مواضيع اليوم

سياسة الهروب للماضي

عيسى رمضان

2009-12-21 19:51:28

0

يقال أن الهروب إلى الأمام هو وضوح للحاضر واستقراء للمستقبل ومحاولة الانتقال إليه بفهم ووعي مبني على عمق وفهم للحاضر والمستقبل . ويقال أيضاً أن الهروب إلى الأمام هو فشل في مواجهة مشاكل الحاضر والقفز عنها إلى الأمام وكأن لم تكن هناك أي مشكلة . الهروب في المعركة هو إما تراجع لإدراك أن نسبة القوى في الساحة بدأت تختل لغير الصالح وإدراك أن الهروب أفضل من مواجهة الموت لا محالة، إذا لا بد من التراجع -الهروب- والمحافظة على شيء بدلاً من خسران كل شيء . وقد يكون الهروب في المعركة شكلياً، أي خدعه ومكر لتجميع القوى والانقضاض ثانيةً على العدو وهذا هو الهروب الواعي المدرك سريع البصر والبصيرة . الهروب إلى الماضي يسلكه شخص يعتبر الحاضر عدوه اللدود فكل يوم يرى شيئاً جديداً لا يتوالف مع آرائه ولا مع سلوكياته - باختصار لا تعجبه الحضارة بما فيها من سرعة مواصلات واتصالات وطائرات ومصانع ومسموعات سلكية ولا سلكية ومنظورات تلفازية وغير تلفازية - . يسأل نفسه كيف يمكن إيقاف هذا المد الحضاري الجارف الذي يخلق – حسب رأيه – خلخلة في كل شيء . آه لقد وجدت الحل، ما أحلى الماضي بدون هذا، الحياة كانت أبسط وأهدأ، والواحد يكتفي بجرعة حليب وحبتي تمر، كفاية معزة ونخلة وإحنا بخير . هذا من الناحية المادية، أما الناحية الفكرية، وهي شر البلاء، فالمقاييس والأمثلة جاهزة من الماضي، قال الخليفة، قال الملك، قال الأولياء، قال الحديث، وهذا مسند وهذا غير مسند، قال التفسير ..... كل شيء يجب أن يمحضر – أي يجعل الماضي حاضراً – لأنه كيف نتخلى عن الماضي اليانع، المليء بالإيجابيات، وكأن الشعوب الأخرى التي خطت في الحضارة خطوات واسعة، ليس لها إيجابيات في ماضيها، فكل شعب يفتخر بماضيه، لكن يجب أن لا نجعل الماضي عثرة في استيعاب الحاضر . فقط نحن أصحاب الإيجابيات القديمة، أصحاب النظام المثالي في تنظيم المجتمع، نظام الصراعات الداخلية والعشائرية على السلطة،لإ ففي عهد الخلافة الأموية فُرض قانون الوراثة في الحكم والحجاب بين الحاكم والناس وسياسة فرض الآراء بالقوة ثم ظهور الحجاج والسفاح وصراع الإخوة على السلطة . أين نحن العرب من هذه السياسة وهل عندنا هروب أم لا ؟ نحن العرب لا نهرب من الحاضر، ولا نستطيع أن نهرب من الحاضر ولكن لنا سياسة خاصة، إننا نريد أن نحضر الماضي إلينا، وهذه قمة الحضارة، فنحن خير أمة أخرجت للناس، لنا حضارتنا ولنا فلسفتنا، ولنا خلافتنا التي دامت أكثر من ألف عام . وبعد الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – جاءتنا الخلافة الأموية التي استنت الخلافة بالقوة، والتي بقيت آثارها حتى يومنا هذا . وبعدها جاءت الخلافة العباسية التي لها تاريخ زاهر في تنظيم الدولة من عرب وفرس لم يشهد مثله التاريخ في ذلك العصر، ولكنها انهارت تحت ضربات فلول المغول . وبعدها تقطعت أوصال الدولة الإسلامية دولة الخلافة وأصبحت ولايات لا تتبع للدولة المركزية إلا بالاسم .