سوريا الأسد: عودة المماليك
من سوء طالع الأسد الكبير أن قصة صعوده واستمراره في الحكم أتت متأخرة لبضع مئات من السنين. فسوريا الأسد لا تعدو كونها تكراراً عصرياً وشبه هزلي لقصص نشوء دول المماليك في عصور الانحطاط العربي.
تبدأ قصة حافظ الأسد، ككل قصص المغامرين، بشاب لامع الذكاء ينشأ في بيئة فقيرة و متخلفة. شاب يمتلك من الطموح والإرادة ما يخولانه تذليل الصعاب وتجاوز عثرات الدهر. لكن هذا لا يكفي لتفسير سيرة الرجل الذي سيدخل التاريخ جنباً إلى جنب مع أمثاله من كبار الطغاة، كستالين و موسوليني. كأشباهه من الطغاة، كان حافظ قادراً على المزاوجة بين النقائض، فمن جهة كان قادراً على التحدث لساعات عن الأخلاق والظهور بمظهر الأب الخلوق والدمث، في حين كانت أفعاله تجهر بانعدام كل حس أخلاقي لديه، تماماً كما كان يظهر الصدق والوفاء لأعوانه، قبل أن يطعنهم في الظهر ويتركهم رهن السجون حتى الموت دون محاكمة ودون أدنى رحمة.
هكذا قضى رجال من أمثال صلاح جديد، نور الدين الأتاسي و غيرهم، اللذين وإن لم نتفق معهم، لم يقترفوا جرائم تبرر اعتقالهم الأبدي، سوى وثوقهم باﻷسد! فحافظ لا يسمح لمن كان يوماً فوقه رتبة أن يبقى حراً.
الأسد امتاز عن باقي الطغاة بأنه قارئ مواظب للتاريخ و لكتاب الأمير وهو ما سمح له أن يكون أكثر حذقاً و حصافة من غيره. المتابع لصعود نظيريه الليبي والعراقي لا تفوته المقارنة بين هذه اﻷنظمة الثلاثة التي تتشابه كثيراً فكل من هذه اﻷنظمة بدأ بانقلاب عسكري وانتهى إلى بناء نوع من العقد الاجتماعي المملوكي : اﻷمن مقابل السلطان. اﻷمن وأي أمن...
لدى وصوله ٳلى سدة الحكم في بغداد كان صدّام حسين على رأس دولة واعدة، قوية ومهابة الجانب،غنية بمواردها وبٳرثها الحضاري. للتحول ٳلى النظام المملوكي احتاج صدّام لخلق أعداء من كل صوب، ونجح في هذا نجاحاً باهراً. من هنا جاءت حربه المجنونة ضد ٳيران ٳرضاء لسيد الزمان اﻷمريكي الغاضب بعد احتلال سفارته في طهران. نجح صدام أكثر من اللازم في خلق اﻷعداء، فكانت نهايته على يد ذات السيد اﻷمريكي. تماماً كما كان يفعل القيصر الروماني بحكّام الولايات العاقّين.
ألقذافي أتى ٳلى حكم ليبيا متخلفة لكن شديدة الثراء بنفطها وبموقعها. بحث العقيد عن أعداء "بسراج و فتيلة" فوجدهم في العدو التشادي والصهيوني، انتهاء بسويسرا "الكافرة" التي لم تساير نزوات نجله النجيب. ذهب ألقذافي بعيداً في ٳرضاء كل نزواته وانتهى ٳلى أن يصبح "قراقوش" العصر الحديث، يسلّي الجميع ما عدا مواطنيه المنكوبين به و ببطانته.العقيد العتيد، كسابقه العراقي، تفنن في خلق اﻷعداء واثقاً أن لا بديل لشخصه الفذ. لكن حين سنحت الفرصة، تكالبت عليه اﻷمم، التي لم تنس "لوكربي" و لا إسقاط الطائرات المدنية، وٳن تناست أفضاله الكثر حين اقتضت مصالحها و "فرص النمو" في بلد نفطي ثري التخلص من تابع مزعج.
حافظ اﻷسد تجنب مواجهة أكثر من عدو في آن واحد، لم يدخل في حروب عبثية خاسرة، عدا العدو العرفاتي واﻹخواني "الداخليين" ولم يدخل في صدام مباشر مع من صنّفهم كأعداء للأمة، باستثناء "تضحيته" بعشرات الطيارين السنة والطائرات القديمة في معركة خاسرة سلفاً مع سلاح الجو الاسرئيلي، بعد أشهر من اكتشافه لمحاولة انقلابية ضده بقيادة سلاح الجو السوري.
في نهاية السبعينات، كان حافظ على رأس دولة ناهضة، مقاومة و وواعدة. كان في ٳمكانه أن يكون أتاتورك سوريا، أو، في أسوأ اﻷحوال، فرانكو الشام، لكنه اختار كنظيريه الليبي والعراقي بناء دولة المماليك خاصّته.
النظام اﻷسدي امتاز بليونته الفائقة مع "أعداء" الخارج وبالتعامل بقسوة وقمع لا محدودين مع الداخل. من هنا كانت "مشروعيته" رهناً بارتباطاته الخارجية وبخدمته ﻷجندات "العدو اﻷجنبي" بشكل مباشر وغير مباشر. و لكي يستقيم له اﻷمر في الداخل، استقدم اﻷسد "ربعه وعشيرته" فأتوه خفافاً راغبين في الثأر من ماضٍ ٳقطاعي وفي اﻹثراء السريع. تماماً كما كان يفعل سابقوهم من المماليك لتقوية عصبيتهم و لتثبيت "ملكهم". دفع حافظ ٳذاً الثمن في الخارج لكي يستفرد بالداخل.
هكذا حصل "العدو الخارجي" على كل ما يرغب. ٳسرائيل نعمت بجولان هاديء، تركيا نالت تعاوناً في الشأن الكردي و تنازلاً في اسكندرون، أمريكا وجدت في النظام حليفاً مستتراً ووثيقاً، أعانها في كل حروبها ضد "اﻹرهاب" في العراق وغيره. حليف تكفل بٳيواء فلول سنة العراق و أتباع صدّام بدل تركهم شوكة في حلق المحتل اﻷمريكي. النظام السوري "باع" بلاد الشام "بالمفرّق وبالتقسيط المريح" لكل من يدفع الثمن، دعماً للنظام و ٳطلاقاً ليده في قمع الداخل و مص خيراته.
قبل خمسة قرون، أتى السلطان "سليم" ليحرر الشام من مماليكها، بناء على طلب أهل البلاد و بعدما أساء السلطان "قانصوه الغوري" وفادة سفراء الباب العالي. هل يكرر التاريخ نفسه؟ هل يلعب "اردوغان" دور السلطان سليم أم أن لاعباً حديثاً في المنطقة سيكون له رأي آخر؟
يبدو، حتى الساعة، أن للاعب الٳسرائيلي الكلمة الفصل، فهو صلة الوصل بين اﻷقوياء الغربيين جميعاً بما فيهم سيد اﻷناضول وهو لم يقل كلمته اﻷخيرة بعد.
في النهاية، هل تتخلى ٳسرائيل عن أحد أوثق حلفائها وأكثرهم كتماناً ؟
د. أحمد الشامي _ فرنسا : ahmadshami29@yahoo.com http://syrieblog.unblog.fr/
نشرت في بيروت اوبسرفر السبت 23 تموز 2011
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=58720%3Ashami&catid=56%3A2009-04-20-12-15-49
التعليقات (0)