المادية الجدلية أو الديالكتيكية matérialisme dialectique مذهب فلسفي يقوم على مبدأين أساسيين هما مادية الوجود، وجدلية المادة، وتتفرع منهما مجموعة من المبادئ الأخرى التي تعدّ الأساس في تفسير مظاهر الوجود المادية والحياتية المختلفة، فالوجود تبعاً لهذا التصور مادة تتجلى بأشكال عدّة، منها ما هو بسيط ومنها ما هو معقد ومنها ما هو شديد التعقيد، ويصنف الماديون الجدليون الفلاسفة بصورة عامة في اتجاهين أساسيين هما: الماديون، والمثاليون، ففي حين يميل أصحاب الاتجاه الأول إلى القول بمادية الوجود وأسبقية المادة على الروح، أو الفكر، يقول أصحاب الاتجاه الثاني بأولوية الروح أو الفكر على المادة. أما فكرة الجدل فهي مبنية على مبدأ التناقض، الذي يؤدي إلى الصيرورة والحركة، وأنه من دون التناقض بين الأشياء تنتفي إمكانية الحركة، وتنتفي إمكانية الحياة.
ويمكن تلمس الأصول التاريخية للفكر المادي بصورة عامة، عند بعض الفلاسفة الإغريق، وخاصة في أعمال كل من زينون الإيلي [ر] Zénon d’Élée وهيراقليطس[ر] Héracliteوغورجياس Gorgias. أما أولهم فيقال عنه إنه مخترع الجدل، ويظهر ذلك في تقريره لمجموعة من المبادئ ذات الطابع الفلسفي والتي تأتي في مقدمتها أن كل سلب هو من حيث النتيجة تعيين، وأن العدم هو عدم، وأن الحركة ليست إلا شكلاً من أشكال التناقض أو الجدل، وقد عالج زينون فكرتي الزمان والمكان وأظهر ما فيهما من تناقض.
أما هيراقليطس فقد قيل عنه إنه هيغل اليونان، كما أن هيغل [ر] Hegel نفسه أشاد به وضمَّن فلسفته قدراً كبيراً من أفكاره، ومن ذلك فكرة أن الوجود واللاوجود شيء واحد موجود وغير موجود. وقد استخدم السفسطائيون جدل هيراقليطس بصورة واسعة وكان من أشهرهم غورجياس الذي يظهر منطقه الجدلي في محاولة البرهنة على ثلاث قضايا أساسية وهي: الموضوعية، والذاتية والموضوعية الذاتية، أما القضية الموضوعية فتكمن في أنه لاشيء موجود، في حين بنى القضية الذاتية على فرضية بأن الوجود موجود، وفي هذه الحالة لا يمكن معرفته، والقضية الذاتية الموضوعية التي يقرر فيها أنه ليس ثمة اتصال ممكن بين ما يوجد وما يعرف، وبذلك يكون غورجياس قد ألغى الوجود بالدرجة الأولى، وكذلك معرفته، وأخيراً إمكانية الاتصال بينهما، فالوجود يصل بنا إلى العدم، والواحد إلى الكثرة، والكثرة إلى الواحد، ومن حيث النتيجة يرفض جورجياس إمكانية تحقق المعرفة.
كما تنطوي فلسفة أرسطو [ر] Aristotle على قدر كبير من الأفكار المبنية على مبدأ التناقض، أو الجدل، وهي ذات أهمية، منها العلاقة بين الصورة والمادة وانتفاء إمكانية الوجود لأي واحدة من دون الأخرى، وفكرة وحدة القوة والفعل، التي يقول عنها هيغل إنها أروع ما لدى أرسطو، وفكرة التطور، فالأشياء تتصارع باستمرار حتى تصل إلى أفضل صورة لها.
غير أن الرؤية المادية للعالم، ظهرت من جديد في القرنين السابع عشر والثامن عشر مع بداية تفسخ العلاقات الإقطاعية وظهور قوى اجتماعية جديدة هدفها تلبية احتياجات المجتمع، بعد انتشار الفلسفة الدينية طوال العصور الوسطى. جاءت الفلسفة المادية إثر تزايد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الغربي، وهي تحمل في مضمونها أبعاداً نقدية للمجتمع ومكوناته، محاولةً البحث عن تفسير موضوعي لما آلت إليه المجتمعات الإنسانية آنذاك، فظهرت أعمال كل من: فرنسيس بيكون F.Bacon، توماس هوبز T.Hobbes، جون لوك J.Locke، اسبينوزا Spinoza وغيرهم، وقد اتسمت الفلسفة المادية آنذاك بمحاربة النظرية الدينية والسلطة المستمدة من الكنيسة بصورة عامة، والكنيسة الكاثوليكية بصورة خاصة، وكوّنت هذه الأعمال مقدمة أساسية ومهمة لما عُرف فيما بعد باسم المادية الجدلية، التي بنيت في أساسها على جدلية هيغل، غير أنها مقلوبة رأساً على عقب، ذلك أن الجدل عند هيغل مرتبط بفكرة العقل، وهو تعبير عن طبيعته وماهيته، أو هو حوار العقل مع ذاته، أما موضوعه فهو الفكرة الشاملة أو المطلقة، وهذه ليست إلا تأليه للوعي الإنساني الذي فصله هيغل عن المادة والطبيعة وجعله مقابلاً لهما بوصفه قوة مبدعة كلياً لكل ما هو موجود.
إن جميع الأشياء في تصور هيغل متناقضة في حد ذاتها، فتحرك الجسم من نقطة إلى أخرى لا يعني وجوده في هذا الموضع تارة، وفي موضع آخر تارة أخرى، إنما لأنه في اللحظة الواحدة يوجد في هذا الموضع وذاك، ولأنه في الوقت نفسه موجود وغير موجود، وينفي جدل هيغل مبدأ التطور في الطبيعة، ويرى أن الروح أو الفكرة المطلقة هي التي يمكن وصفها بقابلية التطور، غير أن فلسفة هيغل تعرضت لنقد شديد من قبل الفيلسوف الألماني فويرباخ [ر] L.Feuerbach الذي دافع بقوة عن مبدأ أولوية المادة مقابل الوعي.
وتنطوي المادية الجدلية، وفق مقولات التحليل الماركسي، على مجموعة من المبادئ الفلسفية التي تفسر جملة الظواهر الطبيعية والاجتماعية، بما في ذلك الظواهر النفسية والثقافية والروحية للمجتمعات، وهي تحكم حركة التغير في الوجود، ومسارات تطوره، وتتمثل هذه المبادئ في التغير من الكم إلى الكيف، وقانون صراع الأضداد، وقانون نفي النفي، ويبني المحللون الماركسيون على هذه المبادئ نظريتهم في المعرفة.
ويُراد بمبدأ التراكم الكمي والتحول الكيفي إظهار أن التحولات الكيفية التي يلحظها الإنسان في الطبيعة إنما هي نتيجة تلقائية لعمليات تراكم كميّة واسعة تتم عبر مئات السنين، وربما الآلاف والملايين منها، تبعاً لطبيعة التغير ومساراته واتجاهاته، فالتغير في أي حيز من الوجود لا يتم دفعة واحدة، إنما يأتي نتيجة عمليات تراكم بطيئة أو سريعة بحسب العوامل المؤثرة، فتبخر المياه لا يحدث فجاءة إنما ينتج من التراكم الكمّي لدرجات الحرارة، وتحول المادة السائلة إلى غازية، إنما هو نتيجة لتغيرات كمية واسعة تحدث في بنية السائل قبل حدوثها في شكله الخارجي، وينطبق هذا الأمر على الظواهر الطبيعية المختلفة.
ويتمثل القانون الثاني من قوانين المادية الجدلية في مبدأ صراع الأضداد؛ فكل خلية حية في الأجسام العضوية، وكل ذرة في بنية المادة تحمل في ثناياها تناقضاً داخلياً يؤدي إلى تحقيق استقرارها تارة، ويساعد على تغييرها تارة أخرى، فبين مكونات الخلية الواحدة في الأجسام العضوية صراع مستمر حول بقائها واستمرارية وجودها، ويؤدي هذا الصراع إلى نمو الخلية وتطورها باستمرار، وفي الأجسام المادية الصلبة توجد دائماً في بنية الذرة شحنات موجبة وشحنات سالبة تعزز واقع الحركة فيها على أساس التوازن حتى تظهر معالم الخلل فيها فتودي بها إلى الانحلال والتفكك، ولكن للظهور بشكل جديد أكثر تطوراً مما كان عليه.
ويرتب منظرو المادية الجدلية على القانونين السابقين قانوناً ثالثً هو ما يُعرف بنفي النفي، فأي عنصر في بنية الأشياء ينفي العناصر الأخرى، ومنه كل وضع راهن لأي بنية ينفي بالضرورة وضعها السابق، وإن كان ذلك بدرجات مختلفة، تزداد أو تنقص تبعاً لمستوى تطور المادة المدروسة، فالثمرة تنفي بالضرورة الزهرة، ولا يمكن أن تكون الثمرة زهرة في وقت واحد، ذلك أن تحول الزهرة إلى ثمرة يتطلب تخليها عن مجموعة من الخصائص والعناصر، واكتسابها جملة أخرى من الصفات، ولا يمكن أن تجمع صفات المرحلتين في وقت واحد، ومرحلة الفتوة بالنسبة إلى الفرد تتطلب حتماً انتفاء جملة من صفات الطفولة، واكتساب الفرد جملة من الصفات التي تجعله في المرحلة الأعلى، وهكذا في سياق عملية التطور لايمكن اجتماع مجموعتين من الخصائص تنفي كل منهما الأخرى، ومن حيث النتيجة في الطبيعة في تطور مستمر.
وتأسيساً على قوانين المادية الجدلية يقيم منظرو التحليل الماركسي نظريتهم في المعرفة الإنسانية، التي تعتمد بصفة أساسية أولوية المادة على الفكر، فالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها الناس هي التي تحدد أنماط وعيهم وتفكيرهم، وليس العكس، والمعرفة بصورة عامة لا يمكن أن تكون حقيقة موضوعية إلا إذا عكست ما هو موجود باستقلال عن الوعي العاكس، ذلك أن الوعي قد يكون مزيفاً كما كانت الحال في مراحل تاريخية سابقة حين سادت أنواع من المعرفة تعكس مقدار وعي الناس للأشياء ولكنها لم تكن معارف حقيقية، ولم ترق إلى مستوى المعرفة المطلقة.
غير أن ذلك لا ينفي وجود حقائق مطلقة في الوجود، إنما ينفي إمكانية معرفتها في شروط اقتصادية واجتماعية وثقافية محددة، وكل مرحلة من مراحل التطور الإنساني تحمل قدراً أكبر من إمكانية تحصيل المعارف، ولا توجد وفق هذا التصور أي معرفة لا يمكن الوصول إليها، في الوقت الذي توجد فيه دائماً معارف غير محققة، وقضايا مجهولة بالنسبة إلى الإنسان، فهي نسبية ومحدودة في الوقت نفسه بالنسبة إلى كل جيل معين من الناس.
ولا يحل هذا التناقض بين قدرة الإنسان على معرفة الأشياء في الطبيعة، وعدم قدرته على ذلك في زمان ومكان محددين إلا من خلال الحركة التصاعدية للمجتمع الإنساني، وفي حياة أجيال عديدة يمكن ألا يكون لها نهاية بالنسبة إلى زمن محدد.
تأثرت المادية الجدلية بوجهة النظر التطورية [ر] ولكن بصورة مختلفة تماماً عن تلك التي أتى بها هربرت سبنسر [ر] H.Spencer والتي قامت على أرضية بيولوجية، فجاء فهم سبنسر للتطور بطابع ميتافيزيقي، إذ يؤكد أن البنيان الاجتماعي وحالته الطبيعية هي التوازن، وانطلاقا من ذلك عدّ سبنسر الصراع الطبقي والثورة خروجاً عن الوضع الطبيعي ليأتي ذلك متناقضاً تناقضاً تاماً مع الفلسفة المادية الجدلية التي ترفض من حيث المبدأ الاستناد إلى مبدأ المماثلة البيولوجية بين الكيان العضوي والكيان الاجتماعي، فالمجتمع يتكون من تشكيلة اقتصادية اجتماعية محكومة بقوانين التطور، وعليه فإن الماركسية بوصفها نظرية تطورية مادية ديالكتيكية تعني فيما تعنيه النظر إلى الواقع الاجتماعي بوصفه واقعاً متحركاً على الدوام، وأن حركة الواقع الاجتماعي تختلف بصورة جوهرية عن تلك التي تحصل في المجالين الطبيعي والبيولوجي.
التعليقات (0)