في هذه اﻷيام تضج فرنسا بأصداء جريمة نكراء تليق بجند اﻷسد وشبيحته. بحسب أخبار التلفزيون السوري والذي لا يفوت أي فرصة للتأكيد أن العالم كله ضحية أعمال عنف "فقد قتل أربعة ٳسرائيليين في تولوز بفرنسا". جاء هذا الخبر فوراً بعد نشر خبر التفجيرات في دمشق وحلب. من يسمع الخبر يظن أن في فرنسا حرباً أهلية تحت الرماد وأن الشعب الفرنسي يتربص باليهود ، أو بالعرب ، حسب المناسبة وأن الجميع في مواجهة اﻹرهاب سواسية...
للتوضيح ، ففي مدينة تولوز من قتلوا هم ثلاثة أطفال فرنسيين مزدوجي الجنسية أعمارهم بين 3 و 10 أعوام ومدرسهم. القاتل لحق بطفلة صغيرة فرت منه ٳلى داخل المدرسة وقتلها بطلق مباشر في الرأس. هل تذكركم هذه الجريمة بشيء ؟
ما الفرق بين الشبيحة قتلة اﻷطفال في كرم الزيتون وهذا السفاح ؟ الروح واحدة والدافع واحد هو كره الحياة اﻹنسانية واحتقارها وتدنيس أقدس ما يمثلها وهو براءة اﻷطفال.
صباح اﻷربعاء 21 من آذار ، قام اﻷمن الفرنسي بتحديد مكان وجود القاتل و محاصرته. تبين أنه من أصل جزائري وينتمي ٳلى القاعدة وأنه قام بجرائمه "انتقاماً للضحايا المسلمين في أفغانستان وفلسطين " وهو ما يفسر اختياره لآخر ضحاياه وهم من اليهود.
هل كون اﻷطفال يهوداً و ٳسرائيليين يغير في اﻷمر شيئاً ؟ دمهم مثل دم أطفال بابا عمرو أحمر قان وقتلهم جريمة "كمن قتل الناس جميعاً ". هل باﻹمكان ٳدانة مجزرة كرم الزيتون و"الشماتة " بدموع اﻷمهات الثكلى ٳن لم يكن الضحايا عرباً أقحاحاً فما بالك ٳن كانوا يهوداً ؟
ضحايا تولوز مثلهم مثل ضحايا شبيحة اﻷسد كلهم سقطوا بسبب الكراهية واحتقار الحياة اﻹنسانية ، الفارق هو أن في فرنسا "شبيح" واحد وربما ٳثنان، أما في سوريا "فكلهم شبيحة للأبد لاجل عيونك يا أسد". في فرنسا ذهب الرئيس شخصياً للتعزية بالضحايا وتبعته كل الفئات السياسية الفرنسية ولم يتهموا لا مؤامرة كونية ولا مندسين. لم يقهقه الرئيس ويمزح علناً ويزدري دم الضحايا ﻷنهم من غير طائفته. في فرنسا الأمن و الشرطة و الجيش همهم حماية المواطنين وليس قتلهم بالجملة. كل فرنسا تبحث عن شبيح واحد يقتل اﻷبرياء وفي سوريا اﻷسد يبحث الشبيحة عن اﻷبرياء ليقتلوهم.
لم يخطر ببال أحد طلب الدعم "للشعب " الفرنسي ولم تسلط "الجزيرة" مدافعها اﻹعلامية على تولوز ولا أحد غامر بالسؤال عن مصير الدولة الفرنسية وخطر تقسيمها ، لا أحد يطالب بالانتقام ولا بطرد العرب.
مالنا لا نرى المذابح تعم أوربا أو فرنسا على اﻷقل ؟ لم نر لا القوات الخاصة الفرنسية بلباس الميدان القتالي ولا المدرعات تحاصر البناء. لم تقم الطائرات الحربية ولا المدفعية بدك الحي وتسويته بالتراب رغم فظاعة الجريمة ورغم أن القاتل هو الوحيد المحاصر في المنزل، لماذا؟
ﻷن فرنسا وكل الدول العصرية قامت على احترام حق المواطن والمسؤولية الفردية وحقوق اﻹنسان وليس على مبادئ هلامية ومطاطة مثل حقوق الشعوب والمقاومة والممانعة اﻷبدية. حقوق اﻹنسان هي مبادئ واضحة مكتوبة يستفيد منها كل أبناء البشر أنى كانت جنسياتهم ودياناتهم. نفس الضجة تحدث ٳن كان الضحايا أطفالاً من العرب أو اليهود أو أوربيين ، كلهم بشر وكلهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات ، لا فرق بين أي منهم سوى بجهودهم وبعلمهم وعملهم.
حقوق اﻹنسان هي معركة مستمرة من أجل احترام الحياة البشرية وفرص الجميع في التقدم والحرية لفائدة المجموع ، وهو ما يفسر أن لا ارتقاء لدولة دون اﻹقرار بحقوق اﻹنسان اﻷساسية قبل أي شيء آخر بما فيه حق الشعب كمجموعة بشرية ، فالشعب هو أولاً مجموع اﻷفراد الذين يشكلونه ولا شعب يقدر على الارتقاء والوصول لكرامته ٳن كان مكوناً من أذلاء لا قيمة لهم مهما كانت "مبررات" ٳذلالهم .
على مثقفي الثورة السورية وسياسييها أن يحددوا مواقفهم من حقوق اﻹنسان اﻷساسية ومن أمور مثل قدسية الحياة البشرية ومبادئ الحرية والمساواة بين مكونات المجتمع ووضع حقوق اﻹنسان في موضع اﻷولوية من اهتماماتهم. هذا الموضوع ليس نظرياً ولا ثانوياً على اﻹطلاق، فكل دول العالم التي واجهت نكبات وانقسامات تمكنت من تجاوز المحن عبر تأكيدها على أولوية حقوق اﻹنسان.
الالتزام بحقوق اﻹنسان يعني أن المواطن يسمو على مجموعته الطائفية والسياسية وحتى الاجتماعية وأن ما يحكم هو القانون والمسؤولية الفردية وليس النفوذ أو التسلط. غياب القانون وعدم احترام حقوق اﻹنسان هما القاسم المشترك بين كل أنظمة الطغيان. واحترام حقوق اﻹنسان هو مفتاح الحل لمشاكل اﻷقليات والحرية الدينية وفتح أبواب التقدم والازدهار أمام الجميع دون تمييز.
العرب الذين قد يجتمعون في بغداد آخر هذا الشهر و"أصدقاء " الشعب السوري الذين سيلتقون في تركيا أول الشهر المقبل عليهم أن يقرروا ما هي قيمة اﻹنسان السوري بالنسبة لهم واستطراداً ما هي قيمة اﻹنسان لدى حكوماتهم.
من يدعم حق الٳنسان السوري عليه أن يبدأ بكف يد شبّيحة النظام وسفكهم لدماء الشعب السوري احتراماً لحق السوريين في الحياة، هذا قبل الحديث في مستقبل النظام السياسي في سوريا.
وضع حق الٳنسان السوري في الحياة والكرامة موضع اﻷولوية يقتضي الخروج من الخطاب اﻷجوف حول "ماذا يريد الشعب السوري ؟ " وهجر المنظومة القيمية المعتادة حول الشعوب التي تسام كالقطيع.
وضع حقوق اﻹنسان في قلب النضال السوري يعني أن علاقات سوريا المستقبلية سوف يتم تحديدها وفق مواقف كل طرف وكل دولة تجاه حقوق السوريين وحياتهم وليس تجاه قضايا عمومية ومواقف فوق وطنية. هذا يعني أن السوريين سيكونون أصدقاء من يوفر دماءهم ومن يريد لهم استرداد حقوقهم وستكون لهم مواقفهم الصلبة تجاه أولئك الذين يسفكون دمهم أو يريدون استمرار نظام الشبيحة.
وضع حق اﻹنسان السوري والشعب السوري فوق كل اعتبار يقتضي أن نحدد مواقفنا وفق هذا المعيار أولا وليس وفق معايير يفرضها علينا من "يدهم في الماء ". أصدقاء السوريين هم من يوقفون سفك دمائهم أنى كانوا، عربا أو عجماً أو غرباء.
هذا الكلام برسم من سيجتمعون ليتفاوضوا ويتجادلوا حول سوريا المستقبل. حينما يتحكم السوريون بمصيرهم فلن يكونوا أعداء ﻷمريكا ولا لغيرها بما فيهم ٳسرائيل ٳن وقف هؤلاء ٳلى جانب حق السوريين في الحياة فالقضية السورية ودماء السوريين هي هم السوريين اﻷول وليس باقي القضايا بما فيها قضية العرب اﻷولى في فلسطين دون التقليل من أهمية هذه اﻷخيرة.
كل تضحيات السوريين في سبيل "القضية " جاءت وبالاً على الجميع وسمحت لزعران المقاومة بانتهاك حقوق السوريين تحت اسم الدفاع عن فلسطين. سوريا المستقبل ستحدد موقفها من المقاومة الفلسطينية وغيرها بحسب موقف المقاومة من الثورة السورية ومن اﻹنسان السوري وليس للسوريين مصلحة في دعم من يعادي ثورتهم اليوم و لو تلفح بعباءة المقاومة وحتى لو قاوم بالفعل لا بالقول.
استطراداً، من المستبعد أن يضحي السوريون اﻷحرار يوماً بدمائهم دفاعاً عن قضايا شعوب دعمتهم بمجرد الكلام. على الخليجيين أن يعرفوا أن مساهمتهم الفعلية في تحرير سوريا من مغتصبها اﻷسدي هي شرط وقوف السوريين ٳلى جانبهم في المستقبل فاﻷحلاف ترسم بالدماء وليس بالكلام المعسول ولا "ببوس الشوارب ". تقتضي اﻷمانة توجيه نفس الخطاب ٳلى جيران سوريا ، من تيار المستقبل حتى العرش الهاشمي مرورا باردوغان وبخطاباته النارية وتهديداته المسرحية .
لكي يخرج السوريون من المتاجرة بدمائهم ، عليهم السير على المبدأ الذي سارت عليه الثورات التاريخية التي سبقتهم ونجحت وتوضيح أن صداقة سوريا المستقبل ، كما عداوتها ، هما رهن بموقف الآخرين من ثورة السوريين ومن حقوقهم.
لن تكون سوريا الحرة صديقة لروسيا بوتين التي حمت الطاغية وأرسلت عسكرها لدعمه. شرط صداقة السوريين لروسيا هو مساهمتها في تحريرهم وليس موقفها في مجلس اﻷمن تجاه قضايا أخرى ولا تاريخها المزيف في خدمة قضايا تحرر الشعوب فروسيا بوتين تلعب نفس الدور القذر الذي لعبه السوفييت في أفغانستان والعراق و في الصومال.
الصداقة السورية اﻹيرانية ومع حزب الله رهن بمساهمة هؤلاء في تحرير سوريا ولن يكون السوريون أصدقاء لمن قتلوهم مهما كانت الظروف ، فهل رضي اليهود بمسامحة النازيين القدامى بعد سقوط هتلر؟ على العكس من ذلك فاليهود طاردوا قتلتهم في بقاع الدنيا اﻷربع وأحضروهم للمحاكمة أينما كانوا. حكم اﻹعدام الوحيد في تاريخ ٳسرائيل تم تنفيذه في "ادولف ايخمان" جزار اليهود النازي ومهندس "الحل النهائي ". الرجل أُعدم علناً في القدس عام 1962 أي بعد عشرين عاماً على جرائمه.
لن تكون سوريا صديقة ﻷمريكا ٳن استمرت هذه اﻷخيرة في لعبتها المزدوجة القائمة على تحويل سوريا ٳلى مستنقع من الدماء، على الطراز الصومالي ، يغرق فيه أعداء أمريكا ومنافسوها من ٳيران ٳلى روسيا.
هل ستكون سوريا المستقبل عدوة ﻹسرائيل ٳن خرجت اﻷخيرة من الجولان وٳن هي دعمت حق السوريين في الحياة والكرامة ؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي على ثوار سوريا اﻹجابة عليه.
هل ستستمر سوريا في عداء ٳسرائيل ٳن ساهمت هذه اﻷخيرة في ٳسقاط نظام اﻷسد وسحبت دعمها المستتر له ، وهو النظام الحليف لها منذ 1974 ؟ هل ينسى السوريون أن من سفك دماءهم هو نظام اﻷسد الذي قتل من السوريين والعرب عشرات أضعاف ما قتلت ٳسرائيل منذ قيامها. في سوريا كل يوم هناك "دير ياسين " جديدة و"محمد الدرة " بالآلاف منذ وصول نظام الشبيحة ٳلى الحكم في دمشق.
هل تكون حياة وكرامة السوريين أرخص من "القضية " التي هي عبارة عن "قميص عثمان " يتمسح به اﻷفّاقون لمصادرة حقوق اﻹنسان في الحرية والكرامة وللاستمرار في نهب البلاد والعباد ، يستوي في ذلك نظام القتلة في دمشق ورديفاه اﻹيراني والٳلهي في لبنان؟
احترام حقوق اﻹنسان السوري يبدأ باحترام الحياة والكرامة البشرية في المطلق ويقتضي أن ندين سفك دماء اﻷبرياء واﻷطفال، حيث كانوا ومهما تكن ديانتهم ، من كرم الزيتون ٳلى تولوز.
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog ahmadshami29@yahoo.com
نشرت في بيروت اوبسرفر الخميس 22 آذار 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=73174:2012-03-22-00-35-53&catid=39:features
التعليقات (0)