضعف الروح المعنوية في الشباب لأن هذا الأخير قد أستعار حياته من الغرب؛ فهو أشبه ما يكون بغمد محلي بدون سيف, حتى إن الأديب والشاعر فقد قلمه التأثير الذي كان في عصا موسى , فالأدب الشرقي أصبح لسان حاله المرأة من أي شيء, وهذه عقيدة في " وحدة الوجود " يمكن أن تسمى " الوجودية الأدبية ". وكان الأدب العصري ينادي بلسان حاله " لا موجود إلا المرأة ", كما أن الفلسفة التي لم تكتب بدم القلب لا تدخل في صميم الحياة أو تتعرض للمجتمع وتعيش في عزلة عن العالم أنما هي فلسفة منهارة, لا تستطيع أن تعيش – فلسفة ميتة أو محتضرة – وعليه ينبغي أن نتوخى حضارة العلم الحديث, لأنه أنتج مثقف ثقافته عالية يعرف عن مجاهل أفريقية والقطب الشمالي, وعن الحيوان والنبات الشيء الكثير؛ ولا يعرف عن نفسه إلا القليل وهذه دعوة لمراجعة الذات حتى نبدع فكر عربي أصيل مبدع ومستقل إلى جانب الفكر الغربي واليوناني في الوقت نفسه.
وفي المقابل نجد " مالك بن نبي" ينطلق في نقده للفكر الغربي الحديث من مفاهيمه السياسية لا سيما مفهوم الديمقراطية, إذ يرى أن المعنى العام لهذه الكلمة منذ طرحها " بركليس " القيصر الأثيني في خطابه لشعب أثينا منذ 5 قرون ق م, مناقض لفكرة خضوع الإنسان إلى سلطة الله في هذا النظام أو غيره؛ فالديمقراطية الحديثة مثلا قد تعلن الحرب من أجل سيادة شعب على غيره, أو الاستيلاء على سو, أو استعمار مكان ما, أو احتكار منابع للنفط, وفي سبيل ذلك تسفك دماء وتزهق أرواح بشرية, لذا نجد " مالك " يحدد لها شروط ذاتية تمثلت في الشعور الديمقراطي نحو الأنا ونحو الآخرين؛ وشروط موضوعية تتمثل في الحقوق والحريات السياسية والضمانات الاجتماعية.
ومنه نخلص أن الحلول الجاهزة التي تستورد من الفكر الغربي, وأيضا المفاهيم المجتثة منه كمثال – الديمقراطية , الرأسمالية ، الاشتراكية – قد لا تفيد الفكر العربي عموما, والإسلامي خصوصا في تحقيق الإبداعية المستقلة والتقدم والرقي فـ " مالك " يقول : « وإن أتت بحلول مناسبة لمشكلات الحياة المادية المتصلة بالنظام الاقتصادي, فقد مست الفرد في حريته الذاتية » كما هو مشار إليه في كتابه " تأملات ", وهذا بدليل أن كل تغير حقيقي في المجتمع لا يتصور دون تغير ملائم في النفوس طبقا للقانون الأعلى لقوله تعالى: « أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ».( الرعد ,الآية 11 ), ولذا يرى " مالك " البديل السياسي الإسلامي هو الحل الأمثل بحيث العمل المنظم الذي يمكن من تحقيق التجانس بين عمل الدولة وعمل الفرد عن طريق دعامتي الدين والأخلاق, حيث صاحب هذا الاقتراح لهذا البديل اقتراح أيضا على العالم الإسلامي المعاصر مشروعا خاصا لبناء الوحدة السياسية في إطار المبادئ الإسلامية تتماشى مع أوضاعه الراهنة وهو متجسد في فكرة " كومنولث إسلامي " وهذه المرجعية الدينية في بناء هذا الموقف السياسي المؤدي بنا إلى فهم متمكن للديمقراطية في المجال التداولي العربي الإسلامي هو المسعى نفسه الذي نلمسه في الفكر الخلدوني من خلال كتابه " المقدمة " ؛ وهذه دعوة فكرية ثقافية لتأسيس ثقافة ذاتية مستقلة ومبدعة موجودة إلى جانب ثقافة الآخر بأفكارها وألفاظها ومعانيها المتمكنة عندنا.
والمنزلتين الفكريتين التي تعرفنا لهما عند" محمد إقبال " و " مالك بن نبي " تعتبران بداية النهوض بالإبداعية العربية المتأصلة بالخروج من دائرة التبعية والتقليد إلى دائرة الإبداع والاستقلال.
التعليقات (0)