عذراً خادم الحرمين، فالنظام السوري قد حسم أمره
مما أثلج صدورنا أن يخرج جلالة الملك عبد الله عن صمته ليخيّر نظام الأسد "بين الحكمة والفوضى". صحيح أن هذا الخطاب أتى متأخراً لبضعة أشهر عن بدء شلّال الدم في سوريا، وبضع ساعات عن مناشدة بابا الفاتيكان للنظام السوري "كي يوقف سفك الدماء ويلبي طلبات شعبه المشروعة" لكن أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً.
مع شديد الأسف، كل هذه النداءات والمبادرات لن تجدي نفعاً فالنظام الأسدي قد حسم أمره منذ بداية الحراك الثوري في سوريا. النظام لا و لن يصغي لأحد، لا لصوت العقل ولا لصوت الإنسانية ولا حتى لصوت أصدقائه.
قيل الكثير في وصف النظام الأسدي : نظام مجرم، لا إنساني، شرّير، متعجرف، خائن لشعبه، عديم الأخلاق و الضمير الخ.. كل هذه الصفات صحيحة، لكنه على الإطلاق ليس غبياً بل إنه شديد الحنكة وإن كان مجرداً من كل حس إنساني ومن أدنى ذرة ضمير.
النظام السوري قرأ الموقف العربي و الدولي جيداً و يلم بأن السياسة هي فن الانتظار والمناورة وبأن لا مكان فيها لا للأخلاق ولا للمبادئ.
النظام يدرك أن أي تنازل لشعبه وأي قبول بإصلاح ولو جزئي سيؤديان إلى انهيار بنيانه السلطوي والعصاباتي في نهاية المطاف. وهو ما يفسر جمود النظام وتحجره منذ نيف وأربعين عاماً.
ماهي إستراتيجية النظام للخروج من عنق الزجاجة إذاً؟
برأيي أن النظام لم يفاجأ باندلاع الحراك الثوري في سوريا بدلالة رفع صور الرئيس الكبيرة من شوارع دمشق، منذ شباط الماضي، خوف إحراقها. لكن النظام لم يتوقع أن تأتي الشرارة من درعا ولا امتدادها السريع لكامل التراب السوري
النظام يعد العدّة لهذه الساعة منذ وصوله للحكم، وهو ما يفسر البناء الطائفي للجيش و الأمن و نسج علاقات الولاء مع طبقة التجار والمتنفذين ومع أئمة السلطان، إضافة إلى الاحتفاظ بفرق عسكرية كاملة وبآلاف "الشبّيحة" مع أنه لم يواجه أي تحد جدي لسلطته منذ ثلاثة عقود.
إستراتيجية النظام تتلخص بكلمتين: القتل والخوف. اقتل حتى يخاف معارضوك من القتل، واستمر في القتل حتى يخاف الموالون من الحساب إن توقف القتل.
النظام يدرك جيدا أن "نجاته" تكمن في استمراره بقتل المتظاهرين السلميين بغرض زرع بذور البغض في قلوب المواطنين الذين يرون أحبّائهم يقتلون ويُنكّل بهم على يد جلاوزة ينتمون جميعاً لنفس الأقلية الطائفية المتحالفة مع أقليات أخرى، تقاسمها الخوف من حساب عسير إن هي توقفت عن سفك الدماء، وهكذا تدور دورة القتل إلى ما لا نهاية. أخيراً، سيتعب المتظاهرون السلميّون، أو يموتوا... مفسحين المجال لحركات سلفية وعصابات، حقيقية هذه المرة، تؤمن بالكفاح المسلح لإسقاط الحكم وهكذا تندلع حرب أهلية منخفضة الشدة، هي غاية المنى للنظام.
في هذا السيناريو الكارثي للبلاد يقوم سلفيون و متطرفون "سنة" بالانتقام لضحاياهم، الجدد والقدامى، من فقراء الطائفة العلوية و من موظفي الأمن من الأقليات. النظام سيتنطّع لحماية الأقليات من الخطر الذي أتى أساساً من ممارساته، وهو ما شهدنا إرهاصاته في جسر الشغور.
بالتأكيد لن يعدم النظام استعادة اسطوانة الفتنة والمندسين والعصابات والتأكيد بأنّه حامي حمى العلمانية و الجدار المنيع ضد الأصولية، التي لا تعدو كونها نتيجة طبيعية لقمعه الدموي لكل صوت متزن وسلمي.
في هذا السيناريو المثالي للنظام سوف تنحصر وظيفة السلطة في الدفاع عن "التعايش" بين الأقليات، وفي ضمان هدوء جبهة الجولان "لكي لا يفتح النظام جبهة في زمن لم يختره" ولن يختاره ما عاش لأن فيه نهايته. الحليف الإيراني سيزداد أهمية ونفوذاً تماماً كحزب الله اللبناني الذي سيعيش سيداً بلا منازع في بلاد الأرز. وحده الشعب السوري بكل مكوناته سيخرج خاسراً.
ليس هذا كل شيء في المخيلة الأسدية، فباندلاع صراع أهلي و دخول المجتمع السوري في حالة من انعدام الاستقرار الدموي ستنعكس حتماً على "بعض" الجوار، سيضطر الغرب، والعرب قبله، لخطب ود ذات النظام الكارثي الأسدي الذي سيبدو، وحده، القادر على "فكفكة" العقد التي صنعها بصبر وأناة! أليس هذا ما حدث في لبنان وفلسطين والعراق؟
هكذا سيخرج النظام من عزلته، ومن العقوبات الدولية، أقوى من قبل وسيدخل المجتمع السوري بكل فئاته في دورة جديدة من الطغيان، تُعاد فيها الحسابات و تشكيل الولاءات لصالح ذات العصابة. حينها تكون ثروات المنتفعين الصغار الحاليين من النظام قد تبخرت وسيدخل لاعبون جدد إلى حلبة الولاء، رغبة في أن ينالهم شيء من الغنيمة المقبلة. هكذا يعيد النظام إنتاج نفسه ويتجدد، دون أن يتغير شيء في مملكة الصمت الأسدية.
هذا السيناريو الكارثي يمكن تجنبه بطريقتين، مع الأسف لا أرى ثالثة لهما
الأولى، وهي السيناريو الأفضل للجميع، عدا الطغمة الحاكمة، هي انقلاب أبيض يقوم به ضباط كبار من الطائفة العلوية ويضعون حداً لحكم العائلة الأسدية. تدخل سوريا بعده في مرحلة انتقالية شبه ديموقراطية وينتهي إلى بناء عقد اجتماعي ووطني جديد وإلى مصالحة تاريخية بين مكونات الوطن جميعاً، بعد محاسبة رؤوس الفساد ومن تلوثت أيديهم بالدماء. النظام السوري استبق هذا السيناريو بإقالة وزير الدفاع العماد"العلوي" علي حبيب، رغم ولاء الأخير له، و"ترقية" العماد داود راجحة "المسيحي" رئيس الأركان السابق إلى وزارة الدفاع، مما يعني تهميش هذا الأخير. هذه المناورة أتت برجل "من عظام رقبة النظام" هو العماد آصف شوكت إلى رئاسة الأركان حسماً لأي إمكانية لخروج الجيش على أوامر عصابة الأخوين بشار وماهر.
يبقى السيناريو الثاني وهو التدخل الخارجي المباشر على شاكلة الغزو الفيتنامي لكمبوديا الذي أنهى حكم بول بوت الكارثي. لهكذا تدخل عنوانان أولهما أطلسي – تركي ، وربما إسرائيلي بشكل غير مباشر. شرط هذا السيناريو هو حصول مذابح كبيرة أو وصول الصراع الداخلي في سوريا إلى درجة عالية من الاشتعال يصبح معها سقوط النظام حتمياً مما يهدد بفوضى عارمة. هذا التدخل الأطلسي يحتاج لغطاء أممي ولدعم عربي بدأ بالتشكل مع نداء البابا بنديكت وخادم الحرمين.
العنوان الثاني للتدخل الخارجي المباشر قد يكون إسرائيلياً، فقد تقرر إسرائيل [وهذا مستبعد] مع استعار شلّال الدم في سوريا وفي ظل صمت وعجز عالمي عن لجم العنف، أن الثمن الأخلاقي لدعمها لنظام الأسد أصبح مرتفعاً للغاية وتنتهز فرصة اضطرابات في الجولان للزحف على دمشق و "تحريرها" من النظام الأسدي.
الشعب السوري سيحتار حينها إن كان سينظر للقوات الإسرائيلية كجيش جاء يحرره من القمع الأسدي أو كقوات محتلة، لذا سيكون التدخل الإسرائيلي تمهيداً لتسليم السلطة إلى قوات أطلسية و إسلامية تتولى إعادة بناء الدولة السورية مما سيفسح المجال لإعادة تشكيل المنطقة على نمط ما جرى في أوروبا بعد سقوط النازية أو ما جرى في جنوب شرق آسيا بعد زوال نظام الخمير الحمر.
هذه الفرضية الأخيرة تبدو مستبعدة وإن لم تكن مستحيلة. لكن، ألم نر جنود المارينز يخرجون صدام حسين من جحره وهو الذي أدى خدمات جلّى للشيطان الأمريكي الأكبر ؟ ألم تقم طائرات بريطانيا و فرنسا و إيطاليا بدك معاقل ألقذافي حامي حدود أوربا الجنوبية من حشود المهاجرين و ممول بنوك أوربا الأول؟
فهل تقلع إسرائيل شوكها بيديها وتقبل نظام الأسد قبلة الوداع، متناسية خدماته التي لا تُحصى؟
د. أحمد الشامي فرنسا
ahmadshami29@yahoo.com http://syrieblog.unblog.fr/
نشرت في بيروت اوبسرفر الثلاثاء 9 آب 2011
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=59763%3A2011-08-09-03-36-27&catid=56%3A2009-04-20-12-15-49
التعليقات (0)