أ.ناجم مولاي
جامعة عمار ثليجي بالأغواط
قسم العلوم الإنسانية
سـؤال النهضـة في فكـر مالك بن نبــي
(مساهمة في النقد للحضارة الإسلامية)
أن ما آل إليه المجتمع الإسلامي اليوم من جمود وتخلف وانحطاط في كافة مجالات الحياة، وارتبط ذلك مع وجود حضارة غربية راقية، وبوجود اعتبارات بأن مقومات التغيير أو النهضة أو التحضر من نصيب بعض الناس دون البعض الآخر، كما هو الحال عند " أرنست رينان"، الذي يرى مركزية النهضة والتقدم الحضاري في أوروبا وحدها قديما وحديثا ومعاصرا؛ بينما تتهافت أقلام بعض المصلحين والمجددين المسلمين لتبطل كل زعم من المزاعم الداعية إلى هذه العنصرية أو الفكر القاتل.
ومن بينهم: الباحث اللبناني "شكيب أرسلان"- الملقب بأمير البيان-، والفيلسوف والشاعر الهندي "محمد إقبال"- الملقب بفيلسوف الذاتية-، والمفكر والمصلح الاجتماعي الجزائري "مالك بن نبي"-الملقب بمهندس الحضارية الإسلامية- رحمهم الله جميعا- لإثبات أن الحضارة والنهضة لا وطن لها؛ والعلم ليس حكرا على أحد طالما توفرت شروطه ولوازمه.
واقتصرت البحث في مقدمته هنا على الراحل الجزائري "مالك بن نبي" لاعتبار خاص يندرج في تناول إشكالية الخطاب الفلسفي في الجزائر، للوقوف على رهاناته أم أنه خطاب فضفاض لا يمت بصلة لواقعه؟
ومنه تأتي أوراق هاته المداخلة بعنوان: سؤال النهضة في فكر مالك بن نبي(مساهمة في النقد للحضارة الإسلامية )لتجيب على جملة من التساؤلات أهمها:
أ- ما معنى لفظة النهضة ؟ وما هي الدلالات التي تحملها؟
ب- ما هي المنطلقات المرجعية لتأسيس النهضة الإسلامية في "فكرمالك بن نبي"؟
ت- أين تكمن معوقات النهضة الإسلامية في "فكر مالك بن نبي"؟
ث- وما هو الطريق السوي لحل مشكلات الحضارة الإسلامية، وبناء النهوض المأمول في عالم
اليوم عند"مالك بن نبي" ؟
أ- التأثيل المفاهيمي :
أَفتتحُ مُداخلةِ هنا بالحوار الذي دار بين مهندس ياباني و زميل له في العمل يزيد رؤية "مالك بن نبي" وضوحاً في مقدمة هذا المقال:
قال المهندس الياباني: «إننا في اليابان قد حقننا معجزة واحدة، بينما أنتم حققتم معجزتين؛ معجزتنا في اليابان تكمن في أننا لا نملك إلا السماء والماء ، ورغم ذلك نعيش بعقولنا؛ أما معجزتكم الأولى: فتكمن في كونكم تفتقرون إلى القوة ورغم ذلك تمكنتم من طرد الاستدمار القوي من بلادكم، والمعجزة الثانية: فتكمن في كونكم في فقر وبقيتم في فقر، ولاشك أن الفقر المقصود هنا هو الفقر الفكري؛ فالعالم الإسلامي كما أحسن المهندس الياباني وصفه، ومن قبله "مالك بن نبي" يعيش في فقر مميت ومثبط للهمم ولولاه لأصبحت أراضينا جنات»[1].
و إذا كنا قد حددنا عنوان هذه المداخلة بـ : سؤال النهضة في فكر مالك بن نبي ، فإن الاشتغال بهذا العنوان يتطلب منا أن نحدد في البداية مصطلحا ته الأساسية و التي التزمنا في تحديدها بمصطلح وحيد و أساسي لضرورة تداوله في مقدمة هذه المداخلة؛ و هو مصطلح "النهضة"، فما معنى النهضة إذن؟
1- مفهوم النهضة:
النهضة كلمة عربية من فعل نهض، إلا أنها أصبحت تطلق على معنى اصطلاحي يدل على واقع معين، ولم يسبق للعرب أن استعملوها بهذا المعنى، الذي أطلقت عليه في العصر الحديث:
أ-1- في اللغة العربية:
النهوض: البراح من الموضع، والقيام عنه، نهض ينهض نهضاً ونهوضاً و أنتهض أي قام ...وأنتهض القوم وتناهضوا: نهضوا للقتال، وأنهضه: حركه للنهوض، واستنهضته لأمر كذا، إذا أمرته بالنهوض له، وناهضته أي قاومته، وقلنا مكان ناهض: مرتفع؛ والنَهْضَةُ :بسكون الهاء العتبة من الأرض تبهر فيها الدابة ، أو الإنسان يصعد فيها من غمْضٍ، والجمع نِهاضٌ[2].
