حركة الزمن بين الإشارة والرمز في سبوتنيك هاروكي موراكامي
الروائي الياباني هاروكي موراكامي
يقول بوريس شيرتوك"كل صاروخ من تلك الصواريخ كان كحبيبة لنا..لقد كنا غارقين في عشق هذه الصواريخ...ونسعى من أجل الوصول إلى إطلاق ناجح لها...وكنا مستعدين للتضحية بقلوبنا وأرواحنا من أجل رؤيتها تحلق بعيداً".فالحركة في الإنطلاق بعيداً هي تحرر ذاتي إيحائي من كل ما يتعلق بالأجسام المادية ليصبح الفضاء هو العنصر الزماني والمكاني الذي يجمع كل شىء في العقل الروائي.
هذا ما فعله هاروكي موراكامي في رواية سبوتنيك الحبيبة التي ترجمها صلاح صلاح، توليد إثارة حركية للزمن والعصف الذهني، ليخلق تفاعلا حقيقيا عند القارىء، فيفكّر ويلتصق بمصدر الطاقة الذاتي ليخلق حافزا فكريا كبيرا في انطلاقة حركية لمتابعة الرواية، وهو ينقلنا عبر الفضاءات،كأنه رفيق سفر خارجي غير مرئي في مس ذهني مثير، مؤثر قائم على فكرة الإبحار النفسي في حبكة محكمة وشخصيات غير واقعية في تحفيز وتساؤل، ومتناقضات وكأنه يمارس مهنة التعليم في صفوف الروضات عبر نقل الحركة من شخصية إلى شخصية دون تحديد بطل رئيسي مستخدماً الوقت والتجربة في تكوين رؤية ذهنية قادرة على تشكيل دراما متنقلة في مشاهد روائية تحفظ الزمن في الذاكرة، لتعطيه تجربة مكانية مرتبطة بالجغرافيا نافياً المادة ومعتمداً على الذهن المتحرر، باحثاً عن الكمال، وكأنه يبرز أهمية الوجود في المفهوم الزمني من خلال إيقاع متحرك مضطرب"نفرت منها ورأت أن زملاءها من الطلاب (أخشى أنني احدهم) مملون ونوعيات من الدرجة الثانية..أليس هناك مكان أيضاً للأشياء التافهة في هذا العالم البعيد عن الكمال؟ إذا تم التخلص من كل الأشياء التافهة في الحياة غير المثالية، قد تفقد الحياة عدم كمالها". فالتحرر من الذات التي تبحث عن الكمال تحتاج لقوة خفيفة وحقيقية، فسوماير أحبت هذه الأسطر بشكل خاص"لا ينبغي للمرء أن يعيش دون أن يمر بالتجربة الصحية للعيش في البراري حتى لو في وحدة مملة، حيث يجد نفسه معتمداً على نفسه فقط، وبذلك يتعرف على قوته الخفية والحقيقية"..
وسائل إيضاح كثيرة استعملها لخلق رؤية ذهنية عند القارىء، فيعيد تشكيل الجمل من خلال مفردات يضعها أمامنا مثل." صعود وهبوط، وقت وتجربة، رواية وتوصيل، تحابر جسدي، الرمز والإشارة، ذروة الإرتفاع جهاز نقل الحركة الجديد. إشارات ورموز، وكأن قاموس المتناقضات يحافظ على الذهن خاليا كي يستقبل معلومات تاريخية مهمة. مثل قساوة الأتراك التي فتكت بالجزيرة ومن ثم هتلر، ليغلق الكتاب ونحن نقرأ معه باهتمام في استعادة معلومات تاريخية مهمة عن اليونان لنبدأ معه رحلة البحث عن سوماير وكأنها"مجرد قطعة معدنية صغيرة تدور حول الأرض"
"حقيبة سفر مليئة بكل ما هو ممكن للتعبير عن الروح ومصير الإنسان" فالزمن مرتبط بالحركة والروح مرتبطة بالجسد، والتعبير وسيلة للتواصل، والرواية هدفها التوصيل، معادلة كتبها هاروكي في روايته بحكمة ذات أبعاد زمنية حاول من خلالها شرح الفن الروائي المرتبط بالحدس الزمني، كما لو كان يدرس كل حركة كونية باهتمام فلسفي"كتبت كثيراً حتى الآن، تقريباً ذلك يشبه وقوفي في مرعى شاسع حيث كنت أقطع كل العشب وحدي فيعود نابتاً بالسرعة التي أقطعه فيها إلى حد ما" ليكمل فكرته في التبسيط والدقة والوقوف عن التفكير للتأمل في خلاصة الفهم ليقول"ما الفهم إلا خلاصة عدم فهمنا" ارتباك وكأنه في حديث نفس يجعلنا نتساءل!. ما الذي يجعلنا نقرأ كل هذا؟.هل يكتبنا الآن؟..هل هو قارىء معنا؟..كيف يبقى حبه لسوماير خفي؟.هل هي الروائية أم هو؟.هل ميو هناك تبحر في فضاء الذاكرة حيث انقسمت ذاتها بين ماض وحاضر، فانكسر المستقبل لتبقى رهينة حاضر تعيشه في مركبة فضائية تنقسم على ذاتها لتنفرد في قمرة القيادة الحياتية. رموز دائماً وإشارات تجعلنا نفتش عن أجوبة لكل ما يعصف في إذاهاننا، لنفتش عن جواب سؤال تركه في مهب الريح ماذا فعل جوزيف ستالين؟.هل يقصد أنه نقل روسيا من عصر الظلام إلى عصر الصناعة؟.كما نقل هو الرواية من الكلاسيكية إلى الإنفتاح الفضائي والزمني نفسه لكن في نقل الحركة من الكاتب إلى القارىء؟ ثم فجأة يقول"أخلط ترتيب الأحداث"
يقول جوستاف فلوبير:بينما يواصل جسدي رحلته فإن افكاري لا تفتأ تلتفت إلى الخلف وتدفن نفسها في الأيام الخوالي؟.
لم تكن الكلبة الفضائية في سبوتنيك تلك المركبة التائهة في الزمن، والتي لم تجد مكاناً تنتمي إليه في نزهة استرخاء!.. بل هي تبحث عن نقطة وصول إلى مكان يتوقف فيه الزمن عن الدوران، وتعود الحياة للشعر الأبيض دون استعمال صباغ له بغية الوصول لفهم دورة الحياة الذهنية التي تجعلنا في تخاطر، ورحيل مستمر نحو الحلم لنفهم نقاط الضعف والقوة في أنفسنا في معرفة تجعلنا نعيد حسابات حياتية بعد أن ننتهي من قراءة سوماير والأنقسام الذاتي دون ترهل، فالوقت في الرواية محسوب بدقة والشخوص تتحرك كقرص الشمس لنتابع الأحداث بشغف قبل المغيب مع الحوارات التي زادتني عصفاً ذهنياً وتفكرأً. فهل وضع نفسه في إطار روائي كي يعيش في رواية تنقله حيث يشاء؟"أعتقد أن معظم الناس يعيشون في رواية وأنا لست حالة إستثنائية" إنساب الوقت بصمت تلقائي والحوار بين سوماير وميو يتخذ شكل حوار نفسي كاننا نقف لبرهة أمام المرآة، معجبين بأنفسنا، فنحاورها قليلاً ونرفض أي شذوذ قد يصيبنا"لكن جسدي وعقلي كانا في حال من التناقض"ورفض لعلاقة مثلية لأن سبوتنيك واحد وسبوتنيك أثنان رفيقتا سفر رائعتان" أدركت حينها أننا رفيقتا سفر رائعتان، غير أننا في المحصلة الأخيرة لسنا سوى قطعتي معدن وحيدتين تدور كل منا في فلكها الخاص المنفصل."
"ويبقى سؤال. إذا لم يكن هذا الجزء الذي فيه ميو هو العالم الحقيقي، إذا كان هذا الجزء هو الجزء الآخر بالفعل، فماذا عني، أنا التي تشاركها الفضاء المكاني والزمني نفسه؟."فهل جعلنا "هاروكي" خارج العالم الزمني في عمله لتطوير الأفكار في تقنية كتابية تجعلنا نتساءل "من أكون بحق السماء؟"
شيفرة متحركة وظفها في إشارات لها مدلولاتها، والتي جعلتنا ننصهر مع تعبيره الدقيق عن توصيف الحالة التي عاشها في الجزيرة، وهي رقي عقلي عند المؤلف في استنباط أساليب كتابية تبث الشوق فيه ليدخل مع شخصيات الرواية ويندمج معها، فنندمج نحن بسهولة رغم الإستنكار أحيانا من مراقبة الوعي، فنغمض العيون لنبني صورة ذهنية مغايرة لما نقرأ، أو نتأثر فعلياً بتأثيرات مباشرة "أغمضت عيني وبنيت صورة ذهنية" فهل الخطاب السردي يبتعد عن الواقع في سحره أم هو تشكيل وعي لقراءة اللاوعي الداخلي في سلطة إيحائية يمارسها الراوي؟
بقلم ضحى عبدالرؤوف المل
dohamol@hotmail.com
التعليقات (0)