مواضيع اليوم

سوريا : في الطريق إلى دولة العصابة 1-14

أحمد الشامي

2012-03-12 22:30:00

0


1-الجذور:
" لكي نفهم النظام السوري لا يكفي أن نطالع علم السياسة، بل يجب مشاهدة فيلم العراب". الشهيد سمير قصير.
هذا الوصف الذي كلف الشهيد سمير قصير حياته هل هو فعلاً ما يعبر عن طرائق عمل النظام السوري ؟ هل يستطيع علم الجريمة و علم النفس الإجرامي تفسير نشأة و تطور نظام القمع الأسدي بأحسن مما يقدر علما الإجتماع و السياسة ؟ هل هي صدفة أن فيلم "العراب" كان الفيلم المفضل لصدام حسين ؟
هذا ما نريد التنطع له و محاولة فهم أسباب "صمود" النظام الأسدي و تماسكه في وجه شعبه ، إضافة إلى تفسير انعدام الانشقاقات في صفوف ضباطه الكبار و سياسييه، ناهيك عن الدبلوماسيين.
كيف وصلت طبقة كاملة من المنتفعين و الوصوليين إلى السلطة وكيف تماهت مع النظام الذي يقتل شعبه بلا حساب؟ أيعقل أن لا يوجد شخص واحد في هذا النظام لديه ضمير لينأى بنفسه عن المجزرة ؟ أي نظام هذا الذي ينعدم لدى كل زبانيته كل ضمير و يتصرفون جميعاً و كأنهم على قلب رجل واحد وقد اجتمعوا على القتل والبغضاء ؟
في تصوري أن النظام السوري سيبقى فريداً في تاريخ البشرية و أنه لم يلق حقه من الدراسة و البحث. أغلب الكتابات التي تتطرق للنظام و لمآلاته تكتفي بفضح ممارساته و بتبيان تناقضاته ، دون الغوص في أعماق نفسيات رجالات النظام و دون تحليل دوافع هؤلاء و أهدافهم المستترة وراء خطاب شعبوي و مقاوم لا هدف له غير إخفاء بشاعة دوافع النظام الحقيقية.
في هذه المقالات سنستعين بمبادئ علم النفس والتحليل النفسي، و بعلم الجريمة و النفس الإجرامي، و كذلك بالفلسفة الظاهرية (Phenomenology) . هذه الفلسفة، وتلك العلوم، تدرس الأمور، بما فيها تلك السياسية، كظواهر تحكمها قوانين منطقية بهدف اكتشاف هذه القوانين و فهم ترابط هذه الظواهر مع بعضها و تسلسلها، اهتداء بالواقع وبما هو مثبت، دون التمسك بخطاب أو بنظريات قد يثبت قصورها عن تفسير الواقع بشكل عقلاني و منطقي.
المطلوب هو رؤية الواقع كما هو و ليس كما نريد أن يكون، ثم الانطلاق إلى محاولة فهم هذا الواقع عبر تحليل منطقي و عملاني، غير نظري و غير مثالي، بعيدا عن الرغبات و التمنيات. بكلام آخر، نريد دراسة نشوء و تطور النظام الأسدي تماماً كما لو كان الأمر متعلقاً بفعل إجرامي و ليس كمجرد ظاهرة سياسية.
لا بد في هذا الحال من دراسة نفسيات اللاعبين الأساسيين في النظام السوري ، الأب ثم الابن في محاولة لفهم دوافعهم و أهدافهم و كيف وصلوا إلى مبتغاهم. ماهي العوامل التي سهلت وصولهم إلى الحكم و لماذا دام بقاؤهم في السلطة. هذا سيساعد ربما على تفسير تحركاتهم المقبلة و استقراء أهدافهم المستقبلية.
قراءة سيرة اﻷسد اﻷب المتوفرة للقارئ العربي لا تسمن ولا تغني من جوع. هذه الرواية الرسمية شبيهة بسيناريو اﻷفلام الهندية التي تهدف للتسلية لا للفهم. حافظ اﻷسد نشأ في قرية غنّاء "أشبه بالريف الفرنسي" على قول باتريك سيل في كتابه الشهير. أبوه علي اﻷسد "رجل وقور و محترم يعلي قدر التعليم و الثقافة" و جدّه "سليمان الوحش" كان مضرب المثل في القوة و الشجاعة والحكمة " فكان أهل القرى يحكّمونه في أمورهم" أيضاً على قول باتريك سيل. وفق الرواية المعتمدة : حافظ اﻷسد توصل "بذكائه و حنكته" ٳلى تجاوز وضاعة منشئه و صار رئيساً "علوياً" لبلد أغلب سكانه سني مسلم.
سيناريو مثالي لفيلم سينمائي مسلي. لكننا جميعاً نعرف أن الشاشة الفضية شيء و الواقع شيء آخر.
القراءة اﻷولية لسيرة اﻷسد، استنادا لذات المصدر، تعّلمنا أن اﻷسد اﻷب جاء من أسرة تعلي من شأن التعليم و المعرفة، قائمة على الطاعة المطلقة بل و الخضوع لسلطة أبوية "اﻷطفال يقبلون يد أبيهم و لا يحق لهم الكلام في حضرته". هذه ليست أسرة ديمقراطية يعبر فيها كل فرد عن نفسه، بل هي قائمة على مبدأ "نفذ ولا تفكر في الاعتراض". كثير من اﻷسر العربية المحافظة تشبه هذه العائلة فأين يكمن الفرق ٳذاً؟
باتريك سيل يلقي ضوءاً خافتاً على بعد آخر خفي في حياة آل اﻷسد : القوة و العنف. الجد اﻷكبر "المؤسس" سليمان الوحش صنع لنفسه ٳسماً لا بذكائه و لا بعلمه بل بقوته الجسدية و بقدرته على استعمال العنف غير المحدود ضد الآخر. عائلة الوحش التي ستصبح "اﻷسد" هي عائلة بَنَت سطوتها على العنف و القوة، ليس على اﻷخلاق ولا على الكرم أو الوطنية.
جاء حافظ ٳذاً من عائلة تعلي من شأن التعلم و الطاعة و تعتبر العنف و القوة وسائل طبيعية لتحقيق أهدافها. مسيرة اﻷسد المقبلة لن تخرج عن هذا اﻹطار.
حين طالب أعضاء القيادة القطرية بمساءلة حافظ اﻷسد عن اتصالاته في لندن التي زارها للعلاج عام 1966 رد عليهم صلاح جديد حرفياً : "لا نستطيع أن نطرح هكذا سؤال على الرفيق حافظ وزير الدفاع و قائد سلاح الجوﻷنه هددنا في حالة الشك بأقواله بقصف دمشق بالطائرات !". هذا المثال يوضح ما ذهبنا ٳليه بشأن التراث العائلي لآل اﻷسد : القوة هي القيمة العليا المؤسسة للعائلة اﻷسدية. حين الحاجة، لا حدود للعنف المطبق على القريب و البعيد. في هذا يختلف النظام اﻷسدي عن اﻷنظمة الفاشية التي تعتبر العنف جزءاً من السياسة ، فتستخدمه بمقدار ، و يقترب من اﻷنظمة الهتلرية و الستالينية التي تمارس العنف كسياسة قائمة بنفسها و لنفسها. اﻷسد اﻷب ثم الابن يبدوان أقرب "لبول بوت" منهم لكاسترو أو لفرانكو.
المثال الحموي في الثمانينات و ما يجري على يد اﻷسد الصغير اليوم لا يعدو كونه استمراراً لذات المبدأ : العنف بديلاً عن السياسة. هو عنف أعمى قبلي و أهوج، هذا عنف نرجسي و منحرف هدفه القضاء على الآخر ﻹدامة الذات و ٳعلاء شأنها. علم الجريمة وليس علم السياسة، قادر على ٳلقاء الضوء على هذه الظاهرة.
المثال اﻷقرب هو المجرم المغتَصِب، الذي يقتل ضحيته البريئة لا لسبب سوى لأنها رفضت الخضوع لنزوات و أهواء مغتصبها الذي يعتبر الآخر مجرد أداة لتسليته و ﻹرضاء نزعاته السادية. أليس هذا ما يحصل حين يقتل زبانية اﻷسد المتظاهرين العزّل لمجرد الشك بوطنيتهم ولمجرد مطالبتهم بأبسط حقوقهم. أطفال درعا، قبل حمزة الخطيب و باقي الشهداء، هم أنصع مثال على هذا العنف البربري النازي.
هل العنف وحده هو ما يفسر سياسة اﻷسد ؟ أم أن هناك و جهاً "عائلياً" آخر؟
حين كتب "علي اﻷسد" والد حافظ، رسالته ٳلى المندوب السامي الفرنسي عام 1936 مطالباً بٳنشاء دولة علوية في سوريا، خوفا من "اﻷكثرية السنية الظالمة" جاء فيها :
"هؤلاء السنة لا يخافون الله و لا يحترمون حق الآخرين في الوجود و الاختلاف. أنظروا ٳلى ما يفعلونه في أخوتنا اليهود في فلسطين، حيث يقاطعونهم و يرفضون التعامل معهم بل و يثورون ضد توافدهم على فلسطين هرباً من اضطهادهم في أوربا...".
في نفس الوقت كان علوي آخر، وطني، يكافح من أجل استقلال سوريا كلها و يرفض الاستقلال بدولة علوية عاصمتها اللاذقية، فهل كان "صالح العلي" خائناً لبني جلدته ، أعمى البصيرة و جاهلاً بنوايا "السنة العدوانية" ؟ أم أن "علي اﻷسد" كان كارهاً، ببساطة، للآخر السني الذي لم يؤذه بشيء ؟ بكلمة أخرى، هل كان علي اﻷسد "يُسقط" كراهيته الشخصية على الآخرين؟
اﻹسقاط هو ظاهرة نفسية يلقي فيها المرء بعيوبه و مخاوفه على الآخر، على مبدأ "رمتني بدائها و انسلّت". هذا يعني أن "علي اﻷسد" كان، في قرارة نفسه، يكره الآخرين و خاصة أهل السنة دون سبب وجيه و خَيّلت له نفسيته العدوانية أن "الآخرين هم من يكرهونه".
اﻹسقاط، مثل نفي الآخر و استسهال العنف، هي من سمات الشخصية المنحرفة، المعادية للمجتمع"السيكوباتية". هذا اﻹسقاط ذاته نجده حين يسم النظام اﻷسدي معارضيه بالخيانة و التآمر، في حين يرتع هذا النظام في ظل حماية "العدو الٳسرائيلي" و يلقى الدعم من أعداء الشعب و كارهي الحرية.
حافظ اﻷسد نشأ ٳذاً في كنف أب يعتبر العرب المسلمين السنة "أعداء" و يعتبر اليهود "أخوة". فهل استمر اﻷسد اﻷب في طاعة أبيه كما تربى دوماً ؟ كيف وافق حافظ بين واجب الطاعة ﻷبيه الخائف من السنة والمطالب بدولة علوية وبين انتمائه السياسي لحزب قومي عروبي، رافض للعصبيات القبلية والدينية و يسمي نفسه "حزب البعث العربي الٳشتراكي" ؟
هل مارس حافظ اﻷسد "التقية" و أعلن ما لا يضمر؟ هل جاهرصاحبنا بخطاب قومي و عروبي ﻹخفاء دوافعه الحقيقية وأفعاله الغير معلنة ؟ ماهي دوافع اﻷسد الكامنة و ما هو هدفه النهائي؟
هذا ما سنحاول رؤيته في المقالات المقبلة.
أحمد الشامي. نشرت في "حريات" جريدة اسبوعية في الداخل السوري العدد 16
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue16.pdf
سوريا : في الطريق إلى دولة العصابة 2-الصعود ٳلى النكسة :
بدأت حياة اﻷسد السياسية بانتسابه ٳلى حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يستقطب أبناء اﻷقليات مما أدى لاعتباره "حزباً علوياً " على حد وصف باتريك سيل كاتب السيرة الرسمية للأسد.
من المستبعد أن يكون انتماء اﻷسد الحزبي هذا قد تم دون موافقة ضمنية من والده، فاﻷسد لم يكن يفعل شيئاً دون استشارة هذا اﻷخير. اﻷسد المراهق، مثل صدام حسين في نفس العمر، كان ذراعاً ضاربة للبعثيين لدرجة أثارت نقمة اﻷخوان المسلمين عليه. في عام 1948 تلقى اﻷسد طعنة في الظهر من قبل أحد المنتسبين للأخوان المسلمين بقصد قتله. يبدو أن للأسد من حينها ثأراً قديماً مع هذه الجماعة و حذراً مرضياً منها.
اﻷسد، ذو العشرين عاماً، كان ينوي دراسة الطب في الجامعة اليسوعية ببيروت لكن ضيق ذات يد والده، وربما تفضيل هذا اﻷخير لطفله اﻷصغر "رفعت" منعا حافظ من التوجه لبيروت بغرض تقديم طلب انتسابه لهذه الجامعة. لماذا الجامعة اليسوعية وليس جامعة دمشق اﻷقرب وطنياً ؟ هذا ما لا يجيب عليه باتريك سيل. على كل حال، هذه الحادثة ستخلف لدى اﻷسد حقداً على مهنة الطب سوف يتجلى بعد سنوات حين قام اﻷسد بتفكيك هياكل النقابات الطبية و فتح باب كلية الطب واسعاً أمام أعداد كبيرة من طلبة الريف للالتحاق بها، بل و ٳرسال بعثات دراسية لكليات الطب في أوربا الشرقية ! مما نجم عنه زيادة هائلة في عدد اﻷطباء وتدهور الظروف المعيشية لهؤلاء بسبب أعدادهم الكبيرة، مما دفع الكثيرين منهم للهجرة.
حين قبل اﻷسد على مضض التوجه للكلية الحربية حيث "سيتلقى راتباً و يتخرج بدخل محترم" كان يفعل كالعشرات من أبناء الريف المحرومين الذين وجدوا في الجيش مجالاً للترقي و العيش الكريم. منذ الاحتلال الفرنسي، شجع المستعمر أبناء اﻷقليات والمحرومين على الالتحاق بالجيش حيث أبلى هؤلاء بلاء حسناً و اندمجوا في هياكل الجيش المحتل لدرجة أن حوالي ثلاثة آلاف من هؤلاء العسكريين اختاروا ترك بلدهم والرحيل مع الفرنسيين للاستمرار في خدمتهم في جبهات أخرى، في الجزائر و فييتنام.
حتى قيام الوحدة مع مصر، كان "الخط البياني للأسد و مستقبله في صعود " بحسب باتريك سيل. لكن، حين قام عبد الناصر بحل اﻷحزاب في سوريا و بمنع الضباط من الاشتغال بالسياسة، بدأت أحلام اﻷسد الوردية بالتبخر. عبد الناصر أراد وحدة عربية على مقاسه و بشرط أن يكون في موقع القيادة. اﻷسد الذي عايش انهيار آمال الوحدة و شاهد بأم عينه كيف انتهى الحلم الوحدوي ٳلى كابوس القمع والفشل، أدرك أن كل ما كان يتداوله مثقفو البعث عن الوحدة و العروبة ما هو ٳلا أضغاث أحلام لن تصمد أمام امتحان الواقع.
عقد حافظ العزم حينها على أن يتعلم من أخطاء عبد الناصر. أدرك صاحبنا أن "التشدق بالوحدة خير و أبقى من تحقيقها فعلاً" وأن بعض اﻷحلام من الأفضل لها أن تبقى أملاً صعب المنال من أن تتحقق على أرض الواقع. من حينها بدأ تعلق اﻷسد بالخطاب المزدوج و ٳتقانه " للعُهر اللغوي " على مبدأ "ليس مهما ما تفعله حقاً ، بل ما يظن الناس أنك تقوم بفعله " وهو من أهم مبادئ التحكم بالعقول و التلاعب بأذهان الناس.
حافظ تعلم شيئاً آخر من أخطاء عبد الناصر الذي ألغى الحياة السياسية في مصر و خاصة في الجيش. هذا الٳلغاء لكل عمل سياسي علني، أفسح المجال أمام حافظ و شركائه للعمل في السر من أجل تشكيل "اللجنة العسكرية" وهي خلية تآمرية مكونة من خمسة شركاء، كلهم من أبناء اﻷقليات، ثلاثة منهم علويون واسماعيليان. العجيب أن اﻷسد العروبي القومي و العلماني، لم يجد سوى أبناء أقليات دينية لكي يشاركوه في أحلامه القومية و العروبية ثم في الوصول ٳلى السلطة والتشبث بها.
تجربة اﻷسد المؤلمة في مصر الناصرية دفعته لدراسة كيفية تسييس الجيش السوري المقبل ٳلى درجة يتحول معها من مؤسسة هدفها الدفاع عن الوطن ٳلى هيئة ايديولوجية غايتها حماية النظام السياسي وٳدامة نمط معين من الحكم. عبد الناصر سار على نهج "محمد علي" و أراد تحقيق فصل تام بين الجيش المدافع عن الوطن و السياسة، فكانت النتيجة انهيار الوحدة و تآمر الضباط الانفصاليين عليه. اﻷسد تبنى مقاربة مختلفة وأراد بناء الجيش العقائدي على نمط مغاير تماماً للجيش الوطني، وهو ما نرى نتائجه اليوم، حين تتماهى ممارسات الجيش السوري العقائدي، جيش اﻷسد، مع ممارسات جيوش الاحتلال في أشكالها اﻷكثر دموية.
لم يأت اﻷسد فعلياً بجديد، فهو اكتفى بتقليد "ماو تسي تونغ" في السياسة التي اعتمدها للوصول ٳلى السلطة وللمحافظة عليها في الصين الشعبية، هذه السياسة التي انتهت ٳلى كارثة الثورة الثقافية في الستينات في الصين وٳلى مذابح بول بوت في كمبوديا في أواخر السبعينات. هذه السياسة الكارثية ذاتها لا تزال متبعة في كوريا الشمالية و في كوبا.
فصل آخر من سياسة "ماو تسي تونغ " يبدو أنه أعجب اﻷسد المولع بقراءته ، وهي سياسة "النخر من الداخل" Entrisme : في هذه السياسة يقوم الثائر (أو المندس) بالالتحاق بخصومه السياسيين، متظاهراً بالوفاء لهم وبالٳخلاص لعقيدتهم بل وبالتفاني في خدمة هذه العقيدة، مع محاولة تخريبها من الداخل. حين تدق ساعة العمل، يكشف الثائر (أو الخائن، سمّه ما شئت) عن وجهه الحقيقي و يوجه الضربة القاضية لعدوه.
حافظ اﻷسد كان قارئا نهماً ومحباً للعمل، جدياً و ملتزماً بنظام صارم في حياته المهنية و الشخصية، هذه الصفات التي أوصلته للنجاح حيث فشل آخرون، هي نفسها ما سوف يفتقده خليفته المقبل وهذا ما سيجعل "بشار اﻷسد" يستسهل السلطة والقيادة التي ورثها وهو ما سوف يكون سبب وقوعه في الخطأ تلو الآخر.
قدرات اﻷسد التنظيمية ، دقته ومهنيته ، ثقافته السياسية و " زهده " الظاهري في السلطة ، هذه كلها دفعت صلاح جديد لارتكاب خطأ قاتل ، حين كلف صلاح جديد زميله و بيت سره اﻷسد بٳعداد الجيش السوري عقائدياً، بعدما أوكل ٳليه قيادة سلاح الجو السوري ووزارة الدفاع. أصبح الطريق ممهداً أمام اﻷسد للقفز قريباً على السلطة. لكن اﻷسد الحذر فضل انتظار الظروف المناسبة لكي لا يكون مجرد ضابط جديد يستولي على السلطة في غفلة من زملائه، قبل أن يقوم آخرون من أمثاله بطرده منها.
في تلك الفترة، زار اﻷسد بريطانيا "بحجة المعالجة ". بٳمكاننا أن نفترض أن وزير الدولة البريطاني الذي قابله أراد أن يعرف أي صنف من الرجال هو اﻷسد، هذا النجم الصاعد في سماء السياسة السورية المتقلبة. لا بد أن المقابلة قد أثلجت صدر الوزير البريطاني ، بدليل أن الغرب سوف يبارك صعود اﻷسد المقبل ٳلى سدة الحكم في دمشق وسيبقى متعلقاً به حتى بعد مماته.
مع ربيع العام 1967، اﻷسد قائد سلاح الجو السوري ووزير دفاع البعث، المنوط به حماية البلاد من العدو الصهيوني، كان مشغولاً بتحويل الجيش السوري ٳلى جيش عقائدي لحراسة نظام البعث اﻷقلوي في دمشق، ضد كل اﻷخطار سوى تلك القادمة من الجنوب، من كيان العدوان الصهيوني الذي بني الجيش السوري لمواجهته.
هل كان لدى اﻷسد المشغول بأعدائه الداخليين و منافسيه ما يكفي من الوقت ليدرك أن الكيان الصهيوني قد تجاوز مرحلة بناء الدولة ووصل ٳلى درجة من القوة تسمح له بفرض ٳرادته على محيطه ؟ رئيس وزراء ٳسرائيل حينها، ليفي اشكول، وجد نفسه محاطاً بجنرالات من الصقور على رأس جيش قوي و منظم. ٳسرائيل كانت قد أصبحت قوة ٳقليمية عظمى قادرة على الصمود أمام ضغوطات الدول الكبرى، مع مشروع نووي شبه مكتمل.
إسرائيل العالمة ببواطن اﻷمور في دمشق كانت تعرف كيف تستدرج هذا النظام المتهور و فاقد الكفاءة ٳلى حيث تريد و تشتهي، فأدخلته في مناوشات عسكرية خاسرة حين أصبح الوضع مؤاتياً لها. نظام البعث اليساري المتطرف في دمشق أطلق فوراً صرخات الاستغاثة باتجاه حليفه الناصري بعدما أذاع الروس أن ٳسرائيل تنوي مهاجمة سوريا. هكذا قام النظام الغوغائي في دمشق بما كان متوقعاً منه وهو توريط عبد الناصر في حرب لم يكن يريدها و سيخسرها.
اﻷسد الحصيف والحذر، العالم بميزان القوى وبأهمية سلاح الجو في أي معرك صرّح أنه : لم يكن يتوقع أن ٳسرائيل، التي ما فتئ جنوده يتحرشون بها في مناوشات عديمة اﻷهمية الإستراتيجية، قد تهاجم العرب ! هل كان اﻷسد عديم الكفاءة ، جاهلاً ، أم أنه كان يتجاهل ؟
في اعتقادنا أن اﻷسد كان متيقناً من أن ٳسرائيل سيكون لها قصب السبق في أي صراع مقبل مع العرب، لكنه ككل "زعيم عصابة مقبل" يحترم نفسه أراد أن يحجز لنفسه مكاناً في الانتصار اﻹسرائيلي المقبل عبر تسهيل هذا الانتصار ثم الانتظار و قطف المكاسب.
هكذا، أكّد الرفيق "حافظ اﻷسد " للقيادة البعثية أن الجيش السوري "جاهز لكل الاحتمالات و مستعد للذود عن الوطن " رغم علمه المسبق بضعف امكانات جيشه و بعدم جاهزيته ﻷي مهمة. شارك اﻷسد هكذا بشكل عملي في توريط عبد الناصر وأصدقائه البعثيين في حرب خاسرة سلفاً و دون أي هدف. في نفس الوقت ، كان ينسج شبكات الولاء التي سوف تتولى قطف ثمار الانتصار اﻹسرائيلي المقبل.
كيف سيحول اﻷسد الهزيمة النكراء التي يتوقعها ٳلى مجرد "نكسة " سوف تسهم في تعبيد طريقه ٳلى قمة السلطة في دمشق ؟
هذا ما سنحاول رؤيته في المقالات المقبلة.
أحمد الشامي. نشرت في حريات : | | العدد السابع عشر | الاثنين 12 كانون الاول 2011 http://www.elaphblog.com/shamblog
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue17.pdf
سوريا : في الطريق إلى دولة العصابة 3-الصفقة :

الكل يعتقد بأن حرب اﻷيام الستة كان فيها منتصر واحد وهو ٳسرائيل، و عرب كلهم مهزومون. علوم السياسة و الإستراتيجية متفقة على هذا اﻷمر، لكن لدينا رأي آخر استنادا ٳلى مقاربتنا لعبقرية حافظ اﻷسد اﻹجرامية.
صحيح أن الانتصار الٳسرائيلي لا شك فيه، لكن بين العرب هناك من "انتصر" كفرد أو كنظام حكم.
ٳسرائيل هزمت العرب و ضاعفت مساحتها عدة مرات، مسحت مرارة انسحاب عام 1956 واحتلت كامل القدس ٳضافة ٳلى استيلائها دون جهد يذكر على سيناء و على الجولان المحصن وثرواته. ٳسرائيل كانت ستنتصر على أي حال، لكن مساهمة "المنتصرين" العرب في جهدها العسكري جعلت الانتصار سهلاً و بخس الثمن.
الملك الصغير، داهية العرب، الملك "الحسين بن طلال" نجح في ٳنقاذ نظامه الملكي في اﻷردن. قبل النكسة، كانت الضفة الغربية بكاملها تحت ٳدارة أردنية و كانت حواضر فلسطين العربية خاضعة للحكم الهاشمي في عمان. ٳرهاصات الثورة و التململ الفلسطيني كانت قد بدأت قبل حرب حزيران خاصة في صفوف اللاجئين من عام 1948. سقوط العرش الهاشمي كان قد أصبح مسألة وقت وكاد حاكم عمان يلحق بسلفيه الهاشميين الذين سقطا أولا في دمشق على يد الفرنسيين ثم في العراق على يد عبد الكريم قاسم.
الفلسطينيون المتحضرون، خاصة من أبناء المدن، صاروا يتذمرون من الحكم العشائري في عمان، اللاجئون الفاسطينيون أدركوا عجز العرب و الملك عن ٳعادتهم لبلادهم. أما أبناء القبائل الاردنيون فقد أصبحوا يشعرون بأنهم أقلية في بلدهم.
هذا ربما يفسر مسارعة الملك حسين للمشاركة في حرب كان يعلم أنها خاسرة سلفاً و لم يكن مضطراً للتورط بها. مشاركة اﻷردن في الحرب كانت في النهاية مصلحة ٳسرائيلية و لم تكن لتغير شيئاً في موازين القوى العسكرية. هذه المشاركة سمحت للملك الصغير بالتخلص من عبء القدس و الضفة الغربية بٳلقائهما في حضن ٳسرائيل ! دخول اﻷردن الحرب رسمياً أضعف الدفاعات السورية في الجولان. "المشاركة" اﻷردنية في الحرب تسمح قانونياً ﻹسرائيل بالالتفاف على الحصون السورية في الجولان عبر اﻷراضي اﻷردنية و بمحاصرة الجيش السوري وسحقه هناك. خسر اﻷردن العربي الحرب كبلد و كدولة، لكن العرش الهاشمي كسب بقاءه.
"المنتصر" العربي الثاني، حافظ اﻷسد، ما كانت لتغيب عنه هكذا تفاصيل. اﻷسد كان يدرك أن ٳسرائيل ستنتصر مهما فعل العرب ﻷنها اﻷقوى عسكرياً وبمراحل، ليس فقط بفضل الدعم اﻷمريكي، لكن أيضاً بجهود اﻹسرائيليين الذاتية في ظل تقاعس عربي مزمن، فلماذا لا يحقق اﻷسد لشخصه مكسباً من النصر اﻹسرائيلي المتوقع ؟
الصورة لم تكن وردية تماماً على الجانب اﻹسرائيلي، فاليهود كانوا خائفين من رد فعل الاتحاد السوفيتي و متوجسين من تخاذل اﻷمريكيين عن نصرتهم ٳن هم احتاجوا للعون.
هنا لا بد من العودة ٳلى الوضع الذي كان قائما عشية التاسع من حزيران 1967 بعد تدمير سلاحي الجو المصري ثم السوري و احتلال الضفة الغربية و سيناء.
الأمريكيون، المتورطون حينها حتى الركب في حرب عصابات مكلفة في فيتنام، لم يكونوا راغبين في الانزلاق ٳلى مستنقع عسكري جديد في الشرق اﻷوسط. مع ذلك، كان التدخل، ولو غير المباشر، سيفرض نفسه عليهم ٳن اشتبكت ٳسرائيل في حرب ضروس قد تهدد وجودها، خاصة ٳن كان أحد أطراف الصراع هو الاتحاد السوفيتي.
السوفييت كانت لديهم مشكلة أخرى، فهم من ورطوا حلفاءهم البعثيين السوريين في حرب خاسرة سلفاً و لديهم أزمة مصداقية تجاه حلفائهم منذ حادثة الصواريخ الكوبية في تشرين اﻷول من عام 1962، حين قام "كاسترو" بتحريض من "تشي غيفارا" بالتفاهم مع الاتحاد السوفييتي لنصب صواريخ نووية قبالة البر اﻷمريكي. الرئيس اﻷمريكي "جون كينيدي" حرك أسطوله لمنع سفن السوفييت من الوصول لكوبا. خروتشوف تراجع حينها و سحب صواريخه لتفادي حرب نووية. من يومها ساد اعتقاد لدى قادة الحزب الشيوعي السوفييتي أن خروتشوف "جبان و متخاذل في وجه العم سام".
أزمة مشابهة سوف تتكرر عام 1967 لكنها ستجد نهاية سعيدة بالنسبة للكبار بفضل حافظ اﻷسد.
بريجنيف، الذي خلف خروتشوف في قيادة الاتحاد السوفييتي قدم نفسه على أنه رجل صلب لا يتراجع، على عكس سلفه خروتشوف. حين أصبح وضع حلفائه البعثيين في دمشق مهدداً من قبل ٳسرائيل التي اجتاحت سيناء و الضفة الغربية وسحقت القوى الجوية العربية، أصدر بريجنيف اﻷوامر ﻷسطوله في المتوسط بالاستعداد لمهاجمة ٳسرائيل، بدءاً بميناء حيفا، دفاعاً عن نظام البعث في دمشق و لتخفيف الضغط عليه.
حينها بالضبط أصدر وزير دفاع البعث السوري، حافظ اﻷسد، بيانه الشهير حول سقوط الجولان قبل أن يدخله أي جندي ٳسرائيلي ! أحد الوزراء السوريين ممن كانوا في زيارة للمنطقة، سمع بسقوط القنيطرة وهو لم يزل داخلها ! حين اتصل الوزير بحافظ اﻷسد للاستفسار عن اﻷمر رد عليه اﻷخير بفظاظة "بأن لا يتدخل فيما لا يعنيه"!
هذا البلاغ "الخاطئ" كان ضربة العمر بالنسبة للأسد. بهذه المناورة وفر صاحبنا على السوفييت تدخلاً عسكرياً مكلفاً لم يكونوا راغبين به كثيراً ، أعطى هذا البيان المبرر لبريجنيف لكي يقول لرفاقه في اللجنة المركزية "أن اﻷمر قد انتهى وأن الجيش السوري قد انهار فلا معنى للتدخل من أجل معركة قد خسرها صاحبها سلفاً" خاصة أن ٳسرائيل لم تهاجم دمشق بعد سقوط الهضبة و اكتفت بثمرة الجولان الناضجة.
حين أتبع اﻷسد بيان السقوط بأمر "الانسحاب الكيفي" فهو "أهدى" عملياً الجولان ﻹسرائيل دون قتال، لو كان الجيش السوري قد حارب وتمسك بمواقعه المحصّنة، لكانت ٳسرائيل ستضطر للالتفاف عليها عن طريق شمال اﻷردن و تهديد دمشق وفي نفس الوقت ستحاصر القوات السورية المدافعة عن الجولان. هذا ما كان اﻷسد يرغب في تجنبه ﻷنه كان سيؤدي ربما ٳلى دخول السوفييت على الخط لحماية دمشق و نظام البعث فيها و قد يكون من "نتائجه الجانبية" تدمير الجيش السوري بشكل كامل، هذا الجيش الذي سيكون سنده المقبل في الوصول ٳلى السلطة.
كان في ٳمكان اﻷسد، نظرياً على اﻷقل، التمسك بالجولان و الدفاع عن الوطن ثم وضع السوفييت أمام مسؤولياتهم و دفعهم للتدخل لحماية النظام الذي كان ربما كان سيخرج من اﻷزمة سالماً غانماً. لكن اﻷسد لم يفعلها، فلماذا ؟
اﻷسد لم يفعل ذلك "لكي يوفر الجهد" على السوفييت، لكنه كان على ثقة أن التدخل السوفييتي لحماية النظام لن يكون مجانياً. السوفييت لن يتورطوا عسكرياً لحماية سوريا ثم يرحلون. لو أتى السوفييت فهم سوف يأتون ليبقوا و سيقومون بدعم "أخوته اﻷعداء" من يساريي النظام و سيعملون على تحويل سوريا ٳلى نظام شيوعي خاضع لموسكو بقيادة "صلاح جديد". قدوم السوفييت للمساعدة في الدفاع عن النظام كان سيعني أن أحلام اﻷسد في حكم سوريا لوحده سوف تتبخر، وكان سيضع ٳسرائيل وجها لوجه مع السوفييت وهو ما لم تكن تريده الدولة العبرية.
هكذا تلاقت أهداف اﻷسد ومصالح ٳسرائيل ﻷول مرة و سوف تستمر في الالتقاء مرات و مرات في المستقبل.
بضربة معلم، أرضى اﻷسد كل اللاعبين الكبار في المنطقة. أمام رفاقه البعثيين، أوضح لهم أنه بٳعلانه سقوط الجولان أنقذ النظام من سقوط محقق ﻷن الجيش السوري الذي فقد الغطاء الجوي كان سيتم سحقه و لن يبقى أحد ليحمي نظام البعث في دمشق خاصة أن االدعم الروسي لم يكن مضموناً ونتيجته غير مؤكدة. الروس لم يحتاجوا للتدخل عسكرياً و حافظوا على ماء وجههم ٳضافة ٳلى أن النظام الذي كانوا سيحمونه قد نجا من اﻷزمة "بفضل حنكة وزير دفاع هذا النظام".
اﻷمريكيون شاهدوا بعين الرضى انتصار ربيبتهم ٳسرائيل السهل و رخيص الثمن، دون أن يضطروا لمساعدتها. أخيراً ٳسرائيل نالت كل ما تبتغي و أكثر، بل لعل اﻷسد سوف يكون رجلها المقبل في دمشق.
هكذا كسب اﻷسد رضا اللاعبين الكبار، ٳقليمياً و دولياً، وهم الذين ضمنوا له حكم سوريا مستقبلاً، له ولذريته من بعده، دون منازع.
لكن اﻷسد الصبور و الذكي كان يطمع ﻷكثر من مجرد القفز على السلطة فوراً، اﻷسد كان يريد أكثر من ذلك بكثير.
ماذا كان يريد اﻷسد و ماهي خطواته المقبلة ؟
هذا ما سنحاول رؤيته في المقالات المقبلة.
أحمد الشامي. نشرت في حريات : | | العدد 18 |الاثنين 19 كانون الاول 2011 http://www.elaphblog.com/shamblog
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue18.pdf

سوريا : في الطريق إلى دولة العصابة 4: اﻷخوة اﻷعداء

نستمر في متابعتنا لمسيرة "حافظ اﻷسد" و محاولة فهم كيفية وصوله ٳلى السلطة واحتفاظه هو ثم ذريته بها. نريد تفسير كيف قام اﻷسد بانتقاء أزلامه و بالتحالف تدريجياً مع شرائح واسعة من المجتمع، ثم تغيير تحالفاته حسب اللزوم. نذكر القارئ الكريم بأننا نقوم بهذه المحاولة التحليلية اهتداء بعلم النفس الاجتماعي و خاصة علم النفس اﻹجرامي وأن هذه السلسلة لا تدعي تفسير كل سلوكيات اﻷسد ولا تدرس بنية النظام الاجتماعية أو السياسية، وهي علوم لا ندعي ٳتقانها.
رداً على استفسارات القراء أود أن أنوه أننا ندرس شخصية و سلوك اﻷسد بنفس الطريقة التي نحلل بها ظاهرة ٳجرامية و طرائق عمل جماعات الجريمة المنظمة، هذا يفسر اعتمادنا على دراسة الوقائع و فهم الدوافع بشكل مجرد في غياب أي جهد توثيقي أكاديمي محايد لمرحلة الحكم اﻷسدي.
دولة اﻷسد في رأينا هي الشكل اﻷرقى لدولة العصابة المافيوية : Thug State » « . هذا يفسر غياب الدراسات الموضوعية المستقلة لممارسات اﻷسد، عدا بعض جهود مشكورة قام بها أحرار معارضون، دفع أكثرهم ثمناً لها من حياتهم، من بينهم الشهداء سمير قصير، جبران تويني وسليم اللوزي وغيرهم. آخرون دفعوا الثمن من حريتهم لمجرد التطرق لمحاولة فهم طرائق عمل النظام و يعيش أكثرهم مختفين أو لاجئين. كاتب هذه السطور يحاول بجهده المتواضع تبسيط مفاهيم علم الجريمة المنظمة وٳعطاء أمثلة عملية عن كيفية تشكيل الدولة اﻷسدية، تماماً كما تتشكل عصابات المافيا و لكن بحجم دولة كاملة، مع شعب يرزح تحت حكم عصابة من القتلة.
عودة ٳلى حزيران ١٩٦٧ وبعدما انجلى غبار "المعارك " عن هزيمة ساحقة لثلاثة جيوش عربية نظامية تفتقت عقلية حكام سوريا البعثيين عن نظرية "المجتمع المقاوم" و أن الاشتراكية العلمية هي وحدها السبيل لتجاوز الضعف العربي المزمن و الانقسام بين شعوب الضاد.
في هذه الظروف وجد اﻷسد من مصلحته تعميق تحالفه المرحلي والمصلحي مع زملائه من الجناح البعثي اليساري. كان حافظ يهدف لتجاوز حقيقة أنه كان وزير دفاع الهزيمة و أنه المسؤول اﻷول عن "البهدلة" التي لحقت بجيشه، اﻷسد كان يريد ٳلصاق مرارة الهزيمة بالنظام ككل لا بشخصه. في تلك الظروف وجد الجميع أن مصلحتهم تقضي بالتكاتف معا و باجتراح بدعة "أن هدف ٳسرائيل كان ٳسقاط نظام البعث السوري و ما دام النظام لم يسقط فٳن ٳسرائيل قد خسرت المعركة !"
وحده وزير الصحة حينها "عبد الرحمن اﻷكتع " استقال بعدما ضربه حافظ اﻷسد رداً على سؤال حول بيان سقوط الجولان. الباقون أدركوا أن مصيرهم واحد و أن اختلافهم سيفسح مجالاً للشعب للتخلص منهم جميعاً. "زواج المتعة " هذا سيدوم حتى انقلاب اﻷسد النهائي على أصدقائه عام ١٩٧٠.
حافظ من جهته وبعدما اطمأن ٳلى رضى السادة الجدد للمنطقة عن سلوكه، عرف أن حكم سوريا سيؤول له حتماً فلماذا الاستعجال و حرق المراحل ؟ بعد أن ألقى عبء الهزيمة على كاهل رئيس اﻷركان "السويداني" استغل الفرصة لوضع صديقه وبيت سره مصطفى طلاس في رئاسة اﻷركان. هكذا ضمن اﻷسد سيطرته على الجيش بشكل كامل، خاصة بعدما طبق ما وصفه فيما بعد طلاس نفسه بسياسة "اﻷرضي شوكي" أي التخلص تدريجياً من كل ضابط يدين بالولاء لغير اﻷسد، بما فيهم شقيق "صلاح جديد" عزت ووضع أتباعه في مواقع القيادة و في المراكز الحساسة.
تدريجياً قام اﻷسد "بتنقية" الجيش من كل العناصر المشكوك بولائها له، في نفس الوقت استمر في تأطير القوات المسلحة حزبياً بهدف الوصول ٳلى الجيش العقائدي وهي المهمة التي سبق وكلفه بها "صلاح جديد" الغافل عن نوايا اﻷسد الحقيقية.
"صلاح جديد" كان رجلاً طوباوياً وساذجاً نوعاً ما، كان مؤمناً بالاشتراكية العلمية و صديقاً للاتحاد السوفيتي، بكلمة أخرى كان رجل السوفيت في سوريا. لنتذكر أن اتفاقات يالطا التي رسمت حدود المنتصرين في الحرب العالمية الثانية لم تكن تسمح للسوفيت بوضع اليد بشكل مباشر على أي من بلدان الشرق اﻷوسط، وهو ما كان قد منع الشيوعيين السوريين من القفز على السلطة. من جهة أخرى، لا شيء يمنع قيام نظام صديق للسوفييت لكن غير شيوعي في سوريا.
هذا ما يفسر تردد السوفيت في دعم نظام "صلاح جديد" والدخول على الخط السوري بقوة وبشكل مباشر وهو ما فهمه حافظ اﻷسد الذي أدرك أن هناك مجموعة مصالح سوفيتية، اقتصادية، عسكرية و سياسية تتعلق بموقف الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، وفهم أن لا أمريكا ولا السوفييت لهم الحق في السيطرة بشكل مطلق على سوريا وهو ما كان سيعد ٳخلالاً بموازين القوى بين العملاقين. لو كانت ٳسرائيل اجتاحت سوريا في عام ١٩٦٧ لكانت ربما فرضت على السوفيت التدخل لفرض احترام اتفاقية "يالطا" كائنا من كان الحاكم في دمشق.
هذا يعني أن على من يحكم سوريا أن يحترم هذه التوازنات فيكون صديقاً للسوفيت دون أن يكون عدواً لدوداً ﻷمريكا، أو العكس، و يعني، أيضاً، أن من يتوصل لحكم الشام دون الاستعانة مباشرة بأطراف خارجية، سيتمكن من الاحتفاظ بالسلطة بل و "سيكسب من الطرفين ما دام يلعب في المنطقة الرمادية دون أن ينحاز مباشرة ﻷي من الطرفين ". هذا ما جاء على لسان رفعت اﻷسد عام ١٩٧٥ أثناء استقباله لزائري مواقع سرايا الدفاع قرب دمشق و كنت يومها بينهم.
من المحتمل أن يكون حافظ اﻷسد قد وظّف فترة " المساكنة " هذه مع ٳخوته اﻷعداء لفتح قنوات اتصال مع "اﻷطراف المعنية" خاصة مع الروس لطمأنتهم على مصالحهم. لا نعرف ٳن كان له في تلك الفترة صلات مباشرة مع ٳسرائيل، فصلاته المثبتة لدينا مع الدولة العبرية جرت في فترة التسعينات. أيضاً لا نعرف ٳن كان هو المخطط الوحيد و المنفذ لمخططاته ، أو ٳن كان هناك "ملاك حارس" سري من جهة دولية أو ٳقليمية يسدد خطاه. اﻷكيد أن صعوده ٳلى سدة السلطة في دمشق كان شيئاً مرغوباً لدى اﻷطراف المعنية دون استثناء، خاصة بعدما أبدى موهبة استثنائية في "ٳنهاء" أزمة حرب اﻷيام الستة، بشكل أرضى كل اﻷقوياء، على حساب أرض وكرامة سوريا، وهو ما سبق و فصلناه في مقالة سابقة (الصفقة).
اﻷسد بعمله هذا كان يحترم على طريقته تفاهماته مع "صلاح جديد" الذي كان مسؤولاً عن تأطير المجتمع المدني و تسخيره لصالح الحزب القائد، في حين كان اﻷسد موكلاً بتحويل الجيش السوري ٳلى جيش عقائدي ستوكل له مهمة حماية النظام، وهو ما سيقوم به على أكمل وأبشع وجه حين سيحمي الجيش النظام ولكن نظام اﻷسد لا نظام الحزب.
اﻷسد في كل سلوكياته اعتمد مبدأ " بسمارك " : "القوة تعلو على الحق ". اﻷسد اعتمد أولاً على امتلاك ناصية القوة ، تماماً كما كان يفعل هو سابقاً حين كان مراهقاً، وكما فعلت عائلته من قبل حين كان اﻹقطاعيون يوظفون أفراد عائلة "الوحش" من ذوي القوة الجسدية "لتأديب" الفلاحين ممن يشقون عصا الطاعة. كان بٳمكان صلاح جديد وأعوانه أن يفعلوا ما يشاؤون مادامت القوة الضاربة بيد اﻷسد وحده عملياً منذ أن أوصل حليفه "مصطفى طلاس" ٳلى رئاسة اﻷركان بعد هزيمة ١٩٦٧.
اﻷسد نظر بعين الرضا ٳلى ٳصلاحات زملائه الزراعية وٳلى النزاعات التي نتجت عنها، والتي لن يصيبه رذاذها. هذه اﻹصلاحات أغضبت ملاك اﻷراضي و أرضت القاعدة الاجتماعية الفلاحية التي ستكون اﻷساس لحكم اﻷسد المقبل. تقارب يساريي الحزب العلني مع الاتحاد السوفيتي أغضب اﻷمريكيين و صب في النهاية لصالح تقوية موقع اﻷسد كرجل متزن يقف في الوسط بين العملاقين.
اﻷهم من ذلك كله كان عملية تأطير الشعب السوري ضمن منظمات شعبية ملحقة بحزب البعث، من منظمات طلابية، نسائية، اتحادات عمالية و فلاحية و شبابية الخ. اﻷسد سوف يستمر في الاعتماد على هذه الكوادر و المنظمات و سيجعل منها أحد دعائم حكمه الشمولي المقبل ، مقتدياً بمثله اﻷعلى الكوري "كيم ايل سونغ". اﻷسد سيذهب في تقليد مثله الكوري ٳلى حد لم يسبقه ٳليه أحد في العالم العربي وهو تشكيل "طلائع اﻷسد" ذلك المشروع اﻹجرامي في حق طفولة ملايين السوريين الذين ستفرض عليهم "عبادة اﻷسد".
حتى ربيع عام ١٩٦٩ اختار اﻷسد التزام الحذر والحيطة القصوى لعدة أسباب، صحيح أنه بعد قتل سليم حاطوم و ٳقصاء آخرين، ثم تحييد أعدائه في المؤسسة العسكرية كان قادراً على تسلم السلطة في أي لحظة وسط مباركة دولية وٳقليمية، لكنه كان يرسم الخطط ليس فقط للوصول ٳلى السلطة بسلاسة ولكن للاحتفاظ بها له و ربما لذريته من بعده و لممارسة سلطة مطلقة دون شريك أو مساءلة.
في هذه الفترة قام اﻷسد ببناء ذراعين ضاربتين تتبعان له شخصياً بشكل حصري و مباشر، هما "سرايا الدفاع" بأمرة أخيه "رفعت اﻷسد" و جهاز "مخابرات القوى الجوية ". اﻷسد أصبح له جيشه و جهاز مخابراته الخاصّين، أصبحت له دولة داخل الدولة. ما عاد ممكناً أن يغدر به أي من "أخوته".
في أوائل عام ١٩٦٩ بقي حاجز أخير أمام تكريس اﻷسد زعيماً مطلقاً لسوريا. هذا الحاجز كان اسمه عبد الكريم الجندي...
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في حريات : | | العدد 20 |الاثنين 2 كانون الثاني 2012
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue20.pdf

سوريا، في الطريق إلى دولة العصابة 5 : شريعة القتل


كيف تفعل عصابات المافيا حين تريد وضع يدها على منطقة ما ؟ علم الجريمة يعلّمنا أن زعيم العصابة يبدأ بتأسيس رأس جسر ثم بتجنيد اﻷتباع ممن يثق بهم، خاصة من أفراد عائلته و جماعته. بعدها يبدأ في زرع أعوانه في المراكز الحساسة و في جمع المعلومات عن كل من يمكن له أن يكون منافساً أو أن يعترض طريقه و يعرقل أعماله.
هذه هي المرحلة اﻷكثر دقة في تطور المافيات، حيث تقل فرص النجاح أو تنعدم حين يصطدم المجرم بمنافسين أقوياء أو حين تعترض طريقه أجهزة أمن نزيهة. المنافسون يتم حل المشكلة معهم ٳما بدمجهم في البنية المافيوية الجديدة، أو يتم التخلص منهم ولو بتصفيتهم جسدياً ٳن هم عاندوا. أجهزة اﻷمن يتم شراء رؤسائها بالمال أو بتوريطهم في قضايا أخلاقية و تشويه سمعتهم لكي "يتعاونوا". ٳن بقي هؤلاء مصرين على "ركوب رأسهم" يقوم المجرم بتصفيتهم هم أيضاً بطريقة لا تثير الشبهات حوله واﻷفضل هو "انتحارهم".
علم الجريمة يعلمنا أيضاً أن الجريمة الكاملة هي جريمة "تبدو" و "كأن" فاعلها معروف و دوافعها مفهومة. ستالين و هتلر ومثلهم كثر وجدوا في "انتحار" خصومهم حلاً لمشاكلهم. ستالين كان يقول : "فلان مشكلة ، لا مشكلة...". هذا اﻷسلوب كان غريباً عن الممارسات السياسية التي عرفتها المنطقة قبل حافظ الأسد الذي أقام مافيا بحجم دولة، مافيا مبنية على تبادل المصالح اللامشروعة، تشريع القتل و تقنين النهب.
بعدما تمكن حافظ اﻷسد من عزل اللواء "عزت جديد " قائد اللواء 70 و التخلص منه "بالذوق" لم يبق قادراً على اعتراض، أو تعقيد، وصوله ٳلى السلطة سوى رئيس مكتب اﻷمن القومي والمسؤول عن أجهزة أمن ومخابرات البعث اليساري، العقيد "عبد الكريم الجندي ". الطريقة التي سيتخلص بها اﻷسد من هذا المنافس المشاغب ستتكرر على مدى أربعين عاماً مع بعض التنويع في التفاصيل. طريقة التنفيذ تحمل بصمات اﻷسد تماماً كالمجرم السيكوباتي (pervers) الذي يعتمد نفس الطريقة في ارتكاب جرائمه كل مرة. أسلوب اﻷسد في التخلص من خصومه يطابق ممارسات المافيات العريقة.
من الممكن أن يكون العقيد الجندي قد تمكن، متأخراً، من فهم استراتيجية اﻷسد ومعرفة طموحات هذا اﻷخير وخطورتها على نظام "صلاح جديد" بل وعلى البلد، مما يجعل فرضية أن "عبد الكريم الجندي" أراد التخطيط لاغتيال "حافظ اﻷسد" منطقية. على كل حال، فالعقيد "الجندي" فشل في محاولته الحصول على الدعم من قبل جماعة "جديد" و"انتهى به اﻷمر ٳلى الانتحار بعدما رفض صلاح جديد فتح جبهة ضد حافظ اﻷسد" على حد زعم "باتريك سيل". يتابع "سيل": حين ذهب "الجندي" ٳلى "صلاح جديد" ومعه اﻷدلة على "تورط الرفيق حافظ في ممارسات غير ثورية" رفض هذا اﻷخير اﻹصغاء ٳليه و وضع حد لسلوك اﻷسد "المغاير ﻷهداف الثورة".
لماذا تعامى "صلاح جديد" عن الوقائع و احتفظ بوزير دفاع النكسة الخائب؟
التفسير اﻷول لتخاذل "جديد" هو أن الرجل ساذج و مغفل لم يفهم أن اﻷسد يعد العدة لكي "يتغدى به". هذا الاحتمال ضعيف ﻷن "صلاح جديد" مثله مثل حافظ، متآمر من الطراز اﻷول و سبق له وأن خان زملاءه فليس معقولاً أن لا ينتبه لدلالات سلوك اﻷسد. اﻹحتمال الثاني هو أن "صلاح جديد" كان موافقاً ضمناً على كل ما كان يفعله اﻷسد من تركيز للسلطة في يده و من بناء الجيش على أساس طائفي و على ولاءات فئوية تحت اسم الجيش العقائدي المنوط به الدفاع عن النظام. هذا يعني أن "صلاح جديد" فسر سلوك العقيد "الجندي" على أنه احتجاج طائفي "اسماعيلي" على تمركز السلطة في أيد علوية بحتة. لنتذكر أن والد "صلاح جديد" كان من بين الموقعين على ذات الرسالة المطالبة بٳنشاء دولة علوية، خوفاً من "تسلط السنة المتعصبين، أعداء اﻷقليات بما فيها اليهود" مثله مثل رأس عائلة "الوحش" حينها، جد زميله ووزير دفاعه "حافظ اﻷسد".
في اعتقادنا أن "صلاح جديد" كان موافقاً عموماً على التوجه الطائفي للأسد، لكنه لم يتوقع أن يكون اﻷسد ملتزماً بمستقبله الشخصي أكثر من التزامه تجاه طائفته وتجاه نظام البعث.
رواية العماد مصطفى طلاس عن كيفية "تحييد" العقيد الجندي تستأهل الدراسة لكونها تتوافق مع طروحاتنا حول اﻷسلوب اﻹجرامي المحض الذي اتبعه اﻷسد قبل وبعد وصوله ٳلى السلطة. يقول طلاس: بعد أن فشل العقيد "الجندي" في مسعاه للحصول على الدعم من قبل القيادة، تحصن في مكتبه بحي الروضة. حينها قام "رفعت اﻷسد" باصطياد سائقي سياراته واحداً تلو الآخر، حين يجيئون لتعبئة سياراتهم بالبنزين في كازية هيئة اﻷركان. تماماً كما تفعل العصابات حين تصطاد المنافسين ثم تجندهم أو تتخلص منهم. بعدها حاصر "رفعت اﻷسد" مكتب اﻷمن القومي في الروضة. لنلاحظ أن شقيق وزير دفاع الدولة، قائد "ميليشيا" مسلحة، يحاصر مكتب رئيس المخابرات ! أي دولة قانون هذه ؟
في النهاية، يطلب "باتريك سيل" من القارئ أن يصدق أن "عبد الكريم الجندي" الرجل النزق و المتهور انتحر لمجرد أن زعران رفعت اﻷسد حاصروا مكتبه ! بل أنه وجد الوقت والقدرة على كتابة رسالة انتحار مفصلة ! علماً أنه من النادر أن يترك المنتحرون وراءهم رسائل. على كل حال فقد "صادف" أن الطبيب اﻹيطالي الذي عاين الجثة عاد ٳلى بلده في الساعات التي تلت ٳعلان وفاة العقيد "الجندي"....
قبل وبعد انتحار العقيد، سرت بحقه كل الشائعات الممكنة، من اتهامه بالعجز الجنسي، ٳلى تأكيد أنه فاسد وعقيم، حتى زوجته "انتحرت" هي اﻷخرى فيما بعد "لكن حزناً على زوجها ". ربما وفق المبدأ اﻷساسي لكل قاتل "لا تترك وراءك أي شهود". هل "انتحر" العقيد أم أن حافظ اﻷسد "انتحره" كما سينتحر من بعده الزعبي ثم غازي كنعان ؟ هذا ما لا نستطيع تأكيده لكن لنلاحظ أن أياً من الساسة العرب لم ينتحر باستثناء عبد الحكيم عامر بعد هزيمة حزيران. وحدهم خصوم اﻷسد السياسيون ينتحرون في أنسب الظروف للأسد !
اﻷسد لن يتوانى يوما عن اغتيال أي خصم سياسي محتمل حتى في المنفى، "محمد عمران" و "صلاح البيطار" وغيرهم كثر من الضحايا هم من سيعبدون طريق اﻷسد ٳلى السلطة.
غياب "عبد الكريم الجندي " عن الساحة ترك الباب مفتوحاً أمام اﻷسد للوصول ٳلى السلطة بسلاسة. يروي زائرو "نور الدين اﻷتاسي" رئيس الدولة حينها أنه كان يرسل ضيوفه الرسميين لمقابلة "حافظ اﻷسد" في وزارة الدفاع "ﻷنه من بيده اﻷمر". و نقل عنه أنه قال حين وصله خبر وفاة "عبد الكريم الجندي" : "اليوم تيتمنا". وصول اﻷسد ٳلى الرئاسة كان قد أصبح محسوماً، لم يفتح أحد أي تحقيق في موت رجل اﻷمن القوي حينها. دولة حافظ اﻷسد كانت قد ولدت و لا أحد كان يجرؤ حتى على السؤال.
وصول اﻷسد ٳلى السلطة يختلف عن كل ما عرفته سوريا من انقلابات عسكرية قبله ولا يشبهه سوى صعود "صدام حسين" بعد ذلك ٳلى سدة الحكم في العراق بعد ٳبعاد نسيبه و عرابه "محمد حسن البكر". قبل اﻷسد، ستالين ثم هتلر كانوا قد اتبعوا نفس الطرق القائمة على القتل و تصفية المزعجين. نظام اﻷسد له ٳذاً جذور مشتركة مع أشنع اﻷنظمة القمعية التي عرفتها اﻹنسانية. أي من هذه اﻷنظمة لم يزل دون التسبب بملايين الضحايا، حرب باردة و حروب ساخنة لا تعد كانت ضرورية للخلاص من الستالينية. التخلص من "هتلر" كلف البشرية أربعين مليون ضحية وآلاماً لا تنتهي. هذا برسم من يعتقد أن نظام اﻷسد قابل للٳصلاح وأن التفاوض معه قد يؤدي ٳلى نتيجة.
مهارة اﻷسد و حذقه يكمنان في مزاوجته لعدة استراتيجيات في الوصول ٳلى السلطة والاحتفاظ بها فيما بعد و هو ماسيطبع نظامه ٳلى اليوم. اﻷسد تمكن من الموافقة بين استراتيجيات سياسية - مافيوية و حتى عسكرية في انسجام ملفت. سياسياً، عانق اﻷسد الخطاب الشعبوي و العقائدي لأخوته في الحزب، متبنياً خطابهم المتخشب ومعتمداً على الحزب و منظماته الشعبية في السيطرة على البلاد، بعد تفريغ الحزب من كل محتوى فكري. في نفس الوقت، تصرف كزعيم عصابة لا يرحم، مراكماً اﻷتباع الذين اشترى ولاءهم بالمناصب وبالمحسوبيات، تخلص من خصومه جسدياً بعدما شوه سمعتهم وقام بنفي آخرين، بعدما جردهم من كل سلطة و هيبة.
استراتيجية اﻷسد العسكرية في الوصول ٳلى السلطة تستحق الدراسة. الرجل اعتمد طرائق أقرب ٳلى الغزو منها ٳلى القفز على السلطة. عادة كان العسكريون يقومون بتحريك قطعاتهم ٳلى العاصمة ليحاصروها، ثم يحتلون مبنى اﻹذاعة والتلفزيون ﻹصدار "البلاغ رقم واحد" قبل لملمة أزلام النظام البائد و سجنهم.
اﻷسد من جهته بدأ بالسيطرة على رأس جسر في السلطة، هو وزارة الدفاع التي جعل منها دولته الخاصة، دولة داخل الدولة، لها جيشها وجهاز استخباراتها و ميزانيتها الخاصة. من هنا تأتي أهمية "النكسة" عام 1967 و الخوف من الغزو اﻹسرائيلي اللذان كانت نتيجتهما زيادة ميزانية وزارة الدفاع بشكل سرطاني. اﻷسد وظف هذه الموارد كلها في خدمة مشروع وصوله للسلطة وليس في خدمة الدفاع عن الوطن. بعد تثبيت مواقعه في وزارة الدفاع، انتقل الأسد ٳلى توسيع رأس الجسر هذا و الامتداد أفقياً و عمودياً على مساحة القطر السوري، والاتصال بكل فئات وطبقات الشعب السوري، خاصة منها المتضررة من تهور وسياسات أخوته من يساريي البعث بهدف ضمان ولاء الجميع له.
أسلوب اﻷسد مشابه لما اتبعته الوكالة اليهودية في سطوها على فلسطين، حيث بدأت بزرع رؤوس جسر من المستوطنين، ثم قامت بتشكيل جيشها الخاص "الهاجانا" و أجهزة مخابراتها في ظل صمت و تواطؤ البريطانيين. تدريجيا قام الصهاينة بالتخلص من خصومهم و بزرع الفتنة بين أعدائهم و حين أتت الفرصة كان كل شيء جاهزاً لاغتصاب اﻷرض العربية في غفلة عن أصحاب الحقوق.
في رأينا أن اﻷسد كان قادراً على الوصول للسلطة منذ عام 1966، لكنه انتظر نضوج الوضع لكي لا يفقد السلطة بنفس السرعة التي اغتصبها بها. اﻷسد لم يرد أن يكتفي باغتصاب السلطة في سوريا، اﻷسد كان يريد اغتصاب القطر السوري كله.

أحمد الشامي. http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في العدد الواحد وعشرون من جريدة حريات - الإثنين 09 كانون الثاني 2012
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue21.pdf
دولة العصابة 6 : بناء الأسطورة

بعد التخلص من كل من لديه قدرة على ٳعاقة وصوله للسلطة، قبع حافظ منتظراً الفرصة المناسبة للقفز على السلطة وهي ستأتيه عام 1970 بعد أن قرر "زملاؤه" التدخل في اﻷردن لمساعدة الفدائيين الفلسطينيين ضد قوات الملك حسين. كان بمقدور اﻷسد وزير الدفاع أن يرفض تحريك القوات السورية و لكنه وافق بعد "أن نأى بنفسه عن هذا القرار..." . اﻷسد استمر في لعبته المزدوجة حتى النهاية، فقد قبل بٳرسال الجيش لكن دون توريط قطعات كافية في المعركة و دون استراتيجية عسكرية واضحة.
بالنسبة للملحق العسكري الباكستاني في عمان، والذي سيصبح رئيساً لباكستان، الجنرال "ضياء الحق"، سحق الهجوم السوري كان أشبه بلعبة أطفال. الرجل عسكري محترف و يتقن مهنته، ليس كالهواة في دمشق بمن فيهم وزير الدفاع الذي يتقن التآمر ولكنه لا يفقه شيئاً في الشؤون العسكرية.
حين عهد الملك "حسين" للجنرال "ضياء الحق" بقيادة الدفاعات اﻷردنية ضد القوات السورية الغازية، وضع تحت تصرفه بين ما وضع السلاح الجوي اﻷردني الضعيف، مع ٳمكانية الاستعانة بالصديق اﻹسرائيلي أو بالحليف اﻷمريكي ٳن لزم اﻷمر. لكن الرجل اكتفى بنصب كمين بسيط، وقعت فيه القوات السورية بغباء و تم "تحييدها". عادت القوات السورية تجر أذيال الخيبة بعدما أرسلها اﻷسد ٳلى التهلكة دون عتاد كاف ودون غطاء جوي.
حافظ اﻷسد أدرك مبكراً أن المقاومة الفلسطينية المسلحة قادرة على ٳزعاج ٳسرائيل ولكنها عاجزة عن حسم الصراع. قبل كل شئ كان اﻷسد يخشى من وجود عناصر مسلحة لا تأتمر مباشرة بأمره و قد تختار الوقوف ٳلى جانب خصومه من البعث اليساري في ساعة الحشرة.
اﻷسد نظر بعين الرضى ٳلى سحق المقاومة الفلسطينية من قبل صديقه الملك حسين، وأدرك أن عليه التحرك بعدها سريعاً قبل أن يلملم الفلسطينيون صفوفهم ويعيدوا تشكيل قوة ضاربة، لكن على اﻷرض السورية هذه المرة. أصدقاؤه البعثيون وجدوا في المقاومة الفلسطينية حليفاً قد يساعدهم على الضغط على ٳسرائيل ويساهم في تحرير الجولان ويمكن له أن يحميهم من بطش الأسد. هذا ما لم يكن حافظ يريده، وهو ما دفعه للٳسراع في القفز على السلطة.
حين حزم "صلاح جديد" أمره و طرد "حافظ اﻷسد" من حزب البعث، أعطى الضوء اﻷخضر للأسد كي يحسم اﻷمر وكانت الحركة التصحيحية، انقلاب قصر أبيض دون ضجيج أو أدنى مقاومة.
اﻷسد الذي كان قد اعتاد على ممارسة سلطة مطلقة من وراء الستار دون أن يتحمل وزر قراراته، وجد نفسه فجأة تحت اﻷضواء التي لن يتركها حتى وفاته. أصبح اﻷسد "يلعب على المكشوف" وصار عليه أن يطور سياساته الخاصة، داخلياً و خارجياً.
داخلياً اكتفى اﻷسد ب"تصحيح" قرارات اتخذها زملاؤه بموافقته، دون أن يلغيها! بدأ اﻷسد في تطبيق سياسة تهدف ٳلى جعل شخصه مركز الثقل الوحيد ومحور الحياة في الدولة السورية. ككل نرجسي منحرف، كانت كل مشكلة تعترض اﻷسد أو الدولة السورية، مناسبة لاجتراح حلول تعتمد حصراً على شخص الرئيس أو قراراته و "مكرماته".
مثلاً، اﻷسد أوقف مصادرة أراضي الملاكين، لكن بعدما كانت هذه السياسة قد استنفذت أهدافها. في مسألة السكن و لحل مشكلة نقص المساكن، قرر اﻷسد منع ٳخلاء المستأجرين بدل تحريك عجلة البناء والاستثمار السكني. بهذه الطريقة ضمن اﻷسد ولاء المستأجرين، وهم كثر ويشكلون قاعدته السياسية، دون أن يحل أزمة السكن، وهكذا دواليك.
خارجياً، أدرك اﻷسد حدود لعبة القوى العظمى ومدى استقلالية القرار اﻹسرائيلي عن القرار اﻷمريكي. حافظ اﻷسد فهم سريعاً أن ٳسرائيل لا تريد لا السلام ولا الاندماج في المنطقة. كان واضحاً للأسد أن استقراره في السلطة رهن بالقرار اﻹسرائيلي وبقدرته على الانسجام مع المشروع الٳسرائيلي في المنطقة.
إسرائيل تريد أن تبقى جزيرة من الاستقرار و الرخاء، معزولة عن محيطها، بشكل يحافظ على نقاء العنصر اليهودي و تماسكه، دون أن تتعرض لمضايقات ودون أن تدفع ثمن احتلالها للأراضي العربية. هذه الأهداف لا تتعارض أبداً مع مصالح الأسد الضيقة.
الحقيقة أن العلاقات السورية – اﻹسرائيلية لم تبدأ مع اﻷسد بل قبله بكثير، أول من راسل اﻹسرائيليين عارضاً خدماته كان حسني الزعيم.
لم يصدق "دافيد بن غوريون" عينيه حين وصلته رسالة من "حسني الزعيم" الذي كان قد وصل بعد أول انقلاب عسكري في العالم العربي إلى سدة السلطة في دمشق. "الزعيم" عرض في ربيع عام 1949 على أول رئيس وزراء لإسرائيل "تفاهماً" بين الدولة السورية بقيادته و بين دولة إسرائيل يتقاسم الاثنان بمقتضاه السلطة و النفوذ في كل منطقة الشرق الأوسط. عرضَ "حسني الزعيم" بين ما عرض، توطين 300,000 لاجئ فلسطيني في الجزيرة مقابل مبالغ مالية ضخمة.
حين تأكد "بن غوريون" من أن الرسالة ليست خدعة وأنها تنم عن رغبة حقيقية لدى هذا الرئيس الانقلابي للتعاون مع إسرائيل، تشاور مع مساعديه وقرروا أن الوقت غير مناسب لهكذا صفقات خاصة وأن فرص الرجل في البقاء محدودة. رفض "بن غوريون" بدبلوماسية عرض "حسني الزعيم" بحجة "أن إسرائيل تفضل التركيز على بناء دولة اليهود و ليس على اقتسام النفوذ مع أي كان". "بن غوريون" كان عارفاً بضعف الانقلابي السوري وبأن هذا الأخير كان محتاجاً لدعم الدولة العبرية لتقوية موقفه في اتصالاته مع الأمريكيين. فعلاً، قام "سامي الحناوي" بتخليص سوريا من "حسني الزعيم" في آب من نفس العام، قبل أن يعدمه هو و رئيس وزرائه بتهمة الخيانة.
حافظ الأسد حاز على ضمانات أقوى بكثير من "حسني الزعيم". بعد أن "أهدى" الجولان خاوياً على عروشه لإسرائيل، و سيطر تماماً على كل مفاصل السلطة في سوريا منذ آذار 1969، وظف الأسد فترة "الكمون" هذه لنسج الولاءات والاتصال "بمن يلزم" لتأمين وصوله للسلطة في سوريا بسلاسة و من ثم تحقيق "حلم" حسني الزعيم.
المشكلة أن التفاهم والاتصال المباشر مع إسرائيل غير وارد، فتجربة "الزعيم" و إعدامه بتهمة الخيانة ممكن لها أن تتكرر مع الأسد، فقلائل، من الطائفة العلوية وغيرها، هم من سيقبلون بالتعامل المباشر مع العدو. يجب إذاً استخدام وسائل ملتوية للاتصال بإسرائيل في نفس الوقت الذي يجاهر به صاحبنا بالعداء لها !
الأسد كان بحاجة لنجاحات خارج "صنعة" التآمر ليبني عليها أسطورته. الأسد أراد السير على خطا مثله الأعلى في الغوغائية، جمال عبد الناصر، الذي بنى اسطورته على "انتصاره" على أعدائه أثناء العدوان الثلاثي، في حين أن هذه الحرب كانت كارثية على مصر. "عبد الناصر" تعرض لهزيمة نكراء في حرب حزيران، حين واجه إسرائيل بعدما أشبعها تهديدات جوفاء.
الأسد كان في حاجة ماسة "لانتصار" شكلي على إسرائيل يبني على أساسه أسطورته و يوطد دعائم حكمه. الأسد كان واثقاً من عجز جيشه الممزق عن تحقيق أي انتصار ولو جزئي على إسرائيل، حتى لو رغب، لأسباب موضوعية تتجاوز إمكانيات القطر السوري و إمكانيات حكم البعث الفئوي و الغوغائي. تحقيق توازن عسكري جزئي مع إسرائيل كان يقتضي الانخراط عملياً في حلف وارسو وهو ما لم يكن لا مسموحاً و لا مقبولاً من الدول الكبرى.
ما دام الانتصار مستحيلاً بالنسبة له وفي ظروفه، فلماذا لا يعيد "انتصار" عبد الناصر في 1956 و لماذا لا يفتح حرباً محدودة مع العدو الإسرائيلي لا تكلف هذا الأخير شيئاً يذكر، لكنها سوف تكرس أسطورة الأسد، بطل العروبة، حامي حمى الديار و القادر على رد العدوان الإسرائيلي؟
لكي تكتمل الصورة، لماذا لا يكون الأسد المبادر إلى الهجوم ؟ هذا سيتكفل بمحو عار هزيمة 1967 و قد تكون له حسنات أخرى سيكتشفها الأسد فيما بعد.
لكن، ماذا إذا قامت إسرائيل "بشرشحته" و ببهدلة جيشه العاجز مرة أخرى ؟ ألا يجازف الأسد بفقد السلطة إن هو تهور وفعل ما لا يجوز فعله أو تمادى في تصرفاته ؟ لا بد له إذاً من الاتصال مباشرة "بالعدو" الإسرائيلي والتفاهم معه دون المرور بالدول الكبرى. صديقه، الملك الأردني، الحسين بن طلال له علاقات واسعة مع هذا العدو فلم لا يستفيد الأسد من صلات الملك الإسرائيلية ؟ ألم يقدم الأسد، بطريقة غير مباشرة، للملك حسين رأس المقاومة الفلسطينية رغماً عن أنف "صلاح جديد" و زمرته ؟
إسرائيل ذاتها تعرف قيمة الأسد وخدماته منذ بلاغ سقوط الجولان و الانسحاب الكيفي، و عليها أن ترد الجميل يوماً ما.
في نفس الوقت، كان "ثورجي" آخر في القاهرة قد توصل لنفس الاستنتاج، ولكن لتحقيق أهداف أخرى. أنور السادات وجد نفسه في مركب واحد مع صديقه اللدود حافظ الأسد، حرب تشرين أصبحت لازمة للنظامين في دمشق والقاهرة.
أحمد الشامي.
نشرت في "حريات" جريدة أسبوعية سياسية مستقلة، معارضة للنظام السوري و تُعنى بالثورة السورية العدد 22 في 16 كانون الثاني 2012 http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue22.pdf

دولة العصابة 7 : حرب التكريس

اﻷسد أصبح الزعيم اﻷوحد بلا منازع للجمهورية العربية السورية بعد "حركة" صححت وضعه قبل أي شيء، بقي عليه أن يرسي أساسات متينة لنظامه. السوريون رضوا أساساً بالحكم العسكري أساساً لخوفهم من ٳسرائيل وعدوانيتها، حالمين بتحرير فلسطين يوماً ما فلم لا يمنحهم حرباً رابحة ؟ الحرب حسب كلاوزفيتز هي "استمرار للسياسة بوسائل عنيفة" لكن الحرب التي تناسب اﻷسد هي حرب " اورويلية " قياساً على رواية "جورج اورويل ORWEL " الصادرة عام 1949 و المعنونة "1984".
اورويل تصور عالماً تتقاسمه ثلاث كتل كبرى تتحارب فيما بينها و تتواجه في حرب أزلية. تتصارع هذه الكتل نظرياً وتتنافس على تقاسم مناطق نفوذ باقية في العالم. تطبق كل من هذه الكتل سياسة توتاليتارية داخلية صارمة قائمة على "أخ أكبر" هو "أب قائد" كلي القدرة و واسع الاطلاع على كل ما يدور حتى في عقول مواطنيه. كل واحدة من هذه الكتل تعطي تسمية مختلفة لنظامها لكن اﻷنظمة الثلاثة تتشابه لحد التطابق في أهدافها النهائية و في أساساتها الفكرية القائمة على ٳلغاء الحرية ومصادرة كل فكر مستقل ومحو الفرد.
في نهاية الرواية (الممنوعة في سوريا ) يكتشف بطلها أن ليس هناك من حرب ولا من يحاربون. ليس هناك من معارك ولا حتى صراع حقيقي على النفوذ ﻷن هذه الكتل قد تقاسمت فعلياً النفوذ على باقي بلاد اﻷرض. كل واحدة من هذه الكتل حافظت على حالة التعبئة والحرب المعلنة و الغير واقعة أصلاً لا لشيء ٳلا ﻹبقاء مواطنيها في حالة من الرعب و الخوف الدائمين ، من الآخر الغريب ومن بعضهم. حالة الحرب هذه سمحت بٳدامة الطغيان و كانت جد مناسبة للطغاة على عكس المواطنين المساكين المرعوبين من كل شيء. المواطنون، رعايا هذه الدول، يخافون من الوقوع في براثن الاحتلال اﻷجنبي، من الاتهام بالعمالة لهذا اﻷجنبي، من أن يوصموا بالتخاذل و بوهن عزيمة اﻷمة في معاركها المصيرية. باختصار، يخافون من ظلهم و من الحياة ذاتها.
اورويل بنى روايته على حرب حقيقية، نووية، افترض أنها ستجري عام 1950. بدل أن تضع هذه الحرب نهاية للوجود البشري، كانت مناسبة للكتل الثلاثة كي تدعي كل منها أنها "انتصرت" في هذه الحرب على أعدائها، لكن الظروف لم تسمح بتحقيق انتصار نهائي على العدو ينهي حالة الحرب، لذلك لا بد من مواصلة القتال و الصمود حتى تحقيق النصر التام على اﻷعداء. هذا النصر الذي لن يحصل أبداً ﻷنه سيضع حداً لوجود الطغيان ذاته. ٳنها "أم المعارك" في طبعتها الاورويلية والتي لن تقع أبدأً.
هل كانت رواية اورويل في ذهن اﻷسد حين خطط، مع أنور السادات، للهجوم على ٳسرائيل؟
هناك احتمالان لا ثالث لهما لتفسير وقوع هذه الحرب ومبادرة العرب بالهجوم على ٳسرائيل: اﻷول هو أنها حرب حقيقية وشاملة هدفها تحرير اﻷرض و رد الصاع صاعين لدولة الصهاينة. الآخر هو أنها حرب "تحريك" كما صرح السادات علناً منذ البداية و حتى آخر لحظة.
ماذا تعني حرب التحريك ؟ ٳنها تعني تذكير العدو والعالم بوجود أرض محتلة وبوجود شعب يعاني ويرفض أن يعاني لوحده، يريد من العالم أن يهتم به وبقضيته و أن يجد حلاً ﻷزمة ساهم العالم بشرقه وغربه في خلقها.
ٳن كانت حرب تشرين حرباً مفتوحة فهل كانت الظروف مهيأة لها و هل كان في اﻹمكان شن حرب شاملة على ٳسرائيل عام 1973؟
على الجانب المصري يجب أن لا ننسى أن حرب الاستنزاف على طرفي قناة السويس، والتي استمرت ثلاث سنوات بين 1967 و 1970 كانت قد لقنت الاسرائيليين درساً حول صعوبة الاحتفاظ بسيناء على المدى الطويل و الكلفة المرتفعة للاحتفاظ بقواتهم على طول خط "بارليف" ٳضافة ٳلى ضرورة مراقبة كل شواطئ سيناء خوفا من تسلل الفدائيين. قبول "عبد الناصر" بمبادرة "روجرز" لوقف ٳطلاق النار لتسعين يوماً في الثامن من آب 1970 وضع حداً لهذه الحرب التي كانت اﻷصعب على ٳسرائيل والتي سمتها "حرب اﻷلف يوم". هذه الحرب هي المثال الحالي للمقاومة بما فيها حزب الله (يوم كان يقاوم...) . مات "عبد الناصر" قبل انتهاء وقف النار وخلفه السادات الذي احترم هذه الاتفاقية.
حدث عكس ذلك في الجبهة الشمالية، فالجولان ظل هادئاً هدوء الموتى منذ احتلاله في حزيران 1967، باستثناء بعض العمليات الفدائية من تسلل وهجوم، لاقت بعض التشجيع من قبل "صلاح جديد" و رفضاً قاطعاً من قبل اﻷسد. مع وصول اﻷسد ٳلى السلطة، توقفت عمليات المقاومة بشكل شبه كامل. كل شيء كان هادئاً على الجبهة الشمالية رغم وجود عشرات الآلاف من نازحي الجولان اكتفى النظام بإسكانهم في ضواحي دمشق الفقيرة مع وعد مبهم "بأن يعودوا يوماً ٳلى ديارهم".
في مصر، أنور السادات الفاقد للكاريزما وللمشروعية و الذي ورث الهزيمة ، لم يكن في وارد ٳعادة الشروع في حرب الاستنزاف ولم يكن يقبل باستمرار الوضع على ما كان عليه. الدولة المصرية والمؤسسة العسكرية المصرية التي تعود أصولها اﻷولى ٳلى الخديوي "محمد علي" حافظت على استقلالية الجبش و ابتعاده عن السياسة، وهو ما أنقذ مصر من الوقوع في براثن الحرب اﻷهلية و اضطر "حسني مبارك" للاستقالة عام 2011. الحرب المحدودة التي تعيد السيطرة المصرية على جزء من سيناء و تعيد فتح قناة السويس أمام النقل البحري ومعها موارد مالية مصر بأمس الحاجة لها، كانت ضرورة ملحة للسادات ونظامه
الحرب كانت ٳذا حتمية الوقوع، أقله على الجبهة المصرية. هذه الحقيقة كانت واضحة للجميع خاصة للأسد، الذي وجد الفرصة سانحة لصفقة جديدة ربما.
ٳسرائيل من جهتها كانت قد استكانت للضعف العربي وللانقسام المزمن بين أعدائها، لكنها كانت تدرك أن جبهة سيناء بعيدة عن مراكزها السكانية و عالية الكلفة العسكرية، دون مردود سياسي أو اقتصادي، على عكس الجولان الغني بترابه ومائه. من جهة أخرى، تل أبيب تبعد 152 كم فقط عن مجدل شمس، و بخط نظر، بالكاد 100 كم. الخطر القادم من الجولان أكبر بكثير منه من الجبهة المصرية. في سيناء، سيكون على القوات المصرية عبور سيناء بصحرائها وسيتم التعامل معها من الجو. لا خطر وجودياً على ٳسرائيل من الجبهة المصرية على عكس الجبهة الشمالية.
مع ذلك، كانت التحصينات الٳسرائيلية في الجولان أضعف منها في سيناء ! فخط "آلون" ليس خط "بارليف" ولم تكن هناك خنادق مملوءة بالنفط و لا ما يعادل العقبات التي واجهها الجنود المصريون اﻷشاوس...
لكي لا يفهم أحد خطأ أن جهود الجنود السوريين اﻷبطال و تضحياتهم لم يكن لها معنى، فالحرب كانت حقيقية و الجنود الذين شاركوا بها قاموا بتضحيات لا تجارى، مع ذلك كانت هذه الحرب محدودة وأدارها الأسد بأسوأ الطرق. لماذا كانت الحرب المفتوحة مستحيلة ؟
أولاً ﻷن ٳسرائيل كانت قد أصبحت دولة نووية قادرة على محو أعدائها الذين لم يكن بحوزتهم أي سلاح قادر على مواجهة القنابل الذرية، لا سلاح كيماوي ولا حتى بيولوجي في سوريا ، هذه البرامج سيتم تطويرها فيما بعد، ليس قبل أواخر السبعينات مع مركز الدراسات والبحوث العلمية التابع للقيادة العامة للجيش والقوات المسلحة السورية.
كيف يمكن لدولة تسليحها تقليدي ومحدود، ليست محمية بمعاهدات وليست عضواً في حلف وارسو و لا تتلقى سوى أسلحة روسية محددة سلفاً، أن تهاجم دولة نووية ؟
كان مفهوماً أن يتبع النظام السوري النموذج الفيتنامي مثلاً لتحرير أرضه وللوصول لتوازن عسكري معقول مع العدو اﻹسرائيلي، لكن اﻷسد كان سيضطر حينها للخضوع لمتطلبات السوفيت وهو ما لم يكن يريده. الجيش السوري "العقائدي" كان قد تم "تنظيفه" من كل الضباط الشرفاء وذوي الخبرة، "ٳلا من رحم ربك " فكيف لجيش تعرض لتصفيات منذ نشأته أن يحتفظ بكوادره المؤهلة بل وأن يحارب عدوا في جيشه ضباط محترفون خاضوا عدة حروب منذ الحرب العالمية الثانية ؟
من جهة أخرى، حرص اﻷسد على عدم نقل المعركة بأي شكل كان ٳلى أرض العدو و هكذا "ضرب عصفورين بحجر" فهو راعى "الحساسية " اﻹسرائيلية تجاه راحة مدنييها و لم يعط عذراً ﻹسرائيل لاستعمال سلاحها النووي أو لضرب نظامه بعنف، لكون المعارك كلها كانت تدور خارج الحدود اﻹسرائيلية. الاستثناء الذي يؤكد احترام اﻷسد لراحة بال سكان المدن في ٳسرائيل هو غارة يتيمة، وفاشلة، قام بها الطيران السوري على مصفاة حيفا بعد تدمير إسرائيل لخزانات النفط في عدرا.
اﻷسد أعاد في حربه الجولانية نفس "الخطأ " الذي ارتكبه حين أرسل قواته بتحريض من "زملائه السابقين " عام 1970 ٳلى اﻷردن ، ولكن دون غطاء جوي ! الدبابات السورية، والتي كانت حينها تقوم بما يجب أن تقوم به في الجولان وليس في درعا أو حمص، ابتعدت كثيراً عن غطائها من الدفاعات الجوية. بفضل "حنكة" الأسد وبراعته العسكرية خسرت سوريا 700 دبابة تم استهدافها من الجو واصطيادها بسهولة، من أصل 1300 دبابة شاركت في الهجوم. اﻷسد دخل هو وحروبه ٳلى الأكاديميات العسكرية فمعارك اﻷسد يتم تدريسها هناك، لا لكي تكون مثلاً يحتذى ولكن كمثال على ما لا يجوز فعله! حرب تشرين على الجبهة السورية تُعطى كمثال على التضحية بالرجال والعتاد عبثأ ودون جدوى.
التجريدة المغربية و القوات العراقية لم "تغامر" مثلها مثل القوات السورية التي تأتمر بأمر اﻷسد. الأسد، المتآمر المحترف، لكن العسكري الهاوي قليل الخبرة، أعاد نفس الخطأ مرتين ونجح في خسارة حرب كان "محسوباً" له أن لا يخسرها على اﻷقل. أكثر من ذلك، فكفاءة اﻷسد وصلت لدرجة فتح ثغرة في دفاعاته سوف تُعرف فيما بعد "بجيب سعسع" . القوات اﻹسرائيلية الغازية ستمر عبرهذا الجيب لتقترب من دمشق. لولا بطولة عقيد، من الطائفة العلوية بالمناسبة، اسمه "علي جحجاح" كان قائداً للواء السبعين والذي صد هجوم اﻹسرائيليين في سعسع، لكان اﻷسد قد "تبهدل" مثلما كان يخشى وربما أكثر.
العقيد "جحجاح" صد هجوم اﻹسرائيليين وصمد لحين وصول اﻹمدادات العراقية التي ساهمت في الحد من هزيمة اﻷسد. هذا العسكري الشريف والبطل قضى بعد أقل من ثلاثة أعوام في ظروف غامضة وخلفه العميد سيء الذكر "شفيق فياض" في قيادة الفرقة الثالثة.
ٳسرائيل ما كانت لترغب في اجتياح دمشق، المدينة المليونية، على أي حال، ولا كانت تريد السيطرة على ضواحي المدينة حيث يتواجد نازحو الجولان والذين قد ينتهزوا فرصة وقوعهم تحت السيطرة اﻹسرائيلية للعودة ٳلى المنازل التي تركوها في الهضبة المحتلة. ٳسرائيل كانت ترغب بأن تُظهر للأسد من هو صاحب اليد العليا و أن تريه أنه تحت رحمة قواتها، وبالمناسبة سوف تحسن من وضعها على اﻷرض في أي مفاوضات مقبلة.
آلاف الشهداء والجرحى، أبطال حقيقيون و رجال بواسل عز مثيلهم دفعوا حياتهم ودماءهم للذود عن حمى وطنهم، آلاف المشوهين ومليارات من الدولارات ذهبت هباء من أجل أن يمارس اﻷسد هواية الحرب التي لا يتقنها. في مصر، تم عزل الشاذلي، قبله انتحر "عبد الحكيم عامر" الذي خسر حرب حزيران.
كل العسكريين يعرفون ثمن الفشل ويدفعونه بٳباء، ٳلا اﻷسد، فهو كلما فشل ترقى ! اﻷسد، رئيس سوريا الذي فشل في حرب محسوبة سلفاً، سوف يترقى، ليس قبل "حرب استنزاف " دامت حتى وصول العراب اﻷمريكي "كيسنجر" في جولات مكوكية ، سوف تنتهي بتكريس اﻷسد حاكماً مطلقاً للشام و"ما بعد الشام". سيصبح الأسد رجل "المرحلة " اﻷوحد.

أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في "حريات" جريدة أسبوعية سياسية مستقلة، معارضة للنظام السوري و تُعنى بالثورة السورية العدد 23 في 23 كانون الثاني 2012.
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue23.pdf

دولة العصابة 8 : العراب اﻷمريكي

بعد توقف المعارك على الجبهة المصرية ٳثر "خرق الدفرسوار" وقرار السادات اﻷحادي بوقف القتال، بقي اﻷسد يحارب وحيداً. صحيح أن الحرب كان محسوباً لها أن تكون محدودة وأن لا تكلف اﻷسد عرشه الدمشقي ، لكن إسرائيل ما كانت لتهدي انتصاراً ولو محدوداً للأسد. هكذا هي ٳسرائيل ، لا تضيع فرصة لسحق العرب و ٳظهار تفوقها عليهم.
بالنسبة ﻹسرائيل، مجرد عفوفها عن قلب نظام اﻷسد واجتياح عاصمته في حرب خاطفة ، يعني أن ٳسرائيل قد قدمت هدية للأسد الذي يستطيع أن يقول لشعبه ، مرة ثانية ، أنه قد فاز في الحرب لمجرد أن ٳسرائيل لم تسقط نظامه. الحكومة اﻹسرائيلية اعتبرت أن تجرؤ اﻷسد على مهاجمتها ثم خروجه هو ونظامه سالمين، حتى مع خسارة أراضٍ جديدة، هي "الانتصار" الذي يمكن للأسد أن يتباهى به و يؤسس حكمه عليه. وزير الخارجية اﻷمريكي القوي ، كيسنجر، كان له رأي آخر.
لكن، كيف انتهت حرب محسوبة ومحدودة ٳلى كارثة عسكرية ؟ حرب يشنها جيشان على جبهتين متباعدتين ضد جيش قائم على الاحتياط وتنتهي " ببهدلة " الجيشين !
الحق يقال، ليس اﻷسد مسؤولاً عن مجمل الكارثة العسكرية في حرب التحريك. اﻷسد كان يعرف أنه عاجز عن تحقيق انتصارعلى ٳسرائيل يجعل منه ندا للدولة العبرية ، لكنه كان يأمل الاستفادة من الضغط العسكري على الجبهة الجنوبية لتحقيق انتصارات محدودة في الجولان يطلب بعدها وقف ٳطلاق النار ويفاوض إسرائيل من موقع قوة . اﻷكيد أنه لم يكن يرغب في التوصل ٳلى سلام ستكون فيه نهاية حكمه المطلق، لكن على اﻷٌقل كان ربما سيتمكن من ٳعادة بعض سكان الجولان لبيوتهم وهو ما كان سيحسب لصالحه كنصر ساحق على العدو. ٳسرائيل ما كانت لتسمح له بذلك. كفاءة اﻷسد العسكرية المحدودة زادت الطين بلة وساهمت في مضاعفة الخسائر السورية...
ليس فقط ٳسرائيل لم تكن تريد تسهيل مهمة اﻷسد ، السادات أيضاً كان له حساب قديم مع البعث. في مصر كان أنور السادات متمسكاً بجعل حربه حرب تحريك ٳلى الحد اﻷقصى، وحرب "تحرير" ٳلى الحد اﻷدنى. كفاءة السادات العسكرية وقدراته كانت بمستوى حنكة اﻷسد العسكرية. بٳمكان القارئ أن يتخيل كيف أديرت المعارك على الجبهتين السورية والمصرية ، مع "فطاحل" من عيار اﻷسد والسادات في مواقع القيادة.
السادات غير الواثق بنفسه والذي بادر قبل الحرب إلى طرد الخبراء الروس، قاد المعارك "على مزاجه" وعزل رئيس أركان جيشه الذي لم يوافق على قراراته في قيادة المعارك.
السادات كان يخشى من ازدياد نفوذ العسكر في مصر ولذلك تدخل في كل شاردة وواردة مع قناعة لا تتزحزح بضرورة عدم التورط أكثر مما يجب في الحرب مع إسرائيل. السادات كان عارفاً بضعف مصر البنيوي وبضعف جيشه وبعدم قدرة العرب على دعمه. قبل الحرب كان السادات قد أحرق مراكبه مع الروس وما كان يتوقع منهم أن يهبوا لنجدته ٳن هو سقط في متاهة عويصة.
السادات كان في جعبته " جوكر " لعب به في 23 اكتوبر، خلاصته : ترك اﻷسد ليحارب وحده ! اﻷسد كان يريد أن يتورط السادات أكثر في سيناء ويسهل عليه المهمة في الجولان ، في حين كان رئيس مصر يجري حساباً مطابقاً ولكن في اتجاه معاكس ! السادات لم ينس أن مصر عبد الناصر كانت قد تورطت في حرب حزيران وخسرت سيناء "كرمى لعيون " البعث السوري الغوغائي. بالنسبة للسادات ، كان طبيعياً أن يدفع السوريون ثمناً غالياً لقاء ما اقترفوه قبل ست سنوات. هكذا تجري اﻷمور حين يتفق من اعتادوا على الخيانة ، في النهاية يخونون بعضهم البعض...
السادات الغارق في حساباته السياسية الصغيرة كاد ينسى أن بلده في حرب مع ٳسرائيل مما سمح لآرييل شارون باستغفاله وبعبور قناة السويس باتجاه البر المصري هذه المرة. انتهى اﻷمر ٳلى محاصرة الجيش المصري الثالث في سيناء وقطع اﻹمدادات عنه !
كما عفّت ٳسرائيل عن "بهدلة " اﻷسد كذلك امتنعت القوات اﻹسرائيلية عن سحق الجيش المصري الثالث ﻷسباب سوف تصبح واضحة فيما بعد. ٳسرائيل احترمت، في نهاية اﻷمر "روح ومضمون" حرب التحريك وٳن لم تحترم نصها.
مع توقف المعارك في سيناء أدرك اﻷسد أن فرصته في الوصول ٳلى صفقة رابحة مع "أزعر" الحي اﻹسرائيلي تكاد تتلاشى. حينها قرر المخاطرة و اللعب بكل أوراقه دفعة واحدة فكانت حرب الاستنزاف التي ستنتهي في 31 أيار 1974 بتوقيع اتفاق فصل القوات.
حين باشر اﻷسد حرب الاستنزاف في الجولان ، أدخل الجميع في دوامة هي أشبه بسيناريو الكارثة الذي كان وشيك الوقوع قبل بيان سقوط الجولان المشهور عام 1967.
ٳسرائيل ما كانت لتقدر على اجتياح سوريا بشكل كامل ﻷنها كانت ستصطدم بالروس الموجودين بكثافة على اﻷرض السورية والذين ساهموا في تشغيل اﻷسلحة السوفيتية الحديثة، وستضطر لقتالهم. لم ترغب ٳسرائيل ولا أمريكا أو الروس في التورط في مستنقع شرق أوسطي، في حرب أنصار وكر وفر ، يساهم فيها السوفييت من جهة ٳلى جانب اﻷسد، وأمريكا ٳلى جانب ٳسرائيل . كيسنجر الخارج لتوه من مفاوضات مضنية مع الفييتكونغ والذي أخرج أمريكا من المستنقع الفيتنامي ما كان ليرغب في الغرق في بركة وحل جديدة.
ٳضافة ٳلى ذلك، كان اجتياح سوريا سيضع ٳسرائيل في مواجهة مع أنقرة التي سبق وحذرت من احتلال "الشام الشريف" عام 1967 وسيضع القوات اﻹسرائيلية في المحصلة في مواجهة مع نازحي الجولان ولاجئي عام 1948 ٳضافة ٳلى الشعب السوري كله.
لكل هذه اﻷسباب تريثت ٳسرائيل في "تحييد " اﻷسد وقبلت بوساطة هنري كيسنجر، أقوى وزير خارجية عرفته أمريكا منذ "فوستر دالاس". لكن من هو كيسنجر هذا ؟
ولد كيسنجر عام 1923 في ألمانيا التي غادرها عام 1938 مع والديه اليهوديين للجوء ٳلى أمريكا. عمل كمترجم لصالح الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية قبل أن يدرس في هارفارد ويتبوأ أعلى المناصب في اﻹدارات الجمهورية منذ "نيكسون".
الجانب الخفي في شخصية الرجل هو شدة اعتزازه بيهوديته وخوفه الغريزي من الاضطهاد ومن الهولوكوست الذي نجا منه بفضل العم سام. من هنا ينبع تعلقه اﻷعمى بٳسرائيل لدرجة اصطدامه أكثر من مرة مع "غولدا مائير" رئيسة وزراء الكيان الصهيوني. "أبا ايبان" وزير خارجية ٳسرائيل ذكر في مذكراته أن كيسنجر قال لغولدا مائير أثناء مفاوضات فك الاشتباك على الجبهة السورية "أنه أدرى بمصلحة ٳسرائيل منها ، ﻷنه كان في ألمانيا وقت صعود النازية ، في حين كانت غولدا مائير تحظى باﻷمان في كيبوتز هادئ في فلسطين". هذا هو الرجل الذي فاوض اﻷسد في رحلات مكوكية لا تعد ولا تحصى بين دمشق و القدس المحتلة والذي "فوضته" ٳسرائيل بالحديث باسمها وباسم أمريكا مع اﻷسد.
مطلوب من القارئ العربي لكتاب "باتريك سيل " أن يصدق أن وزير خارجية الدولة اﻷكبر في العالم جاء لدمشق عشرات المرات ، في نفس الوقت الذي كان فيه "اندريه غروميكو" وزير خارجية الاتحاد السوفيتي المخضرم زائراً شبه مقيم في دمشق، لمجرد التوصل لاتفاقية فك اشتباك وفصل بين القوات ! هكذا اتفاقية يكفي لتوقيعها ضابطان من رتبة رفيعة وبعض الخبراء التقنيين من الطرفين، بحضور وسيط محايد. لا تحتاج هكذا اتفاقية لوزراء خارجية دول عظمى ، ٳن لم يكن في اﻷمر شيء جلل...
يروي كيسنجر في مذكراته أنه مازح اﻷسد بخصوص "غروميكو" الذي كان ينتظر بفارغ الصبر في السفارة السوفيتية مقابلة اﻷسد، المشغول "بمنادمة " الوزير اﻷمريكي. اﻷسد رد ببرود في خصوص "غروميكو" : "دعه ينتظر وكل عشاءه قبل أن يبرد...". اﻷسد كان يعرف أن ليس لدى السوفيت سوى فقرهم ليصدروه، على عكس اﻷمريكي اﻷنيق و الذي أعطاه دروساً في اللغة الانجليزية "ولكن بلكنة ألمانية".
كيسنجر، من يومها، ما فتئ يبدي ٳعجابه بحنكة اﻷسد (السياسية لا العسكرية طبعاً...) و بجسارته و نقل هذه الصورة ٳلى ٳسرائيل. بضاعة اﻷسد أعجبت العراب اﻷمريكي ٳلى درجة أنه "خطفها" من يد الزبون اﻹسرائيلي !
كيسنجر فرض على ٳسرائيل الانسحاب من القنيطرة و ٳعطاء اﻷسد حوالي 600 كم مربع من الجولان (من اصل ما يقرب من 5000 كم مربع) لكي يرفع عليها العلم السوري و يتباهى " بانتصاره " في حرب تشرين التي خسرها ! ٳسرائيل الغاضبة والحانقة من هذه الصفقة الضيزى، قامت "بفش خلقها" في مدينة القنيطرة التي سلمتها، لكن مدمرة بالكامل.
هل كان كيسنجر محقاً حين قال لغولدا مائير أنه "يعرف مصلحة ٳسرائيل أكثر منها" ؟ العراب اﻷمريكي وجد "رجل المرحلة" المناسب للجميع.
اتفاقية فض الاشتباك وضعت حداً لكل العمليات العسكرية في الجولان ولا زال هذا الوضع سائداً حتى اليوم. تحررت سيناء وجنوب لبنان والجولان لازال في عهدة المحتل. لا أحد يعرف المضمون الحقيقي لاتفاقية فصل القوات، ولا ما كتب في ملاحقها السرية. لكن على القارئ الحصيف أن يتذكر أن اتفاقية "سايكس بيكو" لم تظهر للعلن سوى حين فضحها "لينين" وقت الثورة الروسية بهدف فضح جشع الغرب الرأسمالي.
على أي حال، من يوم تم توقيع هذه الاتفاقية، أصبح تاريخ سوريا يكتب بلغات عدة ، ليست العربية من بينها.
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في العدد الرابع و العشرين من "حـريـــــــــــــات " ، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية ، والذي صدر الإثنين 30.01.2012.
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue24.pdf

دولة العصابة : 9 الضلع الخفي

لقاءات الأسد و كيسنجر المتكررة عام 1974 جعلت حافظ يدرك مدى اتساع اللعبة الدولية والمجالات الكبيرة للربح المادي والمعنوي المتاح لمارق ذكي مثله.
بعدما كان جيشه قد "تبهدل " في محاولته الفاشلة لتحسين وضعه التفاوضي مع إسرائيل ، أدرك الأسد أن أمامه واحداً من خيارين لا ثالث لهما : إما أن يكرس جهده لبناء دولة مؤسسات مستقرة وقادرة على التفاوض مع إسرائيل من أجل الوصول إلى تعايش مع المشروع الإسرائيلي في المنطقة مثلما سيفعل السادات فيما بعد ، أو أن يتوصل لتفاهمات مع الأقوياء في المنطقة ومن بينهم إسرائيل تسمح له بتبادل للخدمات سيكون في صالح الجميع باستثناء شعبه ، دون الاضطرار لإرساء مؤسسات قادرة على طمأنة الدولة العبرية.
الخيار الأول ما كان سيسمح للأسد بالتفرد تماماً بالحكم أو بالتوريث وكان سيفسح المجال يوما لنوع من الديمقراطية على المثال الجزائري أو المصري ، فدولة المؤسسات لا تستطيع أن ترهن مصيرها بمستقبل شخص واحد مهما كان هذا الفرد صاحب سطوة. ربما كان التحول إلى نظام ملكي هو الشكل الأنسب للأسد ، لكن خياراً كهذا ، في تلك الفترة ، ما كان ليمر لا لدى الشعب السوري ولا لدى راعي الأسد السوفييتي .
الأسد اختار كما نعرف جميعاً تجاوز دولة المؤسسات و بناء دولة الفرد في استراتيجية دءوبة بالتفاهم مع كيسنجر الذي أفهمه أن الدولة الأقدر على خلعه هي إسرائيل وأن هذه الأخيرة لديها مطالب لن تتنازل عنها مقابل أن يكون الأسد "مقاولاً " لحسابها على التراب السوري. أول هذه المطالب هي الهدوء على حدود الجولان والخرس في مسألة اللاجئين الفلسطينيين في الشام إضافة إلى نسيان موضوع نازحي الجولان لكي يكون احتلال الهضبة مجدياً لإسرائيل.
إسرائيل وكيسنجر استلهما معاهدة وقف إطلاق النار بين فرنسا بقيادة الماريشال "بيتان" وألمانيا النازية الموقعة في 22 حزيران 1940 . وفق هذه المعاهدة تم تقسيم فرنسا إلى جزأين واحد تحت الاحتلال الألماني المباشر وآخر "حر" لا وجود دائم للجيش النازي فيه ويقع تحت سلطة "بيتان" ونظام "فيشي".
صحيح أن الجيش الألماني لم يكن موجوداً خارج الجزء المحتل من فرنسا ، لكن النفوذ الألماني غير المباشر سيمتد إلى كامل التراب الفرنسي بل وسيقوم الألمان باحتلال الجزء الباقي من فرنسا عام 1942 حين شعر النازيون أنهم قد يخسرون الحرب. نظام "فيشي" سيبقى كما هو دون أي تغيير رغم الاجتياح الألماني لكل الأراضي الفرنسية ! وسيبقى الوضع على ما هو عليه حتى تحرير كامل فرنسا ورحيل النازيين.
الفرق بين ألمانيا النازية وإسرائيل أن الأولى كانت منخرطة في حرب عالمية تدور على عدة جبهات متحركة ومع أعداء أقوياء انتهوا إلى هزيمتها. اﻷسد من جهته تمتع بهامش مناورة واسع أتاحته له حقيقة أن ٳسرائيل لم تواجه حتى اليوم أي تهديد وجودي مما سمح لها "بالتساهل " نوعاً ما مع ممارسات الأسد مادام الأخير يؤدي المهمة الأساسية الموكلة له وهي "لجم " الشعب السوري لحساب سادة المنطقة الأجانب.
علام سيحصل الأسد مقابل كل هذه التنازلات الكبيرة والتي ترقى إلى استسلام كامل لإملاءات العدو الصهيوني ؟
وحدهم الموقعون على اتفاقية الفصل بين القوات يعرفون بالضبط مضمونها وملاحقها العلنية والسرية. اﻷمم المتحدة من جهتها أوكلت لها مهمة مراقبة فك الاشتباك و المرابطة على حدود الجولان وهي مهمة مملة تتجدد تلقائياً كل ستة أشهر منذ 1974!
بعد "المقلب" الساداتي وتوقف الحرب في سيناء وبعدما أدار اﻷسد المعارك على جبهة الجولان بالمهارة التي نعرفها، وجد اﻷسد نفسه في مأزق كارثي سيخرج منه رابحاً بفضل عرابه اﻷمريكي ولكن ليس دون ثمن، هو اتفاق الاستسلام التام للسيد الأمريكي والإسرائيلي مع حفظ حقوق الحليف السوفييتي.
اتفاق فصل القوات هذا يصح فيه قول الشاعر : " يا خوفي يوم النصر ترجع سينا ونخسر مصر...." . في أيار 1974 لم يعد الجولان لسوريا وعادت فقط القنيطرة المدمرة والشعب السوري خسر استقلاله لصالح مثلث جهنمي أضلاعه هي، بحسب نفوذها ومركزيتها بالنسبة لنظام الأسد : ٳسرائيل ثم أمريكا وأخيراً الاتحاد السوفييتي. سيبقى هذا المثلث وفي مركزه "حافظ اﻷسد " متحكما بمصير سوريا حتى قدوم اﻷسد الوريث الذي سيضيف له ضلعاً رابعاً هو ٳيران . اﻷسد الأب كان قد باشر في إدماج إيران في لعبة النفوذ والحماية لنظامه دون أن يسمح لها بلعب دور حاسم في تقرير سياساته. الأسد الابن سوف يغير قواعد اللعبة غير المكتوبة لصالح التقرب من إيران.
في ظل هذه الحماية المثلثة نجح اﻷسد في تركيب نظام معقد وتراتبي تغيب فيه كافة أشكال العمل المؤسساتي ويرتبط حصراً بشخص الرئيس. أهمية هذه الترتيبات هي أنها جعلت من شخص اﻷسد حجر الرحى للاستقرار في المنطقة فلا أحد غيره يقبل أو يقدر على تطبيق التزامات النظام. هكذا أصبحت حماية حياة اﻷسد واستقرار نظامه مهمة أساسية ليس فقط ﻷجهزة أمن الأسد ولكن أيضاً التزاما حياتياً ﻷجهزة مخابرات ٳسرائيل وأمريكا وحتى السوفييت ! هذا قد يفسر العمر المديد للأسد وعدم وقوع أي محاولة جدية لاغتياله في حين "غاب " عبد الناصر وتم اغتيال الملك فيصل والسادات في ظروف مناسبة للقوى الكبرى.
هذا قد يفسر أيضاً صعوبة انتقال السلطة التي أسسها اﻷسد ٳلى غيره لكون كافة التزامات النظام ترتدي طابعاً شخصياً وترتبط حصراً باﻷسد في غياب كامل للمؤسسات وللٳدارات القادرة على تسيير شؤون البلاد والعباد.
لم يكن ٳذا من مصلحة اﻷسد لا ٳقامة دولة مؤسسات قادرة على الاستغناء عن شخصه ولا التورط في عملية سلام قد تزعزع أسس حكمه. لا بل أن اﻷسد قد تنفس الصعداء مع اغتيال "اسحق رابين" الذي كان نجاحه في انتخابات الكنيست قادراً على تهديد استقرار وأبدية نظام اﻷسد وإعادة النظر في اتفاق الفصل الذي انتهى إلى جعل النزاع السوري – الإسرائيلي أبدياً ورسّخ حالة اللا حرب واللا سلم.
في الخلاصة ، يستحيل فهم آليات وتطور نظام الأسد وسلوكياته المقبلة دون وضع اتفاق فصل القوات في المكان الذي يستحقه وهو كونه بمثابة "العقد " المؤسس لنظام الأسد.
ٳسرائيل حازت في هذه الاتفاقية على ما يعادل صك ملكية للجولان منحه ٳياها حافظ و سيبقى يحترمها ما دام هو أو نسله مستمرين في حكم سوريا. اﻷسد الذي يدرك تماماً موازين القوى سوف يحترم هذا الاتفاق ولن يعرضه ﻷي اهتزاز. في المقابل، سوف يستحيل الوصول إلى أي اتفاق سلام نهائي مع إسرائيل في ظل حكم الأسد لأن وجود نظام الأسد مرهون باستمرار النزاع الشكلي.
أمريكا وجدت رجل المهمات الصعبة والذي ستضع العديد من الآمال على استمراريته في حكم بلد ثوري ومتمرد هو سوريا. أمريكا ستكتشف فيما بعد الطبيعة "الزئبقية " للأسد ونظامه والكلفة المرتفعة للتعامل مع هذا النظام المارق والمافيوي حين ستجتاح قواتها العراق و ستصطدم بوعود اﻷسد الوريث الكاذبة و بمراوغاته.
الاتحاد السوفييتي حصل من جهته على زبون ممتاز يشتري أسلحته التي لا تصلح سوى لقمع الشعوب ويعمل كواجهة وكوسيط للمنظومة الاشتراكية.
اﻷسد فاز بالاعتراف الإسرائيلي و الدولي بمركزية دوره و بترخيص يسمح له أن يفعل ما يشاء في سوريا وبشعبها مع غطاء ودعم لم يتوفرا ﻷي رئيس سوري قبله.
سوف تبقى هذه المعادلة تتحكم بكافة مآلات النظام وستتعرض لبعض التغيير مع الغزو اﻷمريكي للعراق حيث سيزداد الدوران اﻹيراني والإسرائيلي على حساب اﻷمريكي.
هكذا تحكم اﻷسد بمستقبل البلد معتمدا دوماً على واحد أو اثنين من اﻷضلاع الثلاثة وأحياناً عليها جميعاً (كما حدث حين واجه اﻷسد اﻷخوان في حماة). مثلاً، سيعتمد اﻷسد على الضلعين اﻹسرائيلي واﻷمريكي في دخوله ٳلى لبنان ثم على الضلعين السوفييتي واﻷمريكي في البقاء هناك ! حين واجه اﻷسد اتفاقية السلام اللبناني اﻹسرائيلي التي كان عرابها وزير الخارجية اﻷمريكي "جورج شولتز" في أيار 1983، استند اﻷسد ٳلى عدم رغبة قطاع واسع من المؤسسة العسكرية في ٳسرائيل في التوصل ٳلى سلام مع جيرانهم العرب وٳلى الضلع السوفييتي الذي وجد نفسه خارج المعادلة اللبنانية بقوة اﻷمر الواقع ولصالح النفوذ اﻷمريكي. كانت النتيجة سقوط هذا الاتفاق.
اﻷسد سيحترم دوماً التزامه المطلق تجاه أمن ٳسرائيل و سيبتعد عن اللعب في مجال ٳمدادات النفط معتبراً بما حصل لآخر الزعماء العرب الكبار، الملك فيصل بن عبد العزيز الذي سيدفع حياته في آذار 1975 ثمناً لالتزامه بقضايا العرب الكبرى وﻷنه قطع ٳمدادات النفط عن أعداء العرب في حرب تشرين. استشهاد الملك فيصل سوف يدخل السياسة السعودية في غيبوبة عميقة وسيزيح آخر العقبات في وجه تفرد "زعران" العروبة من قومجيين و ثوريين بالساحة السياسية العربية.
خارج احترام أمن إسرائيل والابتعاد عن تهديد الأمن النفطي للغرب سيتمتع اﻷسد بهامش واسع من المناورة سيسمح له بٳعادة تشكيل البنية المجتمعية في سوريا وليس فقط نظامها السياسي و سيتيح له الانطلاق، فيما بعد، ٳلى المحيط العربي واﻹقليمي الواسع، مثله مثل صدام، السادات والقذافي وغيرهم.
المجتمع السوري، وليس فقط الدولة والنظام سوف ُيعاد تشكيلهما ليصبحا طوع بنان اﻷسد ورهينة لنزوات عصابته ، في ظل تواطؤ دولي وٳقليمي مطلق ، بدأ السوريون بالكاد في ٳدراك مدى عمقه ومدى فداحة الثمن الذي دفعته وتدفعه سوريا الشعب كي تتخلص من سرطان اﻷسد.
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في العدد السادس و العشرين من "حـريـــــــــــــات " ، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية ، والذي صدر الإثنين في الثالث عشر من شباط 2012.
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue26.pdf

دولة العصابة 10 ولادة سوريا اﻷسد


منذ أول مقالة تطرقت ﻹنشاء دولة اﻷسد وعلاقاتها المشبوهة خاصة مع العدو اﻹسرائيلي ، تلقينا العشرات من التعليقات التي تنتقد "نقص المراجع " التي نعتمد عليها وخاصة السؤال الذي يعاد طرحه بعد كل مقال : "أين الدليل على خيانة النظام ؟ ".
انعدام التوثيق المستقل ﻷعمال النظام أو ندرته الشديدة ولجوء الرئيس المؤسس له لكاتب سيرة "مساير" مثل "باتريك سيل" وبعده "جوشوا لانديس" يكفيان للتشكيك في مصداقية هذين الكاتبين و في حيادية مصادرهما. هل نتصور مثلاً كاتباً لسيرة "ستالين " يقدر على كشف سادية هذا اﻷخير التي نعرفها الآن، ويستطيع التحرك والسؤال بحرية في اتحاد سوفييتي تحت الحكم الستاليني ؟ هناك العشرات ممن كتبوا سيرة ستالين و ماو وكيم ايل سونغ وكلهم يمجدون هؤلاء الطغاة. فقط حين يسقط النظام تتبين الحقيقة عارية.
ممنوع في سوريا ذكر اسم الرئيس "بغير الخير..." فما بالك بنبش أسرار عائلته ! كمثال واحد : " دانييل لوغاك"(La Syrie du Général Assad) المراسل الصحفي الفرنسي في لبنان خصص كتاباً لسياسة اﻷسد ذكر فيه في سطرين ما غاب عن فصلين كاملين في كتاب "باتريك سيل" : وهو أن "مواهب الجد المؤسس للعائلة ووالد اﻷسد اﻷب وقوتهم الجسدية كانتا في خدمة اﻹقطاعيين العلويين " وأن الاثنين كانا "شبيحة" في خدمة ملاكي اﻷراضي الذين كانوا يسلطون عائلة اﻷسد على الفلاحين العلويين الفقراء. وهناك الكثير من اﻷمثلة من نفس النوع، مثل اﻷثمان المرتفعة التي تقاضاها اﻷسد لقاء تحرير الرهائن الغربيين في لبنان والتي غابت تماماً عن كتب "سيل" و"لانديس".
"سيل" لم يكن محايدأ ولا مجنوناً أو انتحارياً ليفضح أسرار اﻷسد فالرجل "يريد أن يعيش" مثله مثل "جوشوا لانديس" ومثل كل من تسولوا مكرمات النظام وحسناته. فلا يظنن أحد أن "سيل" و"لانديس" يعتاشون من بيع كتبهم التي تمجد اﻷسد !
ثم كيف ٳثبات العلاقة العضوية بين نظام اﻷسد والنظام العنصري اﻹسرائيلي ؟ فقط حين نقبض على مسؤولين ٳسرائيليين في دمشق، لكن من سوف يقبض على هؤلاء ٳن كان نظام الممانعة في دمشق لم يقبض على أي جاسوس ٳسرائيلي أو حتى عميل ٳسرائيلي منذ "كوهين" في حين تم ٳلقاء القبض على الكثير من "عملاء العدو" في لبنان "غير المقاوم" ! طريقة أخرى هي الحصول على وثائق ومحاضر اجتماعات مسؤولي النظام مع العدو ، لكن هذه الوثائق لن تكون في متناول الباحثين ﻷسباب أكثر من مفهومة وربما لن يتم العثور عليها قبل سقوط النظام.
دعنا ٳذا نطرح السؤال بشكله الصحيح على مبدأ "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". كاتب هذه السطور لا يدعي لا ممانعة ولا صموداً ولا حتى معارضة، فرصيدنا من الاعتقال والصفعات لا يكفي ﻹعطائنا هذا الشرف ، لكن نظام اﻷسد يدعي الممانعة والصمود والتصدي للعدوان الصهيوني والوقوف في وجه الامبريالية ومخططاتها. أما نحن فنقسم بأغلظ اﻷيمان أن هذا النظام هو نظام قاتل ، خائن و لا وطني وأنه لا يتصدى لغير شعبه المنكوب به ولا يصمد سوى أمام المتظاهرين العزل المطالبين بالحرية.
فليتفضل النظام ٳذاً ويعطينا البينة على أنه نظام مقاوم "يقاوم " فعلاً لا بالكلام الفارغ وأنه "ممانع " يمانع بالفعل والموقف لا بالخطابات الجوفاء. منذ 1974 يتم التجديد دورياً لقوات الفصل التي تحرس الاحتلال الصهيوني للجولان في حين أن "كرواتيا" رفضت التمديد للقوات التي كانت ترابط على حدود أراضيها المحتلة من قبل "صربيا" اﻷقوى عسكريا "لكي لا تستمر القوات الدولية بحراسة الاحتلال الصربي ﻷرض كرواتيا...".
عودة ٳلى موضوعنا اﻷساسي وهي كيف تطور النظام اﻷسدي في ظل اتفاق الفصل الشائن.
اتفاق الفصل أتاح للأسد ٳعادة تشكيل الجيش والمجتمع السوري بعدما اطمأن لزوال التهديد العسكري اﻹسرائيلي المباشر و بعدما وقع النظامان اتفاق تفاهم ينهي عملياً حالة الحرب بينهما مع ٳبقائها قائمة نظرياً لضرورات داخلية لدي الطرفين. ٳسرائيل بحاجة لبعبع خارجي يسمح باستمرار حالة ومجتمع الحرب وتكريس الممارسات العنصرية اﻹسرائيلية ضد غير اليهود مع استمرار تدفق المساعدات الخارجية ، ٳضافة ٳلى تجييش الطائفة اليهودية وتخويفها بحجة حماية ٳسرائيل الواقعة تحت تهديد "العربي البشع". النخبة اﻹسرائيلية من جهتها وجدت لها مصلحة عليا في هذا التوافق وهي استمرار تحكم النخب العسكرية في مسار المجتمع اﻹسرائيلي ، على حساب الحركات المدنية والحقوقية وراء واجهة ديمقراطية مجتزأة.
اﻷسد كان الرابح اﻷكبر في هذه الصفقة فقد " أقطعه " الغرب والشرق وحتى العدو اﻹسرائيلي كامل التراب السوري عدا الجولان، وصار بمقدوره بناء "سوريا اﻷسد " التي كان يحلم بها.
اﻷسد بنى دولته اعتماداً على عدة نماذج ، منها الكوري الشمالي والجنوب أفريقي وحتى اﻹسرائيلي. لم يكتف اﻷسد بٳعادة ٳنتاج نظام دكتاتوري غوغائي على نمط الانقلابيين الذين سبقوه. اﻷسد أدرك ضرورة تسييس المجتمع ولكن على طريقته هو بحيث يتم خلق فضاء سياسي كلامي أجوف، لا سلطة حقيقية له ، و يدور دون هدف في حلقة مفرغة من اللاعقلانية ومن الممانعة والصمود اللفظيين. وجد اﻷسد والذي يمثل "الجناح اليميني" في حزب البعث ضالته في الخطاب و التشكيلات اليسارية في هذا الحزب.
هكذا ساهم اﻷسد في بناء "نخبة " مجتمعية منتفعة وذلك بٳلهاء كوادر ريفية ومن "صغار الكسبة " وتأطيرها في حزب البعث وفي منظمات لا تعد ولا تحصى ، واحدة للشبيبة وأخرى للنساء وغيرها للعمال واتحاد للفلاحين وآخر للطلاب الخ. الدخول في هذه اللعبة المتحزبة كان شرط النجاح والصعود الاجتماعي في سوريا اﻷسد، و لكي تتربى اﻷجيال المقبلة على حب وعبادة اﻷسد "استورد" هذا اﻷخير فكرة "طلائع البعث" من صديقه الكوري الشمالي وأرسل الوفود ٳلى "بيونغ يانغ" كي تتعلم كيفية تدمير عقول اﻷطفال وتخريب طويتهم على أصولها وعلى يد "اﻷخ اﻷكبر" الكوري و الذي سوف نرى مآثره في تجويع بلاده وتدمير ٳنسانها في حين ارتفع مستوى المعيشة في كوريا الجنوبية بشكل صاروخي.
من خلال تأطير العناصر الطموحة و المتعاونة مع النظام حزبياً وفي منظمات شعبية تمكن اﻷسد من ٳيهام هؤلاء أن لهم دوراً ومصلحة في استتباب اﻷمر للنظام وسيستمر هذا الوضع ما دام اﻷسد محتاجاً لغطاء شعبي في معادلة رابحة للطرفين ، اﻷسد والمنتفعين من نظامه ، لكن على حساب حرية الشعب وآماله في التطور.
في مجتمع "النمل " اﻷسدي ، لكل دوره ومكانه المخصص وله أمان نسبي ما دام يساهم في ازدهار تجارة اﻷسد ويقوم بما هو مطلوب منه. من الظلم القول أن النظام الذي بناه اﻷسد في تلك المرحلة كان شراً كله، فالتعليم المجاني والطبابة للجميع ولو بحدها اﻷدنى كانت مكاسب لا يستهان بها بالنسبة للفقراء ومحدودي الدخل. تدفق المعونات والمال الخليجي بعد الطفرة النفطية ساهما في ٳعطاء دفعة قوية للمجتمع السوري الذي سيعيش فترة نمو "ذهبية " ما بين 1974 و 1979 تاريخ بدء التدهور الاقتصادي وتراجع الامتيازات التي كان النظام قد وفرها للفقراء، لصالح نمو طبقة طفيلية كومبرادورية و بعد اتضاح الدور القذر لنظام اﻷسد وطبيعته الفئوية وممارساته الطائفية.
في نهاية "شهر العسل " اﻷسدي بدت واضحة سياسات اﻷسد في تقسيم المجتمع على أسس اقتصادية وطائفية ، بشكل يختلف عن النموذج الكوري الشمالي الستاليني المعتاد. نظام اﻷسد كان قد طور ، جنباً ٳلى جنب مع النموذج الستاليني، سياسات مستقاة من النموذج العنصري الجنوب أفريقي.
دولة جنوب أفريقيا والتي استقلت بعد الحرب العالمية الثانية طبقت سياسة الفصل العنصري منذ عام 1948. قبل هذا التاريخ كانت هناك تفرقة عنصرية لكن دون وجود سياسة متكاملة للفصل بين اﻷعراق. اﻷسد استلهم النموذج الجنوب أفريقي الذي طبقه البيض لتسهيل سيطرتهم على بلاد واسعة لا يشكل البيض فيها أكثر من 21 % في حين يشكل السود 67 % في عام 1948. البيض الذين كانوا يخافون من التكاثر السكاني للسود وضعوا قوانين للفصل العنصري كان المعلن من أهدافها هو "مساعدة السود على التطور اجتماعياً " في حان كانت نتيجتها الفعلية هي حصر بعض المهن والمواقع الاجتماعية الهامة بالبيض ومن تحالفوا معهم من الهنود والملونين.
هكذا ومع الزمن اصبح البيض وحلفاؤهم أكثرية ساحقة في الرتب العليا في الجيش والشرطة والقضاء ويشكلون اﻷكثرية في فرق النخبة العائدة لجيش جنوب أفريقيا القوي والمحترف.
اﻷسد طبق سياسات وحوافز جعلت من أبناء طائفته العلوية أكثرية في في الجيش خاصة في الرتب العليا وهم يشكلون الجسم اﻷساسي لقوات النخبة من الفرقة الرابعة والقوات الخاصة والحرس الجمهوري ، ٳضافة ٳلى تغلغلهم في أجهزة اﻷمن السرطانية بنسب تقارب ال 80 %.
في مجتمع النمل اﻷسدي ، الطائفة العلوية منوط بها دور " الجندي " حامل السلاح وحامي حمى "المستعمرة " اﻷسدية والتي يقبع اﻷسد وعائلته في قلبها. هذا كان يقتضي تشويه التطور الطبيعي للطائفة ﻹبقائها في دورها المدروس وهو يفسر بطء تطور المناطق العلوية قياساً ٳلى غيرها فشباب الطائفة مقدر لهم أن يبقوا على الجهل والغفلة لكي يسهل التحكم بهم في سوريا اﻷسد.
في حين كان أبناء باقي الطوائف يمارسون المهن المختلفة وينفتحون على العالم الواسع ، يدرسون أو يهاجرون ومنهم من يعود بثروات طائلة ، بقي أبناء "الطائفة الكريمة " محبوسين في سجن ذي قضبان مطلية بالذهب العائد لآل اﻷسد ، مهمتهم حراسة دوام نظام القمع الذي يبقيهم في دور الجنود اﻷذلاء ويجود عليهم ببعض فتات مما يجنيه ناهبو البلد من كل الطوائف.
من لم يكن مؤهلاً للعمل العسكري من أبناء الطائفة ، كذلك اﻷمر مع بناتها ، فتح لهم اﻷسد أبواب التوظيف في دوائر الدولة المختلفة ووزاراتها بحيث يقتاتون بالقليل الذي يجود به عليهم سيد الشام وبحيث يبقى مصيرهم ومصير وظائفهم البسيطة مرهوناً ببقاء النظام. هذا الوضع خلق منافسة بين فقراء الطائفة العلوية وباقي الفقراء والمعدمين من كل الطوائف الذين أصبح حلمهم هو الحصول على وظيفة براتب ضئيل يقيهم شر الحاجة. كلما ازدادت هذه المنافسة كلما زاد تعلق فقراء الطائفة بالسلطة وكلما ازداد ولاء هؤلاء "المنتفعين " الصغار لآل اﻷسد ، دون أن يدركوا أنهم قد وقعوا في شرك لا مخرج منه بغير سقوط النظام وبغير التوافق مع باقي مكونات الشعب.
مع قدوم الآلاف المؤلفة من أهل الريف وبخاصة من الطائفة العلوية لملء الشواغر في الجيش واﻷمن وفي الوظائف الحكومية المتاحة لهم ، حصلت أزمة سكن خانقة في المدن الكبرى ، خاصة تلك التي هي في قلب السلطة السياسية والاقتصادية مثل دمشق وحلب فكيف قام اﻷسد "بحل " هذه المشكلة ؟
في هذا المضمار استلهم اﻷسد النموذج اﻹسرائيلي ، فهناك خلقوا "كيبوتزات" و مستوطنات ، أما في سوريا اﻷسد فقد ابتدع النظام "العشوائيات" وهي حارات شبه منظمة و تتلقى خدمات لا بأس بها من ماء وكهرباء وصرف صحي ﻷكثرها، وأحياناً بالمجان ! هذه المستوطنات أخذت شكل أحياء متكاملة ومتجانسة طائفياً على أطراف المدن الكبرى مثل "عش الورور" و"مساكن الحرس" في ضواحي دمشق وغيرها. هذه المستوطنات سوف تلعب دور خط دفاع متقدم عن النظام وهو ما نشهده اليوم في حمص وقد نشهده في غيرها من المدن السورية
للتغطية على الطبيعة الوظيفية والطائفية لهذه اﻷحياء تعامى النظام عن "عشوائيات " أخرى ﻷصحاب الدخل المحدود دون أن تتمتع هذه اﻷخيرة بنفس المستوى من الخدمات ودون أن تكون متجانسة طائفياً كحال " مستوطنات " النظام.
بناء العشوائيات كان فرصة للنظام كي يتفاهم مع برجوازية جديدة طفيلية استفادت من بيع اﻷراضي ومواد البناء. لكن اﻷهم من وجهة نظرنا هو محاولة فهم عدم رغبة النظام في تنظيم هذه اﻷحياء و في جعلها ضواحي سكنية حقيقية وعدم قيام النظام ببناء ما يكفي من الوحدات السكنية لزبانيته رغم أنه استفاد من الطفرة النفطية ورغم توافر السيولة النقدية لديه.
الحقيقة أن ٳبقاء سكان العشوائيات في وضع غير نظامي يسمح بالتحكم بهم وبمسار حياتهم ، فلو أن مساكن العشوائيات أصبحت منظمة وشرعية فٳن هذا كان سيخفض أسعار البيوت في المدن الكبرى وسيضر بطبقة تجار البيوت المرتبطة بالنظام واﻷهم من ذلك أن ساكني هذه البيوت في العشوائيات سيصبحون مالكين لها وقادرين على بيعها والاستفادة من ثمنها في ٳقامة مشروعات اقتصادية تحقق لهم بعض الاستقلالية عن النظام ، أو الانتقال ٳلى مناطق أخرى بما يتيح اختلاطهم بباقي فئات الشعب واندماجهم الناجز في النسيج الوطني السوري الواسع. هذان الاحتمالان ، الاستقلالية أو الاندماج كانا خطاً أحمر للنظام.
هكذا تمكن اﻷسد من تطويع الطائفة العلوية ومن السيطرة على المجتمع السوري كله عبر التحكم في معيشة المواطنين كافة وفي فرص كل منهم في التطور والارتقاء ، بخاصة الأقليات والطبقات الموسرة وحيتان المال والذين سوف نخصص لهم مقالة مقبلة.
في النهاية تبقى الطائفة العلوية أحد أكبر ضحايا دولة اﻷسد ، فهذه الطائفة تجد نفسها وقد صار معاش أبنائها ورواتبهم وسكناهم وحتى مستقبلهم بيد النظام يفعل بهم ما يشاء. هذه الطائفة قد تدفع الثمن اﻷكبر لسقوط النظام الحتمي ٳن هي استمرت في الانخراط في السياسة القذرة التي رسمها اﻷسد اﻷب لطائفته وجاء اﻷسد الابن لكي يعمقها ويجعل منها سياسة انتحارية بامتياز.

أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في العدد السابع و العشرين من "حـريـــــــــــــات " ، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية ، والذي صدر الإثنين في العشرين من شباط 2012.
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue27.pdf
دولة العصابة 11 خنجر اﻷسد


واجه الأسد مشكلة انعدام الشرعية لدى نظامه ، فهو حين وقع اتفاقية فصل القوات مع إسرائيل التزم بعدم مقاومة أو إزعاج الدولة العبرية ، فكيف لنظام استمد شرعيته من مقاومة المشروع الصهيوني والامبريالي أن يلتزم بعدم المقاومة ! ؟
الأسد كان يدرك أن الخطر الأكبر على نظامه كان، وقتها ، يتأتى من "تعامله" مع العدو وتهاونه عن تحرير الأرض السورية المحتلة. هذا يفسر اعتماد اﻷسد خطاباً مغرقاً في القومية ومقاوماً لفظياً دون التجرؤ على الانتقال لمقاومة فعلية سوف تنهي حكمه.
الأسد الذي حارب الفلسطينيين في سورية قدم لهم جهاراً في لبنان كل الدعم الذي كانوا يحتاجونه لدرجة جعلت من المنظمات الفلسطينية الطرف الأقوى في بلاد الأرز ، بمباركة سوفييتية. هذا الوضع أغضب المسيحيين في لبنان خاصة حين تحالف الفلسطينيون مع القوى التقدمية واليسارية اللبنانية. اﻷسد كان يدرك أن تقوية الفلسطينيين في لبنان سوف تؤدي لنتيجة مشابهة لما حصل في الأردن من غياب القانون ونشوء "فتح لاند" وسوف يشعل شرارة حرب أهلية في لبنان سوف تفتح له نافذة فرص لا يستهان بها.
في 13 نيسان 1975 حدثت مجزرة راح ضحيتها حوالي 27 شابا فلسطينيا كانوا في رحلة دراسية وقتلوا لدى عبور الباص الذي كانوا يستقلونه لحي الكرنتينا المسيحي. هذه المجزرة الشنيعة جاءت رداً على محاولة اغتيال الشيخ "بيير الجميل" رئيس حزب الكتائب قبل أيام والتي اتهم بها الفلسطينيون.
ميزان القوى كان يميل بشدة لصالح الفلسطينيين وحلفائهم اليساريين أصدقاء السوفييت والفرصة كانت ذهبية لكل هؤلاء ، فالمسيحيون هم من باشروا الأعمال "العدائية " بشكل إجرامي وفج والفلسطينيون لديهم غطاء لبناني متين عبر تحالفهم مع قوى اليسار إضافة إلى مساندة عربية وشرقية واسعة لقضيتهم. السوفييت فركوا أيديهم فرحاً وهم يرون حلفاءهم يجتاحون المعاقل المسيحية والمحافظة الواحد تلو الآخر. الفلسطينيون اقتنعوا أن "اللقمة وصلت لفمهم " فهاهم على وشك تحويل لبنان لفيتنام شمالية ثانية ، وسوف يلعبون دور الفيتكونغ الذين حرروا لتوهم فيتنام الجنوبية من الأمريكيين. بيروت سوف تصبح "هانوي" و"عرفات" رأى نفسه في موقع "هو شي منه".
في حرب الأنصار المفتوحة التي كان سيشنها الفلسطينيون ضد إسرائيل وأمريكا من ورائها سيتكلف الإسرائيليون الكثير وسوف لن يجديهم سلاحهم النووي فلن تكون في لبنان دولة مستقلة قادرة على الضغط على الفلسطينيين ليوقفوا حربهم. حتى لو استعملت إسرائيل سلاح تدمير شامل فلن تتوقف المعارك ولن يتوقف الفلسطينيون عن محاولة تحرير أرضهم حتى لو دمرت عدة مدن لبنانية.
بحسب المخطط اليساري الفلسطيني كان دخول إسرائيل على خط المعارك متوقعاً بل ومنتظراً فهو الهدف اﻷسمى "للانقلاب" الفلسطيني. حتى لو احتلت إسرائيل معظم لبنان ، فالبلد سيصبح مقبرة لجنودها و سوف يستمر الفلسطينيون في تلقي الدعم عبر الحدود السورية من "نظام البعث المقاوم " في دمشق المدعوم سوفييتياً والذي "ربما سينتهز الفرصة لتحرير الجولان" حين تكون إسرائيل غارقة في المستنقع اللبناني....
نفس المخطط كان مطروحاً في المملكة اﻷردنية عام 1970، لكن غياب الدعم الداخلي للفلسطينيين هناك والهزيمة المذلة للقوات السورية التي دخلت اﻷردن ﻹنقاذهم ، مع حنكة الملك حسين ودهائه ، ٳضافة ٳلى غياب الاستراتيجية الفعالة لدى الفلسطينيين و تشرذمهم وممارساتهم الخاطئة ، كل هذا أعاق تحويل اﻷردن ٳلى دولة فلسطينية تحت حكم فتح تدير حربا أنصار مفتوحة مع ٳسرائيل و ظهيرها اﻷمريكي، مستندة ٳلى دعم أنظمة "ثورجية " شقيقة في العراق وسوريا ومن ورائهم حلف "وارسو".
سيناريو يطابق في كثير من تفاصيله ما حدث في جنوب شرق آسيا وانتهى ٳلى طرد اﻷمريكيين من هناك. فكرة "المستنقع" الذي سيغرق العدو في أوحاله هي في اﻷساس من ضمن العقيدة السوفييتية. هذه العقيدة التي جاء مقتلها من المستنقع اﻷفغاني !
الفرق الأساسي بين ما حصل في جنوب شرق آسيا وفي الشرق اﻷوسط هو أن ٳسرائيل لا تعتبر نفسها "امتداداً " للاستعمار الغربي بل تريد أن تبقى. مواطنوها خاصة ممن وولدوا هناك أو عايشوا الهولوكوست لن يرحلوا وسيدافعون عما يعتبرونه "ديارهم وبلدهم الوحيد ". التصميم اﻹسرائيلي على البقاء بأي ثمن يبدو أنه لم يتم ٳعطاءه حقه من التقدير من قبل الفلسطينيين وحلفائهم. السوفييت من جهتهم لم يكونوا يريدون زوال ٳسرائيل بل كانوا يريدون استنزاف اﻷمريكيين وٳضعاف نفوذهم.
الفلسطينيون قاموا بتحسين استراتيجيتهم هذه المرة في لبنان فاندمجوا في المعادلات السياسية اللبنانية وتواصلوا بفعالية مع لاعبين أساسيين على الساحة الداخلية لدرجة تشكيل "جبهة مشتركة " مع القوى التقدمية واليسارية التي وجدت نفسها متورطة في "لعبة أمم " أكبر من الملعب الداخلي اللبناني.
كانت الحلبة ٳذاً مهيأة للمنازلة بين القوات اللبنانية و "حليفها الموضوعي " اﻹسرائيلي على مبدأ "عدو عدوي صديقي " ، وبين القوى اليسارية اللبنانية الحالمة بتغيير الميزان الطائفي اللبناني لصالحها ، مستقوية بالسلاح الفلسطيني وبالظهيرين السوري والسوفييتي. الفلسطينيون استخدموا الطبقة السياسية اللبنانية قصيرة النظر و الفاقدة للحكمة للوصول ٳلى هدفهم المشروع من وجهة نظرهم وهو مقارعة ٳسرائيل في حرب تستلهم النموذج الفيتنامي اعتماداً على الشقيق السوري وعلى حلف وارسو.
شرارة الكرنتينا في نيسان 1975 كانت ٳشارة الانطلاق للمواجهة الكبرى مع القوات اللبنانية القليلة التسليح وعديمة الخبرة والتي تم سحقها سريعاً، مثلما يفعل اﻷسد الصغير اليوم مع معارضيه العزل أو شبه العزل. هذا الوضع كان أشبه " باستدعاء " التدخل الخارجي، اﻹسرائيلي حصراً ﻷن أمريكا التي خرجت لتوها من المستنقع الفيتنامي لم تكن في وارد الوقوع في "مطب " جديد. ٳسرائيل كانت ستكون مضطرة للتدخل ﻷنها تدرك أنها هي المستهدفة بشكل غير مباشر وأن الصراع الحقيقي سيكون معها في آخر اﻷمر.
لكن اﻷسد سوف يهب لنجدة "العدو " اﻹسرائيلي وﻹخراجه من ورطته وسيقاتل الفلسطينيين بدل ٳسرائيل.
حين بدأت بعض القوات الفلسطينية المرابطة في سوريا بالدخول ٳلى لبنان في حزيران 1976 ظن الفلسطينيون أن هذه الخطوة اﻷولى جاءت لدعم جهدهم الحربي المقبل في مواجهة العدو الصهيوني ، القوات السورية التي دخلت لبنان فيما بعد قامت بضرب قوى اليسار والفلسطينيين ولم تكتف بٳنقاذ المسيحيين من الذبح ولا بوقف القتال.
في تشرين اﻷول 1976 أصبح واضحاً لكل ذي عينين أن القوات السورية جاءت لا لتحمي المسيحيين من اﻹبادة ولكن لكي تضرب القوى الفلسطينية واليسارية وتحرمها من الانتصار على المسيحيين ومن "حربها " الموعودة مع ٳسرائيل. الفلسطينيون وحلفاؤهم كانوا ينتظرون تدخلاً عسكرياً وحرباً طاحنة ، لكن من جانب ٳسرائيل التي استعدوا ووضعوا الخطط والتحالفات ﻷجل مواجهتها على المدى الطويل ، ابتداء من جنوب لبنان وحتى العمق اللبناني.
الضربة التي جاءتهم من جانب الحليف السوري "الشقيق " كانت غير محسوبة على اﻹطلاق.
لسنا في وارد لا تبرير الاستراتيجية الفلسطينية ولا الحكم عليها. هذه الاستراتيجية كانت تتضمن التضحية بلبنان وبشعبه في سبيل هدف عروبي وقومي وكانت تتقاطع مع اﻷهداف المعلنة لنظام اﻷسد وتخدم خطابه القومجي والمقاوم.
لماذا ٳذاً قدم اﻷسد "خدمة العمر" ﻹسرائيل بٳنقاذها من الكمين الذي نصبه لها اليسار اللبناني والقوى الفلسطينية والذي كان سيشكل أصعب امتحان تواجهه ٳسرائيل منذ ٳنشائها ؟ ٳسرائيل كانت ستجد نفسها في موقع أشبه بموقع فيتنام الجنوبية التي زالت من الخريطة في 30 نيسان 1975.
الملفت للنظر هو أن اﻷسد فور تأكده من "نزع أنياب" المقاومة الفلسطينية ، "انقلب" على ٳسرائيل وصار يحاربها بالواسطة عبر مقاومة فلسطينية ضعيفة ومشرذمة. انتهى اﻷمر ٳلى سيطرة اﻷسد على القرارين الفلسطيني واللبناني وتسخيرهما لخدمة استراتيجيته في حرب الواسطة، خاصة بعد مجازر "تل الزعتر" وغيرها.
بفعلته هذه قام الأسد بتقليد الدول العظمى وابتدع "الحروب بالواسطة " لكن تلك التي تقوم بها دول صغيرة ! اﻷسد استلهم مثال الحرب عبر أطراف ثانية والتي كانت بديلاً عن المواجهة بين العملاقين أثناء الحرب الباردة وطبقه على "صراعه" المزعوم مع ٳسرائيل. لنتذكر أن السوفييت والأمريكيين تواجهوا أكثر من مرة عبر أطراف إقليمية ، العرب وإسرائيل، فيتنام الشمالية والجنوبية، الكوريتين وهكذا.
هدف الحرب بالواسطة هو تجنب المواجهة النووية المدمرة للجميع بين العملاقين الذين تحاربا عبر مواجهات محدودة بين أطراف إقليمية.
سوريا ليست دولة كبرى ، وتحرير الجولان حرباً أو بالمقاومة ما كان ليهدد وجود إسرائيل ويدفعها لاستعمال السلاح النووي ، لكن الأسد اختار محاربة إسرائيل بالواسطة ، برضا هذه الأخيرة وعبر من كانوا أعداء فعليين لدولة الصهاينة. لم يكن الأسد ليغامر بمواجهة سوف تهدد حكمه عبر الجولان ولو بواسطة فدائيين فلسطينيين ، ناهيك عن فتح المجال أمام أبناء الهضبة ليحاولوا العودة لأراضيهم بأي شكل كان.
لتكريس الحرب بالواسطة كان لزاماً على اﻷسد أن يصادر القرار الفلسطيني ويجعل " الفلسطينيين " يقاومون ٳسرائيل "على الخفيف " ولحسابه. الأسد الذي استقر في بلاد الأرز بغطاء عربي وأمريكي ، ترك فدائيي "ياسر عرفات " في جنوب لبنان لشأنهم احتراماً لاتفاقية القاهرة السريالية والتي سمحت بتواجد الفدائيين الفارين من الأردن جنوب الليطاني بموافقة "جمال عبد الناصر". هذه الاتفاقية التي استباحت بلاد الأرز و"أخذت علماً " بعجز الدولة اللبنانية عن ضبط المسلحين الفلسطينيين.
في النهاية التقت أهداف الأسد في التظاهر بمحاربة إسرائيل مع أهداف الأخيرة في إدخال الفلسطينيين في معارك جانبية قبل القضاء على قوتهم الضاربة وفي تدمير نموذج العيش اللبناني المشترك وإضعاف الاقتصاد اللبناني الخدماتي المنافس للدور الإسرائيلي في المنطقة.
دون الدخول في متاهات أخلاقية أو لا أخلاقية الاستراتيجية الفلسطينية والسوفييتية وفي تضحيتها بلبنان وشعبه لصالح أهداف تندرج في ٳطار الحرب الباردة التي سيخسرها السوفييت ، لنلاحظ أن اﻷسد استل خنجره هذه المرة ليطعن المقاومة الفلسطينية و الحليف السوفييتي في الظهر.

أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في العدد الثامن و العشرين من "حـريـــــــــــــات " ، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية ، والذي صدر الإثنين في السابع و العشرين من شباط 2012.
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue28.pdf
دولة العصابة 12 مزرعة المقاومة اللبنانية

طاعت سوريا بكاملها للأسد وجماعته يفعلون بها ما يشاءون. الأسد أنشأ اقتصاداً شديد المركزية ، متضخماً و قليل الفعالية ، هو نسخة عن النظام السوفييتي بنكهة من العالم الثالث. الأسد كان مدركاً أن الحرية الاقتصادية والانفتاح حتى الاقتصادي المجرد كانا يشكلان خطراً على سلامة نظامه.
المشكلة أن هكذا نظام اقتصادي يحد من مجالات النهب و يقننها ، فمجالات السطو محدودة ومعدودة.الأسد كان يحاول الاحتفاظ بحد أدنى من المظاهر الاشتراكية في ظل اقتصاد يعتمد على قطاع عام واسع ومترهل مع مساهمة محدودة للقطاع الخاص بشكل يؤمن أوسع قاعدة ممكنة لنظامه. هدف الأسد كان تأمين حد أدنى من الخدمات بنوعية سيئة وبكلفة غير متناسبة للحفاظ على حد أدنى من الرضا الشعبي ، دون السماح لأزلامه بإظهار ثرائهم الفاحش . هذا نوع من "التقية " التي تهدف للحفاظ على قشرة اشتراكية لاقتصاد قائم على النهب المنظم.
الأسد كان يدرك أن التهديد الاقتصادي لحكمه ، مع تدفق الدعم الخليجي لنظامه " المقاوم " بعد الطفرة النفطية وحرب التحريك لم يكن يشكل خطراً عاجلاً على استقرار دولته. المشكلة كانت في : كيف يؤمن ولاء مناصريه وكيف يضمن استمرار لعبة المقاومة والممانعة اللفظية دون التورط في مواجهة فعلية مع ٳسرائيل ولو بالحد اﻷدنى. دخول الجيش السوري ٳلى لبنان بدعوة من القوات اللبنانية والمسيحيين وبغطاء أمريكي مع دعم ٳسرائيلي سمح للأسد باجتراح حلول لهاتين المشكلتين ، المشكلة الاقتصادية ومشكلة الشرعية المقاومة.
على الصعيد الاقتصادي، سوف يصبح لبنان "البقرة الحلوب " لنظام اﻷسد وسينجح اﻷسد في المحافظة على نظام اقتصادي "سوفييتي" في سوريا مستفيداً من النهب المنظم لموارد سوريا وللاقتصاد اللبناني الذي سيعاد تشكيله بطريقة تجعله "حديقة خلفية" لسوريا المنقطعة عن العالم واقتصاد نهب وخدمات لصالح المحتل اﻷسدي وجيشه. اﻷسد كان يهدف من وراء ربط الاقتصاد اللبناني القوي والحيوي باقتصاد سوريا المترهل خلق علاقة عضوية بين المجتمعين تكون خاضعة لسيطرته وتسمح بٳدامة سيطرته على سوريا و بلاد اﻷرز.
هكذا تمت ٳعادة تشكيل الاقتصاد اللبناني وخلق طبقة من رجال المال واﻷعمال ، وليس فقط الساسة ، المرتبطين عضوياً ومصلحياً بالمحتل اﻷسدي. هكذا تحولت شتورا وأجزاء شاسعة من البقاع ٳلى "هونغ كونغ" غير منتجة مهمتها تسويق بضائع العالم ٳلى سوريا عن طريق التهريب بما سمح بٳثراء الكثيرين من ضباط وزبانية اﻷسد على حساب الحركة الاقتصادية الصحية والسليمة. تحول لبنان ٳلى "سوبر ماركت " كبير يشتري فيه السوريون كل ما هو "ممنوع " في بلدهم من المناديل الورقية ٳلى الخبز والصابون ثم يعودون لبلدهم ويدفعون المعلوم كي لا تتم مصادرة "علب البسكويت " التي يحملونها.
لا ننسى أيضاً زراعة الحشيش وتجارة المخدرات وتبييض اﻷموال واﻷتاوات التي كان ضباط و زبانية اﻷسد يفرضونها على اللبنانيين من صناعيين وتجار. أصبح لبنان "مزرعة كبيرة " لآل اﻷسد وشركائهم يفعلون فيه ما لم يسمح لهم اﻷسد اﻷب بفعله في سوريا. اﻷسد اﻷب أراد حتى آخر لحظة في حياته المحافظة على مسحة من الاشتراكية في سوريا لمنع تحولها ٳلى مسرح للنهب المكشوف بما يحفظ للنظام قدراً محدوداً من المصداقية لدى فقراء سوريا.
لكي يرتوي لصوص العائلة فتح لهم اﻷسد اﻷب أبواب الداخل السوري بمقدار معلوم يحدده هو ، بالمقابل سمح اﻷسد لزبانيته بنهب لبنان دون حساب. اﻷسد الابن سوف يجد نفسه مضطرا لتحويل سوريا ٳلى مسرح للنهب المنظم والمكشوف بعدما تم طرده من لبنان. هكذا وقع اﻷسد الابن في الخطأ الذي اجتنبه أبوه وهو ما أوصل سوريا ٳلى حالة من الاستقطاب الاجتماعي والاقتصادي الحاد هي من أهم أسباب الحراك الراهن.
باعتبار أن "أهل مكة أدرى بشعابها " نترك أمر جرائم اﻷسد بما فيها الاقتصادية والتي ارتكبها في لبنان لمثقفي لبنان اﻷحرار وهم كثر. حين تتحرر سورية من الاحتلال اﻷسدي ، سوف تبدأ حتماً مرحلة تخليص لبنان من وصاية "المحتل الصغير" اﻹلهي ، حينها سيكتب مثقفو لبنان بحرية وسوف "يكشفون المستور" من جرائم دولة العصابة اﻷسدية وزبانيتها وأذنابها.
بقي الشق الثاني من السؤال وهو : كيف "يقاوم" اﻷسد ٳسرائيل دون أن يقاومها فعلاً ؟
في عام 1976 وبعدما سحق اﻷسد القوة العسكرية الفلسطينية ورديفتها العائدة للقوى اليسارية، وبعد أن سمح بٳبادة "تل الزعتر" مع أن التفويض الممنوح له من قبل الجامعة العربية كان وضع حد للمذابح من أي جهة كانت ، توقف اﻷسد قبل القضاء بشكل كامل على السلاح الفلسطيني وهو ما كان المسيحيون ومن ورائهم ٳسرائيل وأمريكا يتمنونه ، فلماذا توقف اﻷسد قبل ٳتمام مهمته القذرة تاركاً لحلفائه اللبنانيين الجدد مهمة "تنظيف " تل الزعتر ومواقع أخرى ؟
ترك اﻷسد لعرفات ولحلفائه اليساريين بعض القوات وما يكفي من السلاح والعتاد بحيث لا يسمح لهم لا بمهاجمة ٳسرائيل ولا بالعودة لتهديد المسيحيين. استطاع الفلسطينيون الاحتفاظ بمواقع لهم في الكثير من المخيمات الفلسطينية التي أصبحت "كانتونات" شبه مستقلة وخارجة عن سلطة الدولة اللبنانية. استمرار الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان أصبح رهن ٳرادة اﻷسد مع استثناء واحد هو جنوب الليطاني . هذا الاستثناء ما عاد يشكل خطراً فعلياً على ٳسرائيل مع تحكم اﻷسد بٳمدادات الفلسطينيين العسكرية و سيطرته على باقي اﻷراضي اللبنانية بما يمنع قيام جبهة موحدة مناهضة ﻹسرائيل.
لو كان اﻷسد قام بكل ما كان ينتظره منه الصديقان اﻷمريكي واﻹسرائيلي لكان حاله كحال "صدام حسين " الذي اجتاح اﻷراضي اﻹيرانية مشعلاً حربا مجنونة ودامية وفتنة سنية – شيعية ما زلنا ندفع ثمنها ٳلى اليوم. صدام "سمع كلمة " المعلم اﻷمريكي بحذافيرها وأطاع أوامر سادته في البيض اﻷبيض الذين كانوا يريدون معاقبة ٳيران وتشويه مسار ثورتها خاصة بعد حادثة احتلال السفارة اﻷمريكية في طهران. نعرف جميعاً "جزاء سنمار" الذي ناله صدام و عصابته رغم أنهم كانوا يعتقدون جازمين أنهم كانوا على نفس الخط مع اﻹدارات اﻷمريكية المتعاقبة.
اﻷسد الخبيث والحاذق عرف أين ينفذ وأين يتوقف وهو بهذا أصبح رقماً صعباً في المعادلة اللبنانية ولاعباً أساسيا في اﻹطار اﻹقليمي. هكذا فرض اﻷسد على ٳسرائيل أن تتدخل "لتقلع شوكها بيديها " في آذار 1978 بعد "مذبحة الطريق الساحلي" التي شاركت فيها "دلال المغربي ". ٳسرائيل اجتاحت جنوب الليطاني قبل أن تؤسس جيش "سعد حداد" الذي سيقوم في جنوب لبنان بمهمة شبيهة بما يقوم به جيش اﻷسد العقائدي الذي يحرس الجولان منذ 1974. الفرق بين اﻹثنين هو أن جيش اﻷسد قام بٳخضاع التراب السوري و باقي التراب اللبناني لصالح سياساته المهادنة في المحصلة ﻹسرائيل .
الوجود اﻹسرائيلي غير المباشر في جنوب لبنان أصبح يلعب دور المبرر لبقاء الجيش اﻷسدي في باقي لبنان. الساحة اللبنانية أصبحت جاهزة لمهزلة "المقاومة " أي الحرب بالواسطة بين المقاومة الفلسطينية واللبنانية مدعومة بسوريا اﻷسد من جهة وبين ٳسرائيل التي تدعم جيش لبنان الجنوبي من الجهة اﻷخرى.
هذه المسرحية سمحت بتحويل اﻷنظار عن الجولان المحتل وتوجيهها صوب لبنان الذي احتلت ٳسرائيل لتوها جزءاً من أرضه، تحميه بواسطة جيش "سعد حداد" ومقاتليه من الشيعة والمسيحيين. أصدقاء اﻷسد من المسيحيين سرعان ما فهموا أبعاد المناورة اﻷسدية وطالبوا بخروج قوات اﻷسد من لبنان. اﻷسد رد على هذه الدعوة بالعودة ٳلى التحالف مع القوى اليسارية وٳلى مساندة الفلسطينيين !
لم تعد القضية قضية أرض سورية محتلة وتخاذل عن التحرير ، بل قضية العرب وٳسرائيل والمواجهة المصيرية في لبنان ! اﻷسد أدار لعبة المقاومة ببراعة المحتال الماهر، فلم تكن هناك ضربات موجعة حقاً ﻹسرائيل وحرب الكر والفر دارت كلها على اﻷراضي اللبنانية وأغلب ضحاياها فلسطينيون ولبنانيون.
لكي يؤكد اﻷسد سلطته ويديم القطيعة بين اﻷطراف اللبنانية قام باغتيال رجل لبنان الكبير والعابر للطوائف ، كمال جنبلاط ، في 16 آذار 1977. باغتيال رجل لبنان الكبير يومها أزاح اﻷسد التهديد الذي كان يمثله الرجل الذي كان يحظى باحترام الجميع وكان قادراً على خلق توافق لبناني لن يكون في صالح اﻷسد.
سوف تستمر مهزلة المقاومة هذه حتى حزيران 1982 حين تقرر ٳسرائيل اجتياح لبنان بكامله لوضع حد نهائي للمقاومة الفلسطينية ولابتزاز اﻷسد.

أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
ahmadshami29@yahoo.com
نشرت في العدد التاسع و العشرين من "حـريـــــــــــــات " ، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية ، والذي صدر الاثنين في الخامس من آذار 2012.
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue29.pdf
دولة العصابة 13: كابوس السلام


في افتتاح دورة مجلس الشعب المصري في 1977، وفي جلسة شهيرة أعلن السادات استعداده للذهاب للقدس بل والكنيست الإسرائيلي ، وقال : "ستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم ". انهالت عاصفة من التصفيق من أعضاء المجلس ، ولم يكن هذا الهتاف والتصفيق يعني أنهم يعتقدون أنه يريد الذهاب فعلا إلى القدس.
لكن السادات كان يعني تماماً ما يقول وكان قد أجرى اتصالات عدة عبر تشاوشيسكو رئيس رومانيا حينها و ملك المغرب الحسن الثاني. هذه الاتصالات توجت بلقاء بين "حسن التهامي " نائب رئيس الوزراء المصري وموشي دايان في المغرب بوساطة الملك المغربي. كل من اتصل بهم السادات أكدوا له : " أن بيغن هو صهيوني قح ، لكنه رجل سلام ويريد دخول التاريخ كالرجل الذي قام بترسيخ وجود إسرائيل وضمان أمنها ".
السادات الذي كان يواجه أزمة اقتصادية خانقة في مصر توجه قبل خطابه هذا إلى دول الخليج العربي في زيارة تهدف للحصول على مساعدات مالية بهدف إخراج مصر من أزمتها. السادات كان مقتنعاً أن دول الخليج التي كانت تبيع نفطها بأبخس الأسعار قبل حرب تشرين، قد استفادت كثيراً من الأزمة النفطية التي صاحبت الحرب وضاعفت أسعار البترول عدة مرات. الخليجيون ساهموا بالقليل من المال ولم يعانوا من ويلات الحروب وفي النهاية خرجت الدول النفطية كالرابح الأكبر من الحرب ومن وقف ضخ النفط الذي صاحب المعارك.
المصريون من جهتهم ضحوا بالغالي والرخيص وقدموا أرواحهم ودماءهم وكانت النتيجة تدمير اقتصادهم وٳفقار الشعب المصري. السادات كان مقتنعاً وعن حق بأن مصر ضحت بالكثير من أجل العرب وأنها تستحق الحصول على جزء من الكعكة الاقتصادية النفطية ومن الثروات الهاطلة فجأة على عرب الخليج.
حسب بعض ألسنة السوء فإن السادات سمع بأذنه، أثناء زيارته تلك لدول الخليج ، بعض مستقبليه من عرب النفط يتهامسون "ها قد جاء الشحاذ...". السادات أتم زيارته دون تعليق على الحادثة. حين عودته لمصر وفي طائرته الرئاسية كان قد اتخذ قراره النهائي : سوف يذهب إلى القدس المحتلة "ولن يعود ليشحذ ثمناً للدماء المصرية التي سالت في سبيل العروبة..." بحسب ما صرح لأحد أصدقائه.
بالنسبة لإسرائيل، كانت الصفقة التي عرضها السادات علناً ممتازة فهي تعني نهاية حالة الحرب مع الدولة العربية الوحيدة القادرة على مقارعة إسرائيل. خروج مصر من معسكر المواجهة كان يعني عملياً نهاية الصراع العربي الإسرائيلي. الثمن لم يكن باهظاً وعودة سيناء إلى السيادة المصرية كانت تعني خفضاً هائلاً في نفقات الجيش الإسرائيلي الذي كان مضطراً لحراسة حدود سيناء، ولمراقبة كل شاردة وواردة فيها ، على عكس الحال في هضبة الجولان حيث يتولى الأسد وجنوده ضمان أمن إسرائيل مجاناً.
أنور السادات الذي ورث الحكم في مصر بعد عبد الناصر كان نقيضاً لسلفه في كل شيء. في حين كان عبد الناصر رجلاً عاطفياً يتمتع بكاريزما شخصية وبالتجاوب مع "نبض الجماهير الهادرة " كان السادات عقلانياً بارداً و يحسب كل خطوة قبل القيام بها. السادات اعتبر أن السياسة العربية لمصر يجب أن تخدم المصالح المصرية أولاً مع حفظ مظاهر التضامن العربي بما يخدم استمرار القيادة المصرية للعالم العربي. مبدأ السادات هو "من لا يستطيع ٳفادتك لا يستطيع الاضرار بك ". ما دام لا فائدة من العرب ، مثل السوفييت قبلهم ، فليذهب لأمريكا وإسرائيل بحثاً عن مصلحته ومصلحة مصر.
لم يصدق اﻷسد أذنيه حين سمع أن السادات ينوي التوجه ٳلى القدس المحتلة عارضاً السلام على ٳسرائيل...
السادات الذي حافظ على علاقاته مع نظام حافظ الأسد "استشار" هذا الأخير في شأن إجراء مباحثات مباشرة مع إسرائيل. الأسد رفض بشكل قاطع أي اتصال مباشر مع "العدو الصهيوني " واعتبر القضية على أنها مبدأ لا حياد عنه وربما كان مشككاً في جدية السادات.
السادات كان خير من فهم دوافع اﻷسد ومراميه السياسية وتعامل معه على أساس أن اﻷخير "أفاق " لا أمان له ولم يرد أن يرهن مصيره بمغامرات الأسد وطموحاته. هذا يفسر "المقالب " التي نصبها كل منهما للآخر.
بالمحصلة، تصرف الاثنان كزعيمي عصابة يتنافسان على من يكسب أكثر ومن منهما يستطيع التقرب أكثر من الأمريكيين. الفرق هو أن السادات كان أقل نرجسية وشراً من اﻷسد بما لا يقاس. السادات وضع مصالحه الشخصية بعد مصلحة مصر على عكس ما فعل اﻷسد الذي خطط منذ بداية حكمه لتأسيس سلالة حاكمة و لمصادرة البلاد والعباد لصالح شخصه وعائلته.
منذ حرب تشرين التحريكية ، رفض السادات التضحية بالمزيد من الجنود المصريين بهدف التغطية على سوء ٳدارة الأسد للمعارك في الجولان وعجزه الفاضح عن الدفاع عن اﻷراضي التي كان قد حررها. السادات كان يدرك أن اﻷسد يريد تحسين موقعه التفاوضي المقبل مع ٳسرائيل وتقاسم النفوذ معها لصالح شخصه ولم يرد تسهيل الأمر على الأسد أو مد يد العون له، ثأراً من "الخيانة" البعثية لمصر في حزيران 1967. من يومها لم يعد الأسد يثق بالسادات.
لنتذكر أن اﻷسد نجا حينها بفضل "بعد نظر " كيسنجر الذي أنقذه من "البهدلة " التي كانت ٳسرائيل تعدها له.
بسبب شكه في دوافع السادات كان اﻷسد واثقاً من أن في اﻷمر خديعة ! خاصة حين قدم السادات شخصياً ٳلى دمشق "ليخبره بنيته زيارة القدس المحتلة " وليطلب منه "أن يرافقه في رحلة السلام كما رافقه في الحرب ".
احتار اﻷسد ماذا يفعل ؟! هل يرافق السادات ٳلى القدس ويحرج هذا اﻷخير وٳسرائيل معه ؟ هل يحتجز السادات في دمشق ويمنعه من السفر ٳلى ٳسرائيل ؟ أم أن عليه أن لا يفعل شيئاً ويبقى محافظاً على خطاب الممانعة والصمود الفارغ والذي جلب له كل الخير ؟
السادات تمكن من خداع الأسد وإقناعه أنه كان يريد منه فعلاً أن يرافقه ٳلى القدس المحتلة وأنه قدم للضغط عليه فالسادات لم يكن يحتاج للقدوم لدمشق من أجل " مجرد ٳعلام اﻷسد بقراره ".
اﻷسد ظن أن الرئيس المصري أتى لدمشق كي يلوي ذراعه ويفرض عليه القدوم معه للقدس بغرض أن يبيعه مرة ثانية ﻹسرائيل....
من المؤكد أن اﻷسد كان يشتهي رد الصاع صاعين للسادات واحتجازه أو قتله في دمشق "ﻷنه خرب عليه صنعة الممانعة ". لكن ذلك لم يكن وارداً بالنسبة للأسد لأن هكذا خطوة ستكون فيها نهاية لنظامه. اﻷسد الذي خشي من مقلب ساداتي جديد رفض الذهاب مع السادات ٳلى القدس وأنشأ فيما بعد "جبهة الصمود والتصدي " التي ستبيع تجارة الممانعة لكل راغب.
اﻷسد كان مخطئاً على طول الخط ، فمقلب السادات كان موجوداً فعلاً ولكن هدف السادات من زيارة دمشق كان منع اﻷسد من المزاودة عليه ٳسرائيلياً أو أمريكياً. السادات كان يخشى أن يأتي اﻷسد معه ٳلى القدس المحتلة !
السادات كان يعرف أن فرصته الأفضل في استعادة سيناء هي في حل منفرد لا يشمل لا اﻷراضي الفلسطينية ولا الجولان. بالنسبة ﻹسرائيل : الضفة الغربية وغزة (حينها) هي جزء من أرض ٳسرائيل التاريخية ولا تنازل عنها. أما الجولان فالسادات كان يدرك تماماً أن لا مصلحة ﻹسرائيل في الانسحاب منه.
على عكس سيناء التي كانت عبئاً عسكريا وجغرافياً مكلفاً على ٳسرائيل، الجولان تم تسليمه على المضمون ومجاناً ﻹسرائيل مع ضمان استمرار احتلالها له وحراسة هذا الاحتلال بحراب اﻷسد. كانت ﻹسرائيل مصلحة في التخلص من الكابوس المصري بأي ثمن وعدم ٳضاعة جهودها في حراسة احتلالها لسيناء.
لو كان اﻷسد ذهب مع السادات ٳلى ٳسرائيل لكان أحرج نفسه وأحرج ٳسرائيل وكانت النتيجة ستكون فشل مبادرة السادات. حكومة بيغن لم تكن قادرة ولا راغبة في الانسحاب من كل الأراضي العربية ولا هي كانت راغبة في سلام شامل. السادات بمبادرته العلنية أحرج إسرائيل وحكومتها أمام شعبها والعالم وفرض عليها صفقة رابحة لمصر ولإسرائيل ، هذه الصفقة استثنت كل العرب و خربطت أوراق الأسد.
لهذا السبب فعل السادات كل ما في وسعه لكي لا يطالب بسلام شامل ولكي لا يأتي اﻷسد معه ٳلى الكنيست اﻹسرائيلي.
لم يكن السادات بحاجة لبذل الكثير من الجهد كي يبقى اﻷسد "ممانعاً " فصاحبنا كان منهمكاً في بناء إمبراطورية النهب في سوريا وفي جني ثمار غزوته اللبنانية واحتكاره ﻷوراق المقاومة اللبنانية والفلسطينية. اﻷسد كان قد وضع اﻷسس لمملكة الصمت اﻷسدية وأمن مستلزمات استمراره في الحكم ٳلى ما شاء الله.
اﻷسد لم يكن يريد ، وخليفته بعده لا يريد ، التوصل ٳلى اتفاقية سلام بأي شكل من اﻷشكال مع ٳسرائيل، ليس فقط ﻷن السلام سيجعل من نظامه خارج حركة التاريخ ولكن ﻷن لديه ما هو أفضل من اتفاقية سلام : لديه اتفاق فصل قوات يضمن له حكم سوريا بشكل أبدي، ما دامت ٳسرائيل تحتل الجولان وما دامت ٳسرائيل اللاعب اﻷقوى في الساحة اﻹقليمية وخاصة ما دامت ٳسرائيل نظاماً عنصرياً رافضاً للسلام وللآخر بامتياز.
أي اتفاقية سلام كانت سوف تمر أمام الكنيست اﻹسرائيلي وسيصعب تمرير الملاحق الخاصة باستمرار حكم آل اﻷسد في ظل اتفاقية بين دولتين. النواب اﻹسرائيليون و الراعي الدولي للاتفاق سوف يطرحون التساؤل المشروع حول مصير الاتفاقية ٳن سقط حكم اﻷسد أو انهار لسبب أو لآخر؟ اتفاقية سلام تحتاج لدولة مؤسسات تحترم التزاماتها بغض النظر عن شخص الحاكم. هذا اﻷمر كان متوفراً من حيث المبدأ في مصر. لكن اﻷسد كان رافضاً تماماً ﻷي شكل من الحكم المؤسساتي سوف يحد من طموحاته ويجعل من الصعب تحويل سوريا إلى مزرعة للأسد وعائلته.
لكي يكون طرحنا منطقياً ، فاﻷسد نفسه ربما ما كان يعتقد أن حكمه سوف يدوم لثلاثة عقود وأنه سوف يتمكن من توريث اﻷسد الصغير. لكنه حين كان يأخذ أي قرار كان يفعل كل ما يلزم ﻹدامة حكمه وسطوته وليذهب الشعب والبلاد ٳلى الجحيم. السادات على عيوبه الكثيرة كان له من الضمير ما سمح له بأخذ مصالح شعبه وبلده بعين الاعتبار "وليذهب اﻷسد والسوريون والعرب حيث يشاؤون...".
في السادس من اكتوبر 1981 ولدى حضوره عرضاً عسكرياً بمناسبة الحرب، قضى أنور السادات تحت رصاص "خالد الاسلامبولي " بحجة أن السادات "الرئيس المؤمن" قام باضطهاد اﻹسلاميين وحبسهم !
حينها تنفس اﻷسد الصعداء وأيقن أنه قد اتخذ القرار المناسب لشخصه والذي "مد في عمره ".
هكذا انضم السادات ٳلى العشرات من الساسة العرب الذين غابوا عن الدنيا قتلاً أو في ظروف غامضة ، في حين امتدت أعمار آخرين رغم سفكهم لدماء الآلاف من أبناء شعبهم....

أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
ahmadshami29@yahoo.com
نشرت في العدد الثلاثين من "حـريـــــــــــــات " ، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية ، والذي صدر الاثنين في الثاني عشر من آذار 2012.
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue30.pdf
دولة العصابة : 14 حماة، وجه القاتل البشع

النظام الذي بناه حافظ اﻷسد في سوريا هو أحد أكثر اﻷنظمة في العالم تعقيداً من حيث تفاهماته و بنيته، وأحد أكثرها بساطة في طريقة عمله القائمة على مبدأ "العصا والجزرة". من هنا اخترنا الأسلوب التسلسلي في محاولتنا المتواضعة لمقاربة آليات عمل هذا النظام. كل مرحلة في نظام اﻷسد بنيت على أسس و تفاهمات تم التوصل ٳليها في المرحلة التي سبقتها، مثل النظام كمثل القذيفة الصاروخية ذات المراحل المتعددة، كل منها تبدأ من حيث انتهت سابقتها.
علاقات وتحالفات اﻷسد ونظامه اتخذت الشكل العنكبوتي ، فكل اتصال مع جهة يفتح باباً مع جهة أخرى وهكذا. بالتالي يحتاج المتابع لتطور النظام ولعلاقاته المحرمة أن يفتش في جهات قد لا تخطر ببال و يضيع وقته وجهده في البحث عن وقائع فعل اﻷسد والمتعاملون معه كل ما يلزم ﻹخفائها.
الذكرى السنوية الثلاثون لمجزرة اﻷسد الكبرى في حماه تفرض علينا تجاوز التسلسل الزمني الذي اتبعناه لتفسير استمرار نظام اﻷسد وتماسك بنية العصابة اﻷسدية ، فحين يتحدث الدم و لو بعد ثلاثة عقود، فالدم هو من يحدد المسار.
بدأ التحضير لمجزرة حماة قبل الثاني من شباط ١٩٨٢ بكثير، بدأ التحضير للمنازلة الكبرى بين اﻷسد واﻹخوان منذ ١٦ كانون الثاني ١٩٧٩ وهو يوم فرضت الثورة اﻹيرانية على محمد رضا بهلوي ، شاه ٳيران ، الرحيل و التنازل عن الحكم بعدما قدمت حوالي ٧٠٠٠٠ شهيد. لنتذكر أن هذا كان قبل اندلاع الحرب التي شنها صدام ضد الجار الإيراني والتي ربما كان مقدراً لها أن تنتهي، هي الأخرى ، إلى حرب أبدية "اورويلية " تصلح لإدامة الاستبداد في البلدين.
اﻷسد أدرك حينها أن مصيراً مماثلاً لمصير الشاه قد ينتظره. اﻷسد كان يبني بصبر نظاماً "شاهنشاهياً " سوف تتجلى مظاهره وأهدافه الحقيقية وقت توريث "بشار" ووقت يدرك السوريون، لكن متأخرين، الطبيعة الكامنة والفرعونية لنظام العائلة. نجاح الثورة في إيران أكد مخاوف الأسد من الإخوان الذين كان له معهم حساب قديم، منذ حاولوا قتله في اللاذقية أثناء شبابه.
لاحظ الأسد أن الثورة الإيرانية وجدت قاعدتها الصلبة في بازار طهران ومدن إيران المحافظة و تمتعت بدعم من رجال الدين الشيعة الغاضبين من حكم الشاه "السني" والذي اعتبروه علمانياً كافراً. الحراك الإيراني استند إلى طبقة متدينة و محافظة ، غير متطرفة وقادرة على استمالة الطبقات الفقيرة والمتوسطة بآن معاً. وجود طبقة متدينة ووسطية إلى حد ما، ساهم إذاً في إضعاف حكم الشاه والشعب الإيراني وجد في هذا التحالف بين يساريين معتدلين و حركة متدينة وسطية، بديلاً عن الشاه وحكمه القمعي.
الأسد فهم حينها أن الخطر على نظامه سيأتي من هكذا تحالف بين يسار معتدل ومحافظ نوعاً ما، مع حراك إسلامي وسطي وقابل بالتعايش مع الآخر. بهذا المعنى كانت حركة الإخوان المسلمين بتراتبيتها شبه الديمقراطية و بتجذرها في قلب المجتمع السوري السني المحافظ تشكل شوكة في حلق الأسد. هذه الحركة القادرة على جذب الجماهير المحافظة ، كانت في نفس الوقت قابلة للتطور و تهدد بأن تصبح حجر الرحى في أي معارضة جدية لنظامه. التخلص من هذه الحركة والخلاص من كل حراك إسلامي سياسي قابل للتطور باتجاه الاعتدال والتعايش مع الآخر أصبح هدف الأسد الأول.
الأسد وضع حينها استراتيجية لتجفيف الإسلام السياسي عن طريق سحق الحركات الإسلامية القابلة لأن تحكم يوماً مع تشجيع الإسلام الاجتماعي والدعوي الذي يخضع لسيطرته. هذا يعني أن الإسلام السياسي الممكن في غياب حركة معتدلة ومنظمة سوف يكون إسلاماً متطرفاً ، رافضاً للآخر وعنيفاً ، مما يجعل قدرة هكذا إسلام على تجنيد الأتباع محدودة و فرصة المتطرفين في التفاهم مع الآخرين والوصول للسلطة جد محدودة.
لكي يشجع الأسد هذا السيناريو، قام بمحاربة الإسلام "المعتدل" وغير المقاتل المتمثل بجماعة الإخوان وغضَّ البصر، في البداية، عن الحراك المتطرف، حتى قبل قيام الثورة الإيرانية، بدلالة قتل مروان حديد عام ١٩٧٦ لاستثارة مشاعر أتباع هذا اﻷخير.
الإخوان من جهتهم وقعوا بين نارين . من جهة "الطليعة المقاتلة" المدعومة بالسلاح من صدام حسين والتي كانت تظن أن زعيم البعث العراقي سيهب لنجدتها في ساعة الحشرة ، وبين استفزازات الأسد المذهبية المتكررة وتحرش عصابات النظام بهم و مجازرها الصغيرة مقارنة بما سيحدث عام ١٩٨٢.
انتهى الأمر كما نعرف إلى رجحان كفة الطليعة المقاتلة وإلى وقوع مناوشات بين الفينة والأخرى مع اغتيالات تقوم بها الطليعة المقاتلة لرجالات الصف الثاني من النظام، وأخرى يقوم بها النظام لأشخاص يزعجونه ثم يلصقها بالطليعة المقاتلة ! مع اعتقالات و قتل عشوائي ، لكن "بالمفرق" في انتظار أن تنضج الظروف المناسبة "لأم معارك " الأسد ضد شعبه الأعزل.
الأسد كان بحاجة لظروف دولية مؤاتية سوف تكتمل شروطها في بداية عام ١٩٨٢. حينها كان نظام صدام قد فقد كل قدرة على المبادرة في حربه المجنونة ضد إيران وأصبح يحتاج لدعم مفتوح من دول الخليج ومن الغرب والشرق كي يقدر على المحافظة على حدوده الدولية بعدما كان قد خسر كل الأراضي الإيرانية التي سبق له وأن احتلها. إيران، حليفة الأسد، انتقلت من الدفاع إلى الهجوم منذ خريف 1981 وكادت أن تحتل البصرة.
صدام ما عاد يقدر أن يفعل شيئاً لإنقاذ أصدقائه من إخوان سوريا وصار هو نفسه بحاجة إلى المساعدة بفضل "حنكته وذكائه ". عرب الخليج المرتعدون والخائفون من المارد الإيراني بعدما كانوا قد ساندوا العدوان العراقي على إيران، ما كانوا ليرفضوا طلباً للأسد، حليف إيران والقادر على التوسط لهم عند ملالي طهران. ما كان العرب العاربة ليخاطروا بعروشهم وبإغضاب الأسد من أجل بضعة آلاف من السوريين، في حين كان يسقط الآلاف من العراقيين والإيرانيين يومياً في حرب عبثية ما عاد صدام قادراً على احتوائها.
الاتحاد السوفيتي كان قد تورط في افغانستان منذ ١٩٧٩ وفعل فيها وبشعبها مثلما سيفعل الأسد في حماة و أكثر. بريجنيف الخرف ما كان ليبالي لو فني نصف سكان سوريا على يد صديقه اﻷسد ، خليفته " بوتين " يفعل نفس الشيء في أيامنا هذه.
الأمريكيون من جهتهم، والمنخرطون في حرب باردة مرتفعة الحرارة مع اتحاد سوفييتي متهاو، ما كان ليضرهم أن تحصل مجازر في مناطق نفوذ المعسكر الشرقي مما سيعجل في انهيار الكتلة الشرقية وفي إفقاد السوفييت كل مصداقية. في نفس الوقت، كان الأسد قد أسدى لهم العديد من الخدمات وما كانوا ليرفضوا له طلباً "بسيطاً" ثمنه بضعة آلاف من الشهداء في سوريا، هذا إضافة إلى أن ربيبتهم إسرائيل كانت تحثهم على التساهل مع الأسد وطلباته.
الموقف اﻹسرائيلي من مجزرة حماة تميز منذ البداية بالغموض و بالرضا الضمني عن سلوك اﻷسد العدواني تجاه مواطنيه على العموم وتجاه كل حراك يمكن أن يكون مقاوماً بحق ، خاصة التيارات اﻹسلامية بما فيها تلك المعتدلة.
لماذا تغاضت ٳسرائيل عن مجازر اﻷسد في حماة ؟ ٳن لم تكن الدولة الصهيونية على علم بما كان يخطط له اﻷسد وبما كان يحدث على اﻷرض في حماة فهذه مشكلة، وٳن كانت تعلم فالمشكلة أكبر. من المستبعد أن تكون ٳسرائيل جاهلة بتحرك جيش اﻷسد ٳلى حماة ومع أن أجهزة أمن اﻷسد لم تقبض على أي عميل للموساد منذ "كوهين" فالأغلب أن ٳسرائيل كانت على علم تام بما يحدث سواء عبر"تفاهماتها" مع النظام أو عبر عملائها المدسوسين على كافة مستويات القرار السياسي والعسكري في سوريا. هؤلاء العملاء الذين لا تبحث عنهم مخابرات اﻷسد المشغولة بأمور أهم بكثير، مثل مراقبة المعارضين وٳصدار الموافقات اﻷمنية.
ٳسرائيل كانت تعلم بكل ما كان يدور في حماة ولا تنبس ببنت شفة فلماذا ؟
قد يقول قائل "وهل كنت تتوقع من دولة العدو الصهيوني أن تتدخل لحماية العزل من سكان حماة و ردع جيش اﻷسد "؟ ولم لا ؟ هذا بالضبط ما فعلته فيتنام حين قام جيشها بغزو عدوتها التاريخية "كمبوديا" و تحريرها من كافة فلول "الخمير الحمر" قبل أن تنسحب بشكل أنيق ومنظم تاركة للكمبوديين ٳدارة شؤونهم بأنفسهم. هذا العمل النبيل غير جذرياً طبيعة العلاقات بين كل الدول في جنوب شرق آسيا وأدخل المنطقة في حراك ٳيجابي وواعد.
كان بمقدور ٳسرائيل أن تهدد بالتدخل أو على اﻷقل تفضح ممارسات "عدوها" النظام اﻷسدي وذلك أضعف اﻹيمان. كان ذلك سيظهر ٳسرائيل بمظهر الدولة المتحضرة واﻹنسانية، التي تحترم الحياة البشرية حتى لدى أعدائها، فالعداء للآخر لا يعني "سحق" الآخر وحرمانه من حقه في الحياة وٳلا لكانت البشرية لا تزال في العصر الحجري. لا أحد يقبل بالقتل العشوائي ويكون متحضراً أو جديراً بالانتماء للٳنسانية بمعناها الواسع.
لنذكر أن السوفييت وحلفاءهم وجهوا كل آلتهم اﻹعلامية لفضح جرائم اﻷمريكيين في فيتنام وبشاعة السياسة الامبريالية اﻷمريكية. في الطرف المقابل، خصص اﻹعلام اﻷمريكي الساعات الطوال لٳظهار شناعة جرائم السوفييت في أفغانستان ثم في الشيشان وهكذا، فلماذا تعففت ٳسرائيل عن فضح وحشية وهمجية "عدوها" السوري ؟
أول مرة أتى ذكر حماة على لسان مسؤول ٳسرائيلي كانت في أيلول ١٩٨٢في تصريح أدلى به رئيس وزراء ٳسرائيل حينها، "مناحيم بيغن" والذي اشتكى، في غمرة اكتئابه، من وسائل اﻹعلام : "التي تنتقد ٳسرائيل بسبب أفعال غير مسؤولة قام بها لبنانيون، في حين تصمت أمام مذابح كبرى تقوم بها أنظمة عربية ضد شعوبها". "بيغن" كان ينتقد اﻹعلام العالمي وموقفه من مذبحة "صبرا وشاتيلا"..
لعلها محض مصادفة أن ٳسرائيل ستطلق حرباً مفتوحة على لبنان في 6 حزيران 1982 بعد ثلاثة أيام من محاولة اغتيال سفيرها في لندن و أربعة أشهر من المجزرة. اسرائيل ستحقق في ٩٠ يوماً ما "تقاعس" اﻷسد عن تطبيقه خلال ست سنوات وهو القضاء التام على الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان.
الجيش السوري لن يقاوم ٳسرائيل ٳلا فيما ندر ولن يجعل مهمتها معقدة. على العكس، ستكون قوات هذا الجيش عبئاً على المقاومة الفلسطينية في بيروت ! ست سنوات والجيش السوري في لبنان وينتهي به اﻷمر ٳلى الفرار الذليل أمام القوات اﻹسرائيلية الغازية. القوات السورية لم تشارك لا في مقاومة ولا هي صمدت في مواقعها. لولا صمود الفلسطينيين والمقاومة اللبنانية حينها لكان الغزو اﻹسرائيلي لبلاد اﻷرز نزهة، كما كان احتلال الجولان قبلها بخمسة عشر عاماً... خمسة عشر عاماً من سلطة اﻷسد ولا صمود ولا حتى ممانعة حين يتعلق اﻷمر "بالعدو" اﻹسرائيلي، أما حين يتعلق اﻷمر بمواطني حماة العزل ، فلهم السيف والجيوش الجرارة.
ٳسرائيل التي كانت تعد "لحماة" خاصة بها ما كانت لتزعج اﻷسد من أجل "مسائل جانبية" كمقتل ثلاثين ألفاً من اﻷبرياء في "مزرعة اﻷسد". ما كانت ٳسرائيل لتخاطر بفقد بضعة جنود ٳضافيين في حال أراد اﻷسد رفع كلفة الغزو اﻹسرائيلي لبلاد اﻷرز.
بعد المجزرة ، تغيرت طبيعة النظام وعلاقة الحاكم بالمحكوم في سوريا ، السوريون كلهم سيدفعون ثمناً غالياً لعدم وقوفهم صفاً واحداً وراء المدينة الشهيدة ، سواء عن جهل بما كان يحدث أو عن تخاذل. قبل المجزرة كان اﻷسد طاغية يقهر شعبه ، بعدها أصبحت طبيعة النظام " احتلالية " بامتياز و العلاقة بين النظام وشعبه أصبحت علاقة بين منتصر قاهر ومهزوم ذليل.
اﻷسد أصبح نسخة عصرية عن "هولاكو" و "تيمورلنك"...
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في العدد االخامس و العشرين من "حـريـــــــــــــات " ، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية ، والذي صدر الإثنين في السادس من شباط 2012.
http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue25.pdf

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات