اﻷحداث السورية اﻷخيرة تدل على أن هناك حرباً استخباراتية شعواء تدور رحاها اليوم في سوريا وعليها. من جهة هناك نظام اﻷسد وحلفاؤه الٳيرانيون والروس، وبين أجهزة استخبارات لا تعد ولا تحصى، تريد ٳبقاء الصراع في سوريا ضمن حدود مدروسة وتوجيه دفة المعارك بما يضمن مصالح هذه الدول وحلفائها. في حرب الظلال هذه، الثوار السوريون ليسوا وحدهم.
مع الفيتو الروسي الصيني المعطل ومع التهديد باﻷسلحة غير التقليدية التي تمتلكها عصابة اﻷسد، ومع استمرار هذه اﻷخيرة بتهديد اﻷمن القومي لكل جيرانه دون استثناء، وجد العالم الحر وأصدقاء سوريا أنفسهم في ورطة غير مسبوقة. فٳما الرضوخ لابتزاز نظام العصابة اﻷسدية وتسجيل سابقة خطيرة على كل الصعد مع تعريض التوازنات الدولية الدقيقة لاهتزازات لا يدري احد مداها، أو اجتراح وسائل مبتكرة للرد على ٳجرام اﻷسد.
ما جعل اﻷمور عصية على الحل العسكري في سوريا هو أيضاً التهديد اﻹيراني بالدخول على خط اﻷزمة السورية وتمييع ملف السلاح النووي اﻹيراني، وهو ما يشكل نصراً استراتيجياً للجناح المتشدد في طهران. يضاف ٳلى ذلك تلاقي مصالح القيصر الروسي الجديد وزمرة المافيا المحيطة به، مع مصالح العصابة اﻷسدية في البقاء وفي دوام "عرس الدم والنهب" على التراب السوري. دول البريكس التي ظنت في مقدورها اللعب على وتر اﻷزمة السورية من أجل خلق توازن جديد في مجلس اﻷمن، تراجعت عن هذه اللعبة القذرة حين رأت أن طوفان الدم السوري أكبر من حسابات سياسية قصيرة النظر. أما الصين فقد وجدت الفرصة سانحة للاختباء وراء الدب الروسي الجلف والتذكير بأنها، هي أيضاً، مالكة لحق الفيتو.
دعنا نرى اﻷمور من منظار شامل: الروس يسقطون طائرة تركية واردوغان يبلع اﻹهانة، بعد أيام نرى تحسناً ملحوظاً في تسليح الجيش الحر وتدمير عشرات الدبابات اﻷسدية، مما يدل على تغير ملموس في مواقف "جيران سوريا" بما فيهم وزير خارجية العراق الذي يصف اﻷسد "بالطاغية". روسيا تتمسك بالفيتو وعنان يذهب ٳلى طهران وموسكو لكسب دعمهما لخطته الفاشلة قبل أن تبدأ. كل هذا بعد انتهاء مؤتمر "جنيف" الذي عقد في غياب اللاعبين السوريين.
في هذه اﻷثناء يتمكن العميد" مناف طلاس" من الخروج من سوريا بأمان ويذهب ٳلى باريس، وليس موسكو، التي تعلن وصوله لفرنسا على لسان وزير خارجيتها أثناء انعقاد مؤتمر أصدقاء سوريا. خروج العميد "طلاس" تم بتعاون بين المخابرات الفرنسية وأطراف في النظام السوري. أما السفير السوري في العراق فقد استفاد من مساعدة كردية وقطرية ثمينة.
فور أن حرك اﻷسد أسلحته الكيماوية من مواقعها، التقطت أقمار اﻷمريكيين واﻹسرائيليين اﻹشارة وهددت اﻷسد ورجاله بأنهم سيكونون مسؤولين" شخصياً" عن أي استعمال لهذه اﻷسلحة. الروس يرسلون سفنهم لدعم اﻷسدولٳجلاء رعاياهم المدنيين، ويعيدون ٳرسال السفينة التي تحمل طائرات عمودية للأسد، تحت علمهم الوطني هذه المرة، لتجاوز العقوبات اﻷوربية ويشهرون سيف الفيتو الماضي في وجه أي ٳدانة للقتلة في الشام.
لكن، قبل وصول السفن الروسية المحملة بالعتاد والرجال، يبادر الجيش السوري الحر ٳلى فتح معركة فاصلة في دمشق، في حين كان العديد من ضباط الجيش الحر يريدون تأجيل هذه المعركة لحين اﻹعداد لها بشكل جيد لضمان أن تكون ٳيذاناً بنهاية اﻷسد دون ٳسقاط الكثير من الضحايا المدنيين. في نفس الوقت يقوم "بان كي مون" بزيارة خاطفة للصين بهدف ثنيها عن استعمال الفيتو.
في ذات اليوم، يصر اﻷوربيون واﻷمريكيون على طرح مشروع قرار تحت الفصل السابع، يرفضه الروس بٳصرار. تفجير الروضة فاجأ الروس لدرجة دفعتهم ٳلى طلب تأجيل التصويت و"طلب التحقيق لمعاقبة من كان وراء الاغتيال ؟"، ولسان حالهم يقول "هذه فعلة من صنع الاستخبارات الغربية