هذا هو تاريخنا . ثم جاءت الخلافة العثمانية التي عزلت المشرق والمغرب العربي عن العالم إلى أن شاخت وهزمت أمام الأطماع الاستعمارية التي وقعنا تحت حمايتها، فنحن اللقمة السائغة التي تهفو إليها كل الجياع للاستعمار في العالم فأصبحنا مسرحاً للصراع بين الدول الاستعمارية التي تهافتت على خيرات العرب والمسلمين . وحينها وقعنا تحت الحماية الاستعمارية، فقامت حركات التحرر الوطني من أجل الاستقلال والبعث، أي بعث الأمة العربية وتراثها وإيجاد مكان لها تحت الشمس . وما أن نالت بعض الدول العربية والإسلامية استقلالها وتخلصت من الاستعمار العسكري حتى وجدت نفسها أمام مهام ثقيلة وهي التطور الاقتصادي واللحاق بالركب الحضاري العالمي . من هنا انكشفت المعضلة وهي الفرق بين ما يعيشه العرب والمسلمين وما يعيشه العالم من فرق ليس في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي بل والفكري والعلمي . من هنا نشأت سياسة الهروب إلى الماضي بالمفهوم الديني كردة فعل ضد الحضارة الغربية، وارتدت ردة الفعل أشكال عدة من تكفير وهجرة، والدعوة السلفية، وجمعيات الكتاب والسنة، وهو باختصار ما سُمي بالصحوة الدينية . إن ما يسمى بالصحوة الدينية هو ردة، ليس بالمفهوم المادي للحياة بل هو ردة فهمية وفلسفية ونفسية عن استيعاب وتكييف منجزات الحضارة البشرية والتكيف معها، ومع متطلباتها ليست المادية بل والاجتماعية والفكرية، هي بالأصح عزلة عصرية . إن العودة للماضي بنظامه الفكري والاجتماعي الذي كان سائداً يعني العودة للدولة الدينية وما تمخض عنها من عصبية عشائرية تولدت من التمسح بتاريخ الرسول – صلى الله عليه وسلم – حيث قامت دولة الخلافة الأموية والعباسية بناءً على هذه الفكرة حيث كان الخليفة يرفع شعار أطيعوا أولي الأمر منكم وعلى الشعب أن يطيعه حتى في توريث الحكم لأبنائه ولنا في معاوية قدوة نقتدي بها في سن قانون الوراثة في الحكم في تاريخنا الإسلامي وما على المعارضة إلا أن تذهب للجنة بسيفه . ورب متسائل يقول : معنى هذا أن العرب والمسلمين لم يكن لديهم حضارة وعمران بشري ممكن تطويره وإلباسه شكلاً عصرياً وبثوب ديني . حقاً لقد كانت هناك شذرات علمية وحضارية في التاريخ الإسلامي – إن صح تسميته بالإسلامي حقاً – ولكن حدث انقطاع في السلسلة الحضارية العربية طوال نصف قرن تقريباً، ولم نصحوا منها إلا والعالم في واد ونحن في واد آخر . فنظر العرب والمسلمون حولهم فرأوا الحضارة والعلوم وقد بُهروا بها وارتدوا للماضي لأن ليس لهم ضلع فيها، وارتدادهم هذا أسموه صحوة دينية، وعلت الصرخات للعودة ... العودة للماضي ... إلى السلف . وهؤلاء أمسوا وأصبحوا في محنة فهم غير قادرين على العودة إلى الماضي بنظمه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة آنذاك، ولا هم قادرون على التكيف مع النظم الحديثة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع وتنظيم شؤون الحكم والدولة بما تتطلب من تعددية حزبية وديمقراطية وانتخابات . ورب قائل يقول : لا مانع للعودة للماضي، لكن خذوا ما لكم فقط، ما صنعتم، ما ابتكرتم، ما عرفتم من أمور استنبطوها من شرائعكم واصنعوا منها دولاً ومجتمعاً كما تشاءون، ولكن لا تأخذوا معكم ما ابتكره غيركم من صناعة وفنون إدارية وحضارية وثقافية ومخترعات علمية وعمران بشري . فقط خذوا صناعتكم وغزلكم وغنمكم وإبلكم وخيمتكم وخلافتكم وسيفكم ورمحكم واهربوا إلى ماضيكم، وعيشوا به كما تشاءون . والسؤال هل تستطيعون ؟ إنكم تخدعون أنفسكم ..... أهذه هي صحوتكم ؟ ينسى الكثير من الهروبيين أن لكل عصر حضاري مستوى اقتصادي يمارس فيه الناس أسلوباً جديداً في الحصول على الغذاء، ويعتمدون في هذا على أحدث الأساليب الصناعية التي وصلت إليها العلوم في ذلك العصر . وكل مستوى اقتصادي له مستوى اجتماعي وحياتي يتناسب مع هذه المرحلة من تطور العمل وأسلوب الإنتاج وينعكس عن تلك المستويات مستوى فكرياً يستوعب كل هذه المستويات ويتكيف معها نفسياً وسلوكياً . أما أن يفهم هذه المستويات بصورة منعزلة عن بعضها فيقبل هذا ويرفض هذا، فليس هذا منطقياً ولا يتناسب مع التطور التاريخي، حيث لكل مرحلة تاريخية شكلاً حضارياً، ويتبع هذا الشكل الحضاري مستوى اقتصادي واجتماعي وثقافي وفكري تتناسب مع بعضها وتؤثر في بعضها البعض . من هنا يتوجب على أنصار سياسة الهروب الفكري، الذين يعتبرون أن العيب ليس فيهم وليس في أفكارهم بل في حضارة غيرهم أن يتوقفوا عن فصل الناس نفسياً وفكرياً عن عصرهم، فالتطور لن يرحم أحداً، وسيعيش أمثال هؤلاء في حالة صراع بين ما يُرى ويُسمع ويُعاش، وبين ما يتصورون أنه الماضي الجميل الخالي من الشوائب الفكرية والاجتماعية . لقد وصل العرب وما يسمى بالعالم الإسلامي إلى درجة من الانحطاط الحضاري لم تعد خافية على أحد، فيكفي أنهم يسيرون في ذيل السلم الحضاري ويكفي أنهم استهلاكيون . وبهذا ينسى أصحاب سياسة الهروب الفكري أن من أولى المتطلبات الحضارية هي استيعاب الحاضر بعلم وعلمانية واستيعاب الحضارة ليس في الجانب الاقتصادي بل والفكري . ولكي يضع العرب أقدامهم في الطريق الصحيح يجب اعتماد أرضية رحبة لانطلاق الإنسان علمياً وإيجاد المناخ الملائم للتكيف مع الحضارة عن طريق إرساء مبدأ الديمقراطية والتعددية الحزبية وفصل الدين عن الدولة ورفض الدكتاتورية بشتى أشكالها الملكية والفردية والعائلية والدينية . ويحضرني في هذا المقام ما كتبه الكاتب باسم النبريص بألم واصفاً حال العرب والمسلمين هذه الأيام حيث قال : " يغتربون كل يوم عن عصرهم وعن منجزات هذا العصر، ولا يسألون لماذا ؟ فهم مكتفون بتأويلهم البائس للدين الشعبوي، ومكتفون بنعيم الآخرة، إن زال نعيم الدنيا . يتشبثون بالشكليات، ولا يعنيهم الجوهر . وكلما ضاقت عليهم سبل الدنيا لجأوا إلى الماضي كحام ومنقذ . أما أن يفهموا هذه الدنيا، وكيف تسير، ما هي شروط وقوانين النجاح الدنيوي فيها، فلا . ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يفكر فيه من الأصل . لم يصل إليهم كوبرنيك ولا نيوتن ولا آينشتاين بعد . فقد وصل إليهم كشك وعمرو خالد والقرضاوي، والسلفيون ! للغرب علماؤهم وهم لهم علماؤهم . فكل من يتكلم ثلاث كلمات في الدين، هو عالم في نظرهم ! لذا فعلماؤهم كثيرون أكثر من علماء الغرب " ( 1 ) .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !