في الحادي عشر من كانون اﻷول الجاري، أطلقت قوات اﻷسد مجموعة من صواريخ "سكود" على منطقة قرب حلب، تبين فيما بعد أنها منطقة "السفيرة" وهي أحد أهم مراكز تخزين وتجهيز الأسلحة الكيماوية التي بحوزة اﻷسد، قبل ذلك بساعات أصدرت اﻹدارة اﻷمريكية قراراً باعتبار "جبهة النصرة" منظمة ٳرهابية. في الثالث عشر من ذات الشهر، قامت أمريكا بهدوء بسحب حاملة الطائرات "ايزينهاور" والقطع التي ترافقها وعلى متنها عشرة آلاف من جنود المارينز، دون اﻹعلان عن ذلك. بعدها بأيام أعلن الروس عن توجه قطع جديدة من أسطولهم ٳلى الشواطئ السورية بحجة توفير ٳمكانية ترحيل رعاياهم من هناك و"لتبديل" القطع الموجودة في طرطوس وتعزيز الوجود الروسي هناك. أخيراً وفي الثاني والعشرين من كانون اﻷول، أعلن "لافروف" أن الخطر قد زال فيما يخص ٳمكان وقوع أسلحة اﻷسد الكيماوية "في أيد غير أمينة".
بالنسبة لموقع "ديبكا فايل" الٳسرائيلي واسع اﻹطلاع والذي أورد هذه اﻷنباء، فتصريحات "لافروف" تعني أن أسلحة اﻷسد الكيماوية صارت تحت حماية روسية مباشرة، أي أن قوات روسية خاضعة ﻷمرة "الكرملين" تتواجد على اﻷراضي السورية وتقوم بحماية مستودعات السلاح الكيماوي (في السفيرة على اﻷقل) والتي عجز اﻷسد عن الدفاع عنها. تصريحات السيد "بوتين" فيما بعد حول عائلة اﻷسد وضرورة التغيير في سوريا وحول عدم تمسكه باﻷسد كشخص، تبدو في هذا المنظار أشبه بذر الرماد في العيون بعدما انتقل الروس من دعم نظام الشبيحة سياسيا وعسكريا ٳلى القتال في صفوف "جند اﻷسد".
كلمة السر في كل هذا هي السلاح الكيماوي الذي يخيف كل جيران سوريا خاصة ٳسرائيل وتركيا ثم روسيا. لكل واحد من هؤلاء أسبابه، فٳسرائيل المطمئنة لوجود هذه اﻷسلحة في يد رجلها في دمشق، لا تريد أن تقع اﻷسلحة الكيماوية في يد مقاومين قد لا يكتفون "بالممانعة" اللفظية، تركيا لديها كابوس أن يتمكن حزب العمال الكردستاني من تهديد مدنها بالغاز السام الذي قد يشتريه من "جبهة النصرة" واﻷردن يخشى من ازدياد نفوذ وسطوة الجماعات الجهادية، مثله مثل العراق وحتى ٳيران. الروس لديهم أسباب للهلع من احتمال تمكن الجهاديين الشيشان من الحصول على أسلحة كيماوية، فحساب الدم بينهم وبين هؤلاء لازال مفتوحا على مصراعيه. اﻷمريكيون لديهم أسباب للقلق ولكنهم لا يتعرضون حالياً لتهديد مباشر خاصة بعدما انسحبوا من العراق ومصلحتهم هي في حماية حلفائهم خاصة الدولة العبرية.
كٳجراء احترازي، قام الجميع "باختراق" القوات المتواجدة في موقع السفيرة، كل على طريقته. اﻷمريكيون واﻷتراك أرسلوا خبراء ومقاتلين عرب وأردنيين لتعزيز صفوف "الجيش الحر". هؤلاء الخبراء سبق لهم وأن تدربوا في عملية "اﻷسد المتأهب" في شمال اﻷردن على التعامل مع السلاح الكيماوي. اﻹيرانيون والروس من جهتهم "قاموا بالواجب" المعتاد في دعم اﻷسد بالعتاد وبالخبراء وبتقديم الغطاء السياسي. ٳسرائيل التي لم تقصر يوماً في واجبها المقدس في الدفاع عن حليفها اﻷسدي المفضل، تولت دور التنسيق بين الروس واﻷمريكيين ٳضافة ٳلى الدور الفاعل لاستخباراتها على اﻷرض السورية.
المشكلة التي واجهها الجميع هي أن رأس الحربة في الهجوم على موقع "السفيرة" يتألف من جهاديين تابعين "لجبهة النصرة" وآخرين على شاكلتهم، والكل يتبع لجهات غير مضمونة الولاء، من بينها "القاعدة". هؤلاء الجهاديون لم يقبلوا بالسلاح "غير النوعي" أو الدعم غير الفعال القادم من اﻷصدقاء العرب واﻷتراك ولم يقبلوا بأي شكل من التعاون مع اﻷتراك واﻷردنيين أو غيرهم. وقوع السلاح الكيماوي السوري في أيدي هؤلاء الجهاديين هو كابوس بالنسبة للجميع، من أصدقاء اﻷسد وحتى أعدائه.
هذا الوضع الطارئ اقتضى رداً استثنائياً مؤداه "التحالف المؤقت" بين اﻷسد وداعميه من جهة ومن يسمون أنفسهم "أصدقاء الشعب السوري" من جهة أخرى لمواجهة خطر داهم يتهدد الجميع. بالفعل، قام كل طرف بالدور المطلوب منه بدءاً بالرئيس اﻷسمر الذي تذكر فجأة أن جبهة النصرة تقاتل النظام في سوريا منذ عام وأنها تتبع للقاعدة ! تصنيف هذه الجبهة على أنها منظمة ٳرهابية، يسمح اعتماداً على "الباتريوت اكت" ( من بنات أفكار الرئيس بوش الصغير ما غيره) باستعمال الجيش اﻷمريكي ضد هذه الجبهة وبالاشتباك معها أينما كانت في العالم، دون الحاجة ﻹعلان حرب أو الرجوع للكونغرس. و"بالصدفة" تواجد أسطول أمريكي كبير مع عشرة آلاف مارينز مستعدون للنزول في أي لحظة ٳلى البر السوري، ليس لتخليص السوريين من جلادهم "لا سمح الله" ولكن لمنع "القاعدة" من حيازة أسلحة تدمير شامل و"بطريقهم" ٳعطاء حقنة مقويات للأسد الصغير الخائف في دمشق وربما رفع معنوياته.
هذه كانت الخطة "باء" لكن الخطة "ألف" نجحت في تخليص العم سام من كابوس الغاز السوري بالتعاون مع الروس الذين تم "تلزيمهم" بالنظام الأسدي من قبل اﻷمريكيين وبطريقة أقرب ٳلى أن تكون هدية مسمومة. بالفعل، فقد دخلت قوات روسية خاصة بحسب أكثر من موقع استخباراتي ٳلى مستودعات "السفيرة" وأمنت السيطرة على السلاح الكيماوي الموجود فيها.
المشكلة التي واجهت الروس في "سعيهم الحميد" هذا كانت في كيفية التصدي بنجاعة لرأس الحربة المهاجم والمؤلف من مجاهدي "جبهة النصرة". لم يكن في مقدور الروس ٳدخال قوات كبيرة وعبور الريف الحلبي الواقع في أكثر مناطقه في أيدي الثوار، دون لفت اﻷنظار وفضح تدخل الروس السافر ٳلى جانب اﻷسد. الروس لا يخشون "العتب" ولا وازع أخلاقي لديهم يمنعهم من مد يد العون لطاغية مدجج بالسلاح ضد شعبه اﻷعزل، لكن انكشاف الدور الروسي المباشر في سوريا سيفضح انتهازية الرئيس "اوباما" ويكشف تقاعسه عن نجدة السوريين وتخاذله في وجه الروس أمام شعبه وأمام الكونغرس الجمهوري.
كيف تمكنت القوات الروسية الخاصة من مواجهة مهاجميها من الجهاديين، المتفوقين عددياً، والذين وضعوا نصب أعينهم الجائزة الكبرى وهي السلاح الكيماوي الذي يحتاجونه من أجل مشاريعهم الجهادية داخل وخارج سوريا ؟ هل قبل المجاهدون بالانصياع للٳنذار الروسي لهم بالتوقف عن مهاجمة الموقع أم أنهم استمروا بالهجوم واضعين الشهادة نصب أعينهم ؟ مالعمل مع مقاتلين لا يهابون الموت في سبيل الوصول ٳلى أهدافهم ؟
يبدو اللجوء ٳلى السلاح الكيماوي وكأنه الحل اﻷمثل لهذه المعضلة.
هل توافق الجميع على الطلب من "بشار اﻷسد" أن يقوم بالدور اﻷكثر قذارة في المهمة، استعمال السلاح الكيماوي، بدعم تقني روسي وبغطاء ٳسرائيلي وتفهم أمريكي، في ظل صمت تركي وعربي ودولي يرقى ٳلى درجة التواطؤ ؟ هل لدى اﻷسد القدرة التقنية والكفاءات اللازمة لتغطية كافة مناطق تواجد مجاهدي جبهة النصرة، حول موقع "السفيرة"، بالغازات السامة لكي لا ينجو منهم أحد ويفضح طبيعة المجزرة التي تعرضوا لها ؟
هل شاركت أسلحة الجو الروسية (وربما اﻷمريكية) في المعركة أوفي نشر الغازات السامة والـتأكد أن أياً من مقاتلي "جبهة النصرة" لم ينج من المذبحة ؟ في هذه الحالة يكون استعمال اﻷسد لصواريخ "سكود" لمجرد التغطية على الجريمة ولكي لا يتم ٳحراج الرئيس اﻷسمر واستطراداً السيد "اردوغان" في حال انفضح اﻷمر.
هل هناك من تفسير آخر ﻹطلاق مجموعة من صواريخ "سكود" القادرة على حمل رؤوس غير تقليدية وذات الدقة في اﻹصابة التي تقاس بمئات اﻷمتار ؟ صواريخ "سكود" هذه هي سلاح ٳرهابي بامتياز ٳن تم استعمالها في حرب المدن ودورها الاستراتيجي ينحصر في حمل رؤوس غير تقليدية نووية، وفي حالة اﻷسد كيماوية، ٳلى ساحة المعركة ﻹبادة جنود العدو بالجملة أينما كانوا ودون أن تكون لديهم أدنى فرصة للنجاة.
على كل حال، النتيجة كانت "مرضية" تماماً للجميع وحين اطمأن اﻷمريكيون ٳلى انتهاء المهمة القذرة وأن الروس قد تمكنوا من وضع يدهم على مخازن السلاح الكيماوي في "السفيرة"، قاموا بسحب أسطولهم بهدوء، تاركين السوريين الذين أملوا في أن يمد العم سام يده لمساعدتهم غارقين في دمائهم.
الثورة السورية ليست فقط يتيمة، بل هي ضحية أعداء اﻹنسانية والحرية واللامبالين بالحياة البشرية، في الشرق والغرب، السوريون اليوم هم من يتم صلبهم تحت أنظار "بيلاطس" اﻷسمر القابع في البيت اﻷبيض.
أحمد الشامي فرنساahmadshami29@yahoo.com
http://www.elaphblog.com/shamblog
التعليقات (0)