أ-2- في الاصطلاح:
- يرى الباحث الفلسطيني "حافظ صالح"- المتخصص في الدراسات الإسلامية- أن مصطلح النهضة مصطلح حديث يعبر عن واقع معين، هو انتقال أمة أو شعب أو فرد من حال إلى حال أفضل، حيث عرفها قائلا: «هي الرقي الفكري، والفكر الراقي هو الفكر المتصف بالشمول والعمق بحيث يشمل الوجود بكامله- الكون والحياة والإنسان هذا من حيث الشمول؛ أما من حيث العمق فلتقرير حقيقة هذا الوجود – أهو أزلي أم مخلوق لخالق- وبناء على ذلك فإن النهضة لا يمكن أن تتحقق إلا بمبدأ يقوم على عقيدة عقلية ينبثق عنها نظامها مبيناً الأساس الفكري في حياة الناس، والذي يحدد معنى وجود الإنسان في الحياة»[3].
مصداقاً لقوله تعالى:﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [4]، وقوله أيضاً :﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[5]، وقوله أيضاً:﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[6]؛هذه هي الإجابة على معنى وجودنا في الحياة، أي العقيدة هي أساس حياة الفردوأساس حياة المجتمع وأساس حياة الدولة، هذه العقيدة هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر[7].
- كما نورد هنا تعريف اصطلاحي لـ"مالك بن نبي" الذي ينطلق من تشخيص لواقع المسلمين قائلا: «العالم الإسلامي اليوم في ساعة الخطر لأنه يشعر بفقدان المبررات التي رفعت شأنه في القرون الأولى وحققت رسالته في التاريخ»[8]، وللأسف مازال نفس التشخيص صالحاً فالعالم الإسلامي اليوم أهون وأكثر ابتعاداً عن مقتضيات تدينه، ومقتضيات التحضر، وعليه يقدم فيلسوف الحضارة في العالم الإسلام "مالك بن نبي" تعريفيا وظيفيا للنهضة فيراها:«مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه فالمدرسة والعمل والمستشفى ونظام المواصلات والأمن في جميع أشكالا مختلفة واحترام شخصية الفرد تمثلها جميعها أشكالاً مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المتحضر على تقديمها الذي ينتمي إليه»[9].
حيث أرتبط مفهوم النهضة عند" مالك بن نبي" بالمفهوم الاصطلاحي الذي ظهر في العصر الحديث، كما هو معروف في الحضارة الغربية؛ فماهي المرجِعيات الفِكرية أو المعرفية التي صاغ من خلالها " مالك بني" معالجته لمشكلات النهوض في العالم الإسلامي خصوصا، والعالم الكوني عموماً؟
ب- المنطلقات المرجعية لتأسيس النهضة الإسلامية لفكر "مالك بن نبي":
- أولاً:ولد فقيه الحضارة الأستاذ " مالك بن نبي" في 1يناير1905م، بمدينة قسنطينة أنتقل مع أسرته لمدينة تبسة فحفظ فيها ما تيسر من القرآن الكريم، وأتم تعليمه الابتدائي والإعدادي،
- ثانياً: رجع إلى مدينة قسنطينة لمواصلة دراسته الثانوية التي أنهاها سنة 1925م، في هذه الفترة بدأ وعيه يتكون، فكانت قسنطينة مركزاً تقليديا للثقافة العربية الإسلامية منذ أشرقت الجزائر بنور الإسلام، مستفيداً من التراث الإسلامي للثقافة العربية الإسلامية، الذي حصن فكره من صليبية ولائكيه الفكر المميت الذي أستهدف محو الشخصية الجزائرية العربية الإسلامية،
- ثالثاً:إعجابه بحركة الإمام "عبد الحميد بن باديس"كحركة ابتغت تحرير عقول الجزائريين، وتغير ما بنفوسهم حيث أعتبرها كبداية لمعجزة البعث[10]، أو النهوض؛ والدليل الأكبر على هذا الإعجاب هو نشره لمجلة الشهاب بمدينة أفلو، حتى تزيد من تمسك هذا الشعب بفضائله على علمٍ وبينةٍ[11] .
- رابعاً:إقامة مالك بن نبي بعد آفلو بمدينة شلعوم العيد الغير بعيدة عن قسنطينة، وكان وجوده فرصة ليقارن بين الإنسان الجزائري فيها، والذي قد فقد فضائله أو أفقده الاستعمار فضائله، وبين الإنسان الجزائري في أفلو الذي أحتفظ بتلك الفضائل، حيث تأسف "مالك بن نبي" لأنه لا يستطيع أن يصدر قانون يحرم جبل عمور على المستعمر، كما يمنع دخول متحف وضعت فيه أشياء ثمينة[12].
- خامساً: سنة 1930م غادر ابن نبي الجزائر إلى باريس لمواصلة دارسة، وأهم نقطة أحدثت تحول في فكره، هو مشاركته في تأسيس "جمعية الوحدة المغربية"، وتمثيل الجزائر في "جمعية الوحدة العربية "، التي تأسس في باريس من وحي "شكيب أرسلان"*، كما أشرف في مرسيليا على" نادي المؤتمر الجزائري الإسلامي"، الذي وأدته السلطات الفرنسية قبل أن يستوي على سوقه، ويؤتي أكله[13].
