في تصريح لقناة فرنسا 24 أتحفنا السيد "عبد الباسط سيدا" بتصريح من "كعب الدست" أفتى فيه بأن "لا مكان للسيدين مناف طلاس ورياض حجاب" في أي حكومة انتقالية مقبلة في سوريا "ﻷنهما لم يكونا مع الثورة منذ بدايتها".
لم نكن نعرف أن الثورة السورية قد وصلت ٳلى نهايتها وأن اﻷمور قد حسمت لصالح السيد "سيدا" وجماعة المجلس الوطني. يكاد من يسمع هذه التصريحات يظن أن قائلها قد وصل ٳلى قصر المهاجرين في دمشق وأن الثورة "خلصت" لصالحه وأن اﻷمور كلها قد حسمت ولم يبق سوى تسمية الحكومة الانتقالية.
هكذا تصريح يتجاوز "اجتثاث البعث" ٳلى "اجتثاث الدولة السورية" كلها، فحين يفتي رئيس المجلس الوطني أن لا فضل لرئيس وزارة انشق عن النظام فهو يتنكر لحقيقة أن الرجل هو أرفع مسؤول في الدولة السورية يقوم بالانشقاق عن اﻷسد وعصابته. في المثال الليبي، قام ثوار بنغازي باحترام هيكلية الدولة الليبية رغم عيوبها الكثيرة وطاع اﻷمر ﻷرفع مسؤول ليبي انشق عن النظام وهو السيد "مصطفى عبد الجليل" وزير العدل المعين من قبل القذافي والذي انشق عنه. السيد "عبد الجليل" تنحى فور أن انتخب الليبيون السيد "محمد المقريف".
صحيح أن انشقاق السيد "عبد الجليل" تم في بداية الثورة ولكن يجب أن لا ننسى أن الرجل لم ينشق في طرابلس بل في بنغازي وسط مناصريه وبعيداً عن سطوة العقيد. حين قرر الثوار الليبيون قبول انشقاقات كل أعوان القذافي السابقين بما فيهم ضباطه ووزير دفاعه واستمروا في استقبال المنشقين حتى سقوط طرابلس، فهم زرعوا بذور دولة مستقبلية في ليبيا قائمة على هرمية وعلى تراتبية يحترمهما الجميع وسوف يحصدون النتائج طال الزمان أو قصر.
في حالة السيد "حجاب" فالرجل وصل ٳلى منصب رئيس وزارة وانشق بعد شهرين على تسميته، بعدما تأكد من أن عائلته في أمان. الشهران كانا لتحضير الانشقاق على حد قول السيد "حجاب" وكان في مقدور الرجل، الذي لا نعرفه لا من قريب ولا من بعيد، أن يبقى في حماية زبانية النظام وأن يفر في الوقت المناسب، مثلما فر رئيس وزراء القذافي وقت سقوط طرابلس. اﻷكيد أن السيد "حجاب" خاطر بحياته أضعاف ما خاطر السيد "سيدا" والغالبية الساحقة من زملائه وخسر من "المكاسب المحتملة" والنفوذ الكثير. في كل حال، فالرجل خسر منصباً ونفوذاً ووجاهة، بأكثر مما خسر أعضاء المجلس الوطني الموقر، ﻹرضاء ضميره، فهل في مقدور السيد رئيس المجلس أن يفسر لنا بأي وجه حق ينصب نفسه حاكماً بأمر الثورة ويوزع النقاط اﻹيجابية والسلبية وهو جالس في مكتب مريح، بحماية الجار التركي ودون أن يضطر لعبور الصحراء فاراً من ملاحقة كتائب اﻷسد ؟
قد يقول قائل "ربما يكون السيد حجاب مدسوساً من قبل النظام وهدفه مصادرة الثورة". من يتصور ذلك يتجاهل حقيقة أن الثورة لا زالت في بدايتها، مع اﻷسف الشديد، وأن الطريق لا زال طويلاً قبل أن يتربع السيد "سيدا" وأمثاله على عرش قصر المهاجرين. سوف تسيل أنهار من الدم ويتم تدمير أجزاء واسعة من سوريا الحبيبة قبل أن تصل الثورة ٳلى غايتها، فهل اﻷسد وأزلامه مجانين لدرجة ٳرسال رئيس وزارة "لتدمير الثورة من الداخل" منذ البداية، في حين لم يسجل انشقاق أي وزير أو سفير في دولة كبرى ولا حتى ضابط من الحرس الجمهوري باستثناء العميد مناف طلاس ؟
لنفترض أن الرجل "مندس" فما الذي سيفعله ﻹيذاء الثورة أكثر من السادة أعضاء المجلس الوطني الذين برعوا في التصريحات المرتجلة ولم يظهروا أي درجة من الحنكة أو الذكاء السياسي ؟ ألا يجوز لنا في هذه الحالة اعتبار هؤلاء، ممن فشلوا في كل ما انتظرته منهم الثورة "مندسين" ؟
كان من المنتظر حين انشق السيد "حجاب" أن ينتهز المجلس الوطني الفرصة ويستعيد بعض المشروعية. حين خرج السيد "حجاب" وهو رئيس وزارة الدولة السورية ٳلى المنفى وأعلن انشقاقه، أصبح لدى الثورة "رئيس وزارة في المنفى" يمثل الدولة السورية، أو ما تبقى منها، وليس نظام اﻷسد. ماذا لو كان المجلس اعتبر حينها أن هذا الانشقاق هو انشقاق "للدولة السورية" عن النظام وأن الحكومة السورية الشرعية هي تلك التي سيشكلها السيد "حجاب" في المنفى تحت رقابة المجلس الوطني؟ كان بمقدور المجلس الوطني حينها و بضربة واحدة أن يسحب الشرعية من عصابة "بشار" وينصب نفسه رقيباً على السلطة التنفيذية في المنفى والتي سوف يمثلها السيد "حجاب". بكلمة أخرى، سوف يصبح المجلس الوطني مجلساً تمثيلياً لكل السوريين وسلطة تشريعية تراقب عمل الحكومة في المنفى وتقيلها ٳن فشلت، ككل دولة تحترم نفسها...
بدلاً من ذلك، ساهم المجلس الوطني في زيادة ارتباك الحراك الثوري وعرقلة جهود الثورة بمماحكاته وبعجزه المزمن عن الاستقلال عن القوة اﻹخوانية الخفية التي تتحكم بمساره في ظل وصاية الشقيق التركي اﻷكبر.
ما العيب في أن يتولى السيد "حجاب" في المنفى ذات المنصب الذي تخلى عنه في الداخل ويرأس حكومة انتقالية تحت رقابة المجلس الوطني ؟ أﻷنه بعثي يجب أن نفترض أنه خائن رغم تضحياته ورغم انشقاقه عن نظام القتلة ؟ أي مستقبل ينتظر سوريا في حال وصل السيد "سيدا" وأمثاله ٳلى الحكم ؟ اﻹقصاء واجتثاث البعث والدولة السورية لبناء دولة اﻹخوان أو ماذا ؟ لو كان لدى المجلس معلومات تدين السيد "حجاب" فليصارحنا بها وليسمح للرجل أن يدلي برأيه ويدافع عن مواقفه.
فيما يخص السيد "مناف طلاس" فالرجل انشق عن النظام ولم يكن مضطراً للمغامرة بحياته حتى لو كانت اﻷخطار محسوبة. بأي حق ندين الرجل ونقصيه سلفاً ومن منح السيد "سيدا" ومجلسه هذا الحق وهم لم يغامروا بحياتهم ولا خاطروا بشيء غير حرمانهم من قضاء العطلة السنوية في سوريا ؟ صحيح أننا نشكك في أهلية العميد "مناف طلاس" لقيادة سوريا الآن أو في المستقبل وفي دوافع داعميه ولكن التشكيك في أهلية الرجل ودوافعه شيء واقصاؤه سلفاً عن أي دور وفي كل اﻷحوال شيء آخر.
في أي ثورة، يعمل قادتها على تقصير الطريق وخفض التضحيات وليس على رفعها. على الثورة تشجيع الانشقاقات على كل المستويات والترحيب بالمنشقين على أي مستوى والحفاظ على كرامتهم وأدوارهم، خاصة وهي لا تزال بعيدة عن تحقيق أهدافها. على الثورة تأكيد مبدأ أن "الانشقاق يجُبّ ما قبله" أيا تكن مسؤوليات المنشق السابقة وحتى لو كانت يداه قد تلطختا بالدماء خلال القتال، هذا باستثناء "الجزارين" الكبار وعصابة اﻷسد، أما المسؤولون الحكوميون والجنود والضباط والعناصر العاديين فلا يجوز التشكيك في انشقاقهم دون دلائل قاطعة على أن انشقاقهم خدعة.
على الثورة مسامحة من لم يلغوا في الدماء من العناصر والضباط. الاستثناءات يجب أن تكون واضحة، آل اﻷسد وقادة اﻷجهزة اﻷمنية والقطعات المشاركة في المجازر، هؤلاء في مقدورهم توفير دماء السوريين وهم يسفكونها من أجل آل اﻷسد. هؤلاء القادة الكبار لن ينشقوا لا اليوم ولا غداً، على عكس مرؤوسيهم ممن لديهم مصلحة في الابتعاد عن حمام الدم وضمان مستقبلهم هم وعائلاتهم في سوريا تتسع للجميع. على الثورة أن تتخذ التزاماً واضحاً بمسامحة كل المنشقين وعدم التعرض لهم ٳن هم التحقوا بالثورة، هذا سوف يخفض كلفة الانتصار ويحقن دماء السوريين جميعاً.
ٳن كان واجباً الترحيب بأصغر انشقاق فما بالك بالمسؤولين الكبار في الدولة حتى لو لم تكن لهم سلطة كبيرة في نظام العصابة ؟ هؤلاء يجب أن يحتفظوا بمناصبهم الحكومية وباحترامهم مما يشجعهم ويشجع غيرهم على الانشقاق عن نظام القتلة في دمشق.
بعدما تجاهلت السيدة "كلينتون" المجلس الوطني السوري، على أعضاء هذا المجلس أن لا يفرحوا كثيراً باستقبال الرئيس الفرنسي "فرانسوا هولاند" لهم، فالرجل ما استقبلهم ٳلا لكي يرفع العتب عن نفسه ويبرر تخاذله عن نصرة الشعب السوري.
المجلس الوطني السوري يحتاج ٳلى الارتقاء، سريعاً، ٳلى مستوى تضحيات السوريين وتوقعاتهم، وهذا لا يكون عبر تصرفات وتصريحات أقل ما يقال فيها أنها غير مسؤولة لكي لا نقول غبية.
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog ahmadshami29@yahoo.com
بيروت اوبسرفر : الخميس 23 آب 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=81568:syria&catid=39:features
التعليقات (0)