- سادساً: في باريس عاش تجربة غنية بالتعرف على الحضارة الغربية في روحها وأفكارها لا في مزبلتها كما تفعل أغلبية المثقفين المسلمين، وقد فقه هذه الحضارة من عدة أبواب عدة نذكر منها:
أ- باب العلوم التي يقول عنها: «أسكنت في نفسي شيطان العلوم»[14].
ب- باب "وحدة الشبان المسيحيين الباريسيين" التي أتاحت له الصلة بين القيم الاجتماعية والتكنية التي كان يشهدها و يتذوقها في الشارع وفي المدرسة، وربما كشفت له تلك الملاحظات عن جوانب في روحه المسلمة [15].
ت- باب المنطق المسيحي بما يتخلله من تعقيد[16].
فالفهم الدقيقي لروحي الحضارتين الإسلامية والغربية، والاستيعاب العميق لأسسها الفكرية مكنا "مالك بن نبي" من الصمود في وجه الحضارة الغربية، فلم يجرفه تيارها الذي جرف كثيرا من مثقفي العالم الإسلامي، الذين تراهم يعانون مركب النقص نحو الثقافة الغربية[17].
يقول الباحث الهادي الحسني: «إن تلك التجربة العميقة والعنيفة في الوقت نفسه، بأبعادها الروحية والفكرية و الاجتماعية، جعلت "مالك بن نبي" يعلم علم اليقين إن الإسلام بعقيدته الموحدة وفكره المنفتح على العقل منذ بدايته، وهي اقرأ وروحه الاجتماعي من مساواة، وتضامن، وأخوة أقدر على مواجهة الحضارة الغربية والانتصار عليها...ولكن المشكلة هي في المسلمين » [18]، الذين لم يكونوا شأن "مالك بن نبي" الذي نجا من " الفكر الميت" فلم يتدروش، ونجا من " الفكر القاتل" فلم يتفرنس كم قال المفكر الجمعوي الهادي الحسني.[19]
- سابعاً:وجه "مالك بن نبي" بعد وصوله إلى القاهرة سنة 1956 رسالة إلى من قدر لهم أن يكونوا قادة على جهاد الشعب الجزائري، يضع من خلالها نفسه تحت تصرفهم لتكليفه بأية مهمة يرونه مفيدا فيها، ولكن أولئك القادة يبدوا أنهم لم يجدوا فيه ما ينفع، فلم يكلفوا أنفسهم حتى مجرد الرد على رسالته لاستشعاره بعدم الحاجة إليه؛ ورغم ذلك راح المرجفون يذيعون أن "مالك ابن نبي" رجل أنعزل في برجه العاجي عن الثورة الجزائرية، ولم يساهم فيها بشيء [20].
والحقيقة أن "مالك بن نبي" أراد أن يكون للجزائر، ولكن الله شاء أن أراد يكون للعالم الإسلامي بأسره، فعين مستشارا في"المؤتمر الإسلامي" سنة 1957م، وبدأ يَعقدُ في القاهرة ندوة فكرية كل جمعة، يحضرها الطلبة والأساتذة من مختلف الدول الإسلامية، وبدأت ترجمة كتبه إلى اللغة العربية، فوجد فيها المفكرون والأساتذة والطلبة مدرسة فكرية لا عهد لهم بمثلها في المحتوى والمنهج، وكفاه شرفاً أنه كان صاحب فكرة ملتقيات التعرف على الفكر الإسلامي التي دامت أربعة وعشرين ملتقى، وفي يوم:31أكتوبر1973م توفى المفكر "مالك بن نبي" الذي كان قد نذر حياته لترشيد الوعي الإسلامي وتحفيزه على النهوض برسالته مرة أخرى، لأنها رسالة سماوية خالدة، فإنها لا تنقضي بانتهاء الدورة الحضارية التي قد تزول ولكن الرسالة يجب أن تدوم ، لقوله تعالى:﴿إِنْيَمْسَسْكُمْقَرْحٌفَقَدْمَسَّالْقَوْمَقَرْحٌمِثْلُهُوَتِلْكَالْأَيَّامُنُدَاوِلُهَابَيْنَالنَّاسِوَلِيَعْلَمَاللَّهُالَّذِينَآَمَنُواوَيَتَّخِذَمِنْكُمْشُهَدَاءَوَاللَّهُلَايُحِبُّالظَّالِمِينَ﴾[21].
ت- مُعوقات النهضة الإسلامية في فكر "مالك بن نبي":
إن معرفة المُعوقات في أي شيء تتطلب منا معرفة كيف كان ذلك الشيء، وكيف صار إلى الحالة التي هو عليها الآن، والأمر عينُه ينطبق على واقع المجتمع الإسلامي اليوم، أي معرفة كيف كان ماضيه، وكيف صار إلى الحالة التي هو عليها في عصرنا اليوم، و"مالك بن نبي" كباحث في فلسفة التاريخ الجزائري خاصةً والعالم العربي الإسلامي عموماً، يُجيب على سؤال المُعوقات من خلال المراحل التي مر بها المجتمع العربي الإسلامي أو الحضارة الإسلامية منذ مرحلة الظهور وصولا إلى مرحلة الأفول وكجواب مباشر هكذا بدأنا وهكذا كنا وإلى الحالة الآتية صرنا، وهذا ما توضحه المراحل الثلاثة الآتية:
1- مرحلة الروح -هكذا بدأنا- :(من غار حراء إلى معركة صفين 38هـ):
تم فيها خروج الإنسان من الحالة الطبيعية، ودخوله في الحياة الاجتماعية، حيث يتم ضبط غرائزه الحيوانية، وإخضاعها القائم على أساس نظام أخلاقي سامي ودقيق، حيث يرى "مالك بن نبي" أن واقع المسلمين في المراحل الأولى من بعد الدعوة أنتابها نوعا من النهوض الحضاري الفكري والمادي القائم على الفكرة الدينية بالأساس، حيث أسماها "مالك بن نبي" بمرحلة الروح" إذ تغيرت النفس الإنسانية مغيرة معها المجتمع، يقول "مالك بن نبي":«في هذه الحالة يتحرر الفرد جزئياً من قانون الطبيعة المفطور في ذاته، ويخضع وجوده في هذه الحالة الجديدة طبقا لقانون الروح»[22].وسيطرة الروح، المقصود هنا سيطرة العقيدة، من خلال معرفة الإنسان كمسلم لمبررات وجوده والمتمثلة في :
- العبادة:بدليل قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[23].
- عمارة الأرض: مصداقاً لقوله تعالى:﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [24].
- الخلافة: مصداقاً لقوله تعالى أيضاً:﴿لقوله تعالى أيضاً: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾[25]
2- مرحلة العقل- هكذا صرنا-: (من معركة صفين إلى العصر الأموي والعصر العباسي الأول):
وضعت واقعة صفين عام 38هـ حد لبناء الروح وأفقدتها نفوذها في المجتمع وسيطرتها على الغرائز، واعترى الاهتزاز القيم الأخلاقية، وظهر التزعزع جلياً في شبكات العلاقات الاجتماعية.
3- مرحلة الغريزة- إلى الحال الآتية صرنا-: (من العصر العباسي المتأخر، والعصور التي تلت عصر ابن خلدون): وهي عصور أظلم فيها ليل التاريخ على حضارة الروح المتقدة فعالية وتوتر.
إذن فدورة الحضارة الإسلامية في نظر "مالك بن نبي" بدأت نهضتها بفكرة دينية روحية، وانتهت هذه النهضة حين فقدت الروح فعاليتها في السيطرة على الغرائز الحيوانية عند الإنسان في جميع مجالاته الحياتية؛ وبعد أفول نجم الحضارة الإسلامية بسبب استعاد الغرائز سيادتها على الإنسان، ساد وما يزال ما يسميه "مالك بن نبي" مجتمع ما بعد الموحدين، عهد القابلية للاستعمار – كسبب داخلي- والاستعمار – كسبب خارجي- [26]، هكذا صرنا وإلى الحالة أو الأزمة وصلنا أزمة "إنسان ما بعد الموحدين" أزمة القابلية للاستعمار والاستعمار، أزمة الفوضى[27].
ث- سبلالنهوض بالعالم الإسلامي في فكر مالك بن نبي:
باعتبار نظرة وفلسفة مالك بن نبي تفاؤلية ترى أن السبيل إلى نهوض المسلمين هو القيمة الخلقية الدينية الروحية، التي هي شرط إنساني لكل إقلاع حضاري، فيبقى البِناء أو إعادة البِناء دائما في وسعه، ذا ما تُمثله الآية الكريمة:﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾[28].
فالتغيير كمبدأ قرآني ضروري للنهوض حيث يكون على مستويان: نفسي داخلي يتمثل في القضاء على "القابلية للاستعمار"، يتجلى من خلال قول "مالك بن نبي":« لتغيير ما بأنفسنا، ولنتخلص من نفسية المستحيل، ونفسية التساهل، فليس هنا شيء سهل وليس هناك شيء مستحيل» [29]،وخارجي يتمثل في القضاء على الاستعمار نفسه؛ فالتغيير يبدأ من الداخل ثم يشق طريقه خارج الفرد في المجتمع والأمة والإنسانية جمعاء كما أن إنشاء أو صنع أي الحضارة لا يكون بالتكديس بل بالبناء «لأن عملية إنشاء الحضارة لا تتم بشراء كل منتجاتها وتكديسها، لأن ذلك مستحيل من حيث الكم والكيف معاً، فالحضارة لا تبيع كل منتجاتها مرة واحدة، فهي لها روح وأفكار وأذواق خاصة بها تبقى لها(....) ويصبح المقياس العام في عملية التحضر هو الحضارة التي تلد منتجاتها، وسيكون من السخف والسخرية حتماً أن نعكس هذه القاعدة حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها»[30]، وعليه فمعُوقات النهضة باختلافاتها دينيا، اقتصاديا، سياسيا، اجتماعيا، وثقافيا، في فكر "مالك بن نبي" يمكن أن توحد في الإنسان كمصدر لمشكلة النهوض في العالم الإسلامي، فالإنسان بحد ذاته كمشكلة إلى حل وبناء وتوجيه، لذا أقترح "مالك بن نبي"ضرورة توجيه الإنسان في ثقافته وعمله ورأسماله:
- أولاً: التوجيه الثقافي:
يعني به "مالك بن نبي" توجيه مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم التي يتلقها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، وتصفيتها من كل ما يشوبها من عوامل الانحطاط[31].
- ثانياً: التوجيه الاقتصادي:
أ- توجيه العمل:
يعني به "مالك بن نبي"« سير الجهود الجماعية في اتجاه، لكي يضع كل واحد منهم فكل يوم لبنة جديدة في البناء»[32] ، وبهذا يتوفر العيش الكريم لكل فرد من أفراد المجتمع.
ب- توجيه رأس المال:
يعني به "مالك بن نبي"«تحريك أموال الأمة مهما كانت بسيطة، قصد إيجاد حركة ونشاط توظف فيه الأيدي والعقول لبناء حياة اقتصادية، تضمن انسجام مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد، أي تحقق العادل بين الطبقات في المجتمع»[33]؛ حيث تعمق "مالك بن نبي" في مسألة التوجيه الاقتصادي، مؤكدا أن الاستثمار المالي ليس هو الحل الأمثل للنهوض بالعالم الإسلامي و المتمثل في جلب قروض لا تفيد هذا العالم في شيء بل على العكس من ذلك ق تضره وتقيد نموه وتطوره، ولكن الحل يتمثل فيالاستثمار الاجتماعي، ويعني به "مالك بن نبي"أن نستثمر ما نستطيع بالوسائل الموجودة في أيدينا، ووسائلنا بلداننا التي تمكننا من الإقلاع أو النهوض الحضاري من البداية هي:(الفلاحة، المواد الأولية، الخام، وعضلات المواطن وعزيمته)؛ وبهذا يتحقق ما قال به "مالك بن نبي" «يجب أن تأكل الأفواه كلها، ويجب أن تعمل سائر السواعد ، وبدونها نظل في انتظار صدمة العدو»[34].
نفهم مما سبق أن النهوض بحضارتنا من جديد يتطلب منا كفاعلينا في المجتمع:
أ/ أن نرجع الأجيال في تربيتها إلى أصلها الأول المتمثل في الفكرة الدينية لتسري في أقوالها، وأفعالها، وأعمالها، التي تبعث الحياة من جديد في عناصر الحضارة من (إنسان، تراب، وقت)- سماها "مالك بن نبي" "العدة الدائمة" فأي منتوج حضاري هو حصيلة تألف بين العناصر الأولية الثلاثة -، فلا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولُها، أي أن نَعوُد إلى الإسلام في كل مجالات الحياة.
ب/ أن نستفيد من المراحل التي مرت بها الحضارة الإسلامية، والتمسك بمرحلة الروح، لأن فيها استمرار اللحظة الحضارية الأصلية [35].
وبتوجيه الإنسان ثقافياً وعملياً ومالياً يسهل علينا حل مشكل التراب ومشكلة الوقت، لأن الإنسان مطالب بإيحاد حل لهما، لكن إين تكمن هاته ته الحلول الممكنة للتراب والوقت؟
أولا: حل مشكلة التراب:لفت نظر مالك بن نبي في أفلو ظاهرة أخذت حيزا من تفكيره وهي زحف الرمال على الأراضي الزراعية، فدق ناقوس الخطر وحذر من أخطارها على الأمن الغذائي في الجزائر والتي تعاني منها أعظم أقطار الجزائر[36]؛ فالإنسان عندما يعتني بالأرض وبتنميتها يحقق الرفاهية للفرد والمجتمع، « فاعتناء بالتراب، يعني بالأرض، يعني الانتصار على أنفسنا الخاملة الكسولة»[37]، كما قال "مالك بن نبي".
- ثانياً: أما حل مشكلة الوقت: فيكون في نظر "مالك بن نبي" بمعرفة قيمة الوقت وضرورة الحرص عليه وتجنب إهداره، لأن في إهداره تضيع ثروته.[38] أما إذا أستغل الوقت فلم يضيع سدى ولم يمر كسولا في حقلنا فيسترفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي.[39] أما جواب هذا السؤال في فكر "مالك بني" يقتضي منا معرفة كيف كنا أولاً ثم كيف صرنا ثانياً، فكيف كنا في نظر "مالك بن نبي" هو عصر النهضة، وكيف صرنا هو عصر الانحطاط، والفارق بينهما يتمثل في الفكرة الدينية أو الإيمان الذي مهد الطريق إلى الحضارة، إذن بتوجيه الإنسان وبتقليب التراب واستغلال الوقت سيرى العالم الإسلامي النهوض، وقد تزدهر حضارته من جديد، "فمالك بن نبي" لا يسعى إلى بناء نهضة على النمط الأوربي روحياً وفكرياً أو صناعياً لأنها أنتجت في الأخيرة حضارة مادية لا مجال فيها لما هو روحي أو قيمي، بل سنشد نهضة إسلامية أصيلة قائمة على التعادل بين الروح والمادة بين الضمير والعلم، ولهذا قدم لنا "مالك بن نبي" مشروعين للعالم الإسلامي كفيلين بإحداث النهضة أو التقدم وإخراجه من أزمته أولهما اقتصادي وثانيهما روحي أخلاقي.
- أما المشروع الاقتصادي: ينصح "مالك بن نبي" البلدان النامية بضرورة توحيد أسعار المواد الأولية في الأسواق العالمية حتى لا تخضع لسياسة المساومات أو تبخس قيمتها الشرائية في الأسواق.[40]
- أما المشروع الأخلاقي:لا يكفي إنجاز المشروع الاقتصادي، وتحقيقه عملياً لتحقيق نهضة أو بناءحضارة إنسانية إسلامية، إلا إذا كان هناك امتثالا من المسلم للأمرية الإلهية في جميع جوانب الحياة بما يحقق له مكاناً كريماً وتزدهر حياته من جديد.[41]
ج - منطلقات التغيير للإقلاع الحضاري في العالم الإسلامي ( مقاربة فلسفية بين "مالك بن نبي" و "شكيب أرسلان"):
أ- عند مالك بن نبي:
إن عملية النهضة أو بناء المجتمع الإسلامي تسبقها عملية التغير عند "مالك بن نبي" مصدقا لقوله تعالى:﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾[42] ، بمعنى «غير نفسك تغير حياتك»[43]، والتغيير يمتد في أبعاده الفلسفية إلى بعدين هما:
- أولا: البعد النفسي: تبدأ عملية التغير الفعلية بتخليص الإنسان من عقد النقص، بمظاهر الغربين، وكذا تخليصه من بقايا التواكل والخرافة، بإعادة اللحمة بينه وبين قناعته والانبهار وعقيدته وسلوكه وعمله.[44]
- ثانياً: فليس المهم في بناء الإنسان لباسه أي تغييره، بأن يبدل نمط أو زي لباسه ونوعية أثاث منزله ومكتبه... ولكن المهم أن نحدد إطاره الحضاري في الثقافة، والأخلاق، والاقتصاد، وكافة المجالات وبكلمة واحدة نقتلع ونصفي القابلية للاستعمار في عالمه حتى تنطلق طاقته لتصفيته من عالمه الخارجي.[45]
فعملية التغيير هذه إن هي إلا تمهيد لعملية النهضة، والنهضة تمثل القيام بخطوات إصلاحية من أجل تحقيق عملية الإقلاع الحضاري، والقاعدة الصلبة التي يصفها "مالك بن نبي" لعملية النهضة أو الإقلاع إنما هي الإسلام، الذي يشكل الإطار الحضاري للعالم العربي والإسلامي، وتنحو هذه النهضة في اتجاهيين:
1- اتجاه يقوم على الوعي بالماضي، وفهم منتجاته، في محاولة لتنقيتها والالتزام بالإيجابي منها، ووعي حضوره السلبي فيها للانفصال عنه، بهدف إلغاء أثره في الواقع الثقافي والفكري عامة.
2- أتجاه مستقبلي يلتزم بأحكام القرآن والسنة، وسلوك السلف الصالح، محددا لآليات التطور الاجتماعي في كل المجالات من أجل بناء حضارة الإنسان التي ستنقذ الإنسانية.[46]
3- كما يعتبر التجديد الحضاري عاملا هاماً في نهضة أو أفول أي حضارة، فإن التاريخ يؤكد أن للحضارة عمر ميلاد ونهضة وأوج وأفول، وكل طور من هذه الأطوار يقوم بفعل ظاهرة التجديد، وكذلك بالنسبة للانتقال من طور إلى آخر، وعليه يعتبر التجديد الحضاري سبباً في أفول أي الحضارة، لأن المجتمع يصل إلى مرحلة فيها من التجديد ما يكبح الروح والعقل ، ويطلق العنان للشهوات والملذات، فيغرق المجتمع في الترف والبذخ وينتظر ليل الحضارة.[47]
ب-عند شكيب أرسلان:
باعتباره المرجِعية الأولية لفكر "مالك بني"، فقد يتضح لنا لأول وهلة التطابق الكبير في معالجته لمسألة النهضة في العالم الإسلامي، بنفس المنهج المُتبَع عند "مالك بن نبي" الذي كان معجبا بأفكاره في البداية، حيث انطلاق المفكر "شكيب أرسلان" في تشخيصه لواقع العالم الإسلامي من الوقوف على أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي، وكذا معرفة أسباب تأخرهم في الحاضر، ليشق لهم طريق العودة للنهضة بمثل ما نهض به أولهم، وهذا ما يُركز البحث على ذكره هنا:
1- ارتقاء المسلمين في الماضي: «إن أسباب ارتقاء المسلمين كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية، التي كانت، قد ظهرت في الجزيرة العربية، فدان بها قبائل العرب(...) فتبدلوا بأرواحهم الأولى، أروحاً جديدة صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة، ومجد، وعرفان، وثروة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم، منذ أواخر خلافة عثمان، وفي خلافة علي رضي الله عنهما، لكانوا أكملوا فنح العالم، ولم يقف في وجههم واقف»[48].
2- أهم أسباب تأخر المسلمون في البداية: من أعظم أسباب تأخر المسلمين في أول عهدهم بعد أفول شمس حضارتهم العربية الإسلامية ما يلي:
-الجهل: لدرجة عدم التميز بين الخمر و الخل، فيتقبل السفسطة مُسلَمة، ولا يعرف أن يرد عليها.
- العلم الناقص: ابتلاؤكم بجاهل، خير من ابتلاؤكم بشبه عالم، لأن هذا أشد خطرا على المجتمع.
- فساد الأخلاق: بفقد الفضائل التي حث عليها القرآن، خصوص أخلاق الأُمراء والعُلماء، وخطورة هذا الأمر تتضح من قول أمير الشعراء "أحمد شوقي":
انما الأمم الأخلاق ما بقيت فإنهم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
- الجبن والهلع: بعد أن كانوا أشهر الأمم في الشجاعة و احتقار الموت.
- الجمود على القديم: إما جمود أو جحودا.
- حث القرآن الكريم على العلم: باعث للمسلمين على سبق الأمم في الرقي[49]، مصداقاً لقوله تعالى:﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾[50]. وقوله أيضاً:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [51]،وهنا نذكر رد جميلللمفكر "شكيب أرسلان" على طلاب النهضة القومية دون النهضة الدينية،إذ « يقول بعض الناس ما لنا وللرجوع إلى القرآن الكريم، في انبعاث همم المسلمين إلى التعليم، فإن النهضة لا ينبغي أن تكون دينية، بل وطنية قومية، كما هي نهضة أهل أوروبا، ونجيبهم أن المقصود هو النهضة سواء كانت وطنية أم دينية على شرط أن تتوطن بها النفوس على الخَبِّ في حلبة العلم، ولكننا نخشى إن جردناها من دعوة القرآن، أن تفضي بنا إلى الإلحاد والإباحة، وعبادة الأبدان، وإتباع الشهوات مما ضرره يفوت نفعه، فلابد من تربية علمية سائرة جنباً إلى جنب مع تربية دينية»[52] ، والمؤكد على ما ينشده "شكيب أرسلان" من هذا ، الغرب بريء من دعوى هذا الرأي الباطل الذي أريد به حق، والدليل ما قاله رئيس نظار ألمانيا :« إن ثقافتنا مبنية على الدين المسيحي، وهذا إعلان ألمانيا التي هي المثل الأعلى في العلم والصناعة و(....) ولا نكاد نجد جامعة في العالم الأوروبي، دون أن يكون فيها علم اللاهوت المسيحي»[53].
من هذا التشخيص الأولي نستنتج إن حالة العالم الإسلامي اليوم، هي نتيجة جمود الإسلام، وتحجر القرآن، حيث يصدق على هذا الواقع قوله جلا وعلا:﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾[54].
- ومن أهم أسباب انحطاط المسلمون في العصر الأخير: فقدهم كل الثقة بنفوسهم، وهو من أشد الأمراض الاجتماعية، وأخبث الآفات الروحية، حيث أصبح المسلمون في العصر الأخير يعتقدون أنه ما من صراع بين المسلم والأوروبي إلا وينتهي بمصرع المسلم، وهذا ما قد استقر في نفوس ورؤوس لا سيما الطبقة التي تزعم إنها الطبقة المفكرة العاقلة،[55] وهؤلاء يصدق عليهم قوله تعالى:﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾[56].
3- أن المسلمين ينهضون بمثل ما نهض غيرهم:«إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويتعرجوا في مصاعد المجد، ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم، هو الجهاد بالمال، والنفس الذي أمر به الله في قرآنه مراراً عديدة، وهو ما يسمونه اليوم الجهاد بالمال والنفس، هو العلم الأعلى الذي يهدف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم، وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف، ودنت منها جميع القطوف والمجاني»[57].
أن السير في طريق النهضة لا يمكن أن يوجد إلا بعد معرفة الإنسان معنى وجوده في الحياة، حتى يستطيع أن يكون مفاهيم صحيحة عنها، أي حتى يعرف كيف ينظم علاقته ويحدد سلوكه، ويشبع جوعاته التي لابد وأن تكون مع غيره من الناس، أو من الكائنات الحية الأخرى، أو من الأشياء المادية التي يحتاجها؛فمن العقيدة تنبثق كافة المعالجات لمشاكل الإنسان، وتبين له علاقاته الثلاثة(علاقته مع خالقه- بالعبادات-، علاقاته مع نفسه- بالعبادات-، وعلاقته مع غيره في المعاملات)، فلم تترك لنا شريعتنا أمر إلا بينته، ولا عمل إلا بينت حكمه، فهي منهج حياة كامل، يحاسب الإنسان على ما اكتسب في هذه الحياة، بموجب هذا المنهج قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾(سورة: الزلزلة، الآية:8،9)، وقوله أيضاً:﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾﴾(سورة: البقرة، الآية:284).
ويُلاحظ بمزيد من الأسف أن المسؤولين في العالم الإسلامي لم يلقوا بأسماعهم، ويفتحوا أعينهم وعقولهم لأفكار "مالك بن نبي"، ويستعينوا بها في فهم مشكلات شعوبهم، ويستفيدوا منها في حل تلك المشكلات، ويَصدُق عليهم قوله تعالى:﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(سورة الحج، الآية 46)،فإلى أي مدى يصدُّق فينا مثلنا العربي" زامر الحي لا يطرب"، و"ابن الوز غير عوام"، وأن شئتم "فالنار لا تورث إلا الرماد"؟كما أن ابن «الوز» غير عوام بالضرورة، والعوم هنا لا علاقة له بالتكوين المادي، ولا بظلال عادات وتقاليد وثقافة تتوارث، بل هو ذا صلة بالذات تألقاً وانطفاءً، صعودا وهبوطا، نجاحا وذبولا ... فكذلك إن «زامر الحي لا يطرب»، حيث تتحرك قضية الاعتراف بالمواهب من خارج أسوار الوطن أكثر من انبثاقها من بين جدرانه وثقوبه.
[1]- يوسف حسين، واقع المسلمين وسبل النهوض بهم في فكر مالك بن نبي،مجلة الموافقات، العدد الثالث، جوان 1994، المعهد العالي لأصول الدين، الجزائر، ص359
- [2]أبن منظور، لسان العرب، جز: 1، تح:عبد علي الكبير، هشام محمد الشاذلي، دار المعارف، دط، القاهرة، 1119، ص 4560.
[3]- حافظ صالح،النهضة، كتاب إلكتروني، عن موقع الإلكتروني:www.hafezzsaleh.com/book2.html يوم السبت: 01/11/2014،على الساعة : 20:55.
[9]- مالك بن نبي، آفاق جزائرية - للحضارة-الثقافة- للمفهومية ، تر: الطيب الشريف، مكتبة النهضة الجزائرية،دط، الجزائر، دس، ص (46، 47،51).
- مالك بن نبي، شروط النهضة، تر: كامل مسقاوي ، وعبد الصبور شاهين، دار الفكر، ط4 ، الجزائر،1987، ص23. [10]
[11]- الهادي الحسني، مالك بن نبي لمحات من حياته و قبسات من فكره، مجلة الموافقات، العدد الثالث، جوان 1994، المعهد العالي لأصول الدين، الجزائر، ص359.
*أعتبره أستاذ مالك بن نبي، والأكثر تأثراً بأفكاره، وهو صاحب كتاب: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم!، دار المعرفة، ط1، تح وتعو ضب: محمد بوزواوي، الجزائر، 2011.
[15]- المرجع نفسهّ، ص 222.
[26]- حسين يوسف، واقع المسلمين وسبل النهوض بهم في فكر مالك بن نبي، مجلة الموافقات، العدد الثالث، جوان 1994، المعهد العالي لأصول الدين، الجزائر، ص (353،359).
[27]- المرجع نفسه، ص 354، أنظر أيضا: مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1982، ص33.
- جيلالي بوبكر،الإصلاح والتجديد لدى محمد إقبال ومالك بن نبي، دار المعرفة، دط، الجزائر ،2010، ص 62.[30]
[41]- يوسف حسين، واقع المسلمين وسبل النهوض بهم في فكر مالك بن نبي، مجلة الموافقات، ص(358، 359)، راجع أيضاً: طه عبد الرحمن، بؤس الدهرانية، الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين،الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، بيروت.2014.
[44]- مالك بن نبي، شروط النهضة، دار الفكر، ط4، دمشق، 1979، ص104. أنظر أيضاً: عبد الرزاق قسوم، إشكالية الحضارة في فكر مالك بن نبي، مجلة الموافقات، ص، 290 وما بعدها.
- شكيب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون وتقدم عيرهم!، تح وتع وضب، محمد بوزواوي، دار المعرفة، الجزائر، ص 28. [48]
- شكيب أرسلان، لماذا تأخر المسلمون وتقدم عيرهم!، ص 115. [57]
هذه المداخلة قدمت أوراقها ضمن فعاليات اليوم الدراسي حول: المشاريع الفلسفية في الجزائر بين الواقع والآفاق– المنظم من طرف فرع الفلسفة بقسم علم الاجتماع، بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية – بجامعة الأغواط – الجزائر – أيام :08-09 ديسمبر4201.
بقلم:
أ.ناجم مولاي
جامعة عمار ثليجي بالأغواط
قسم علم الاجتماع
التعليقات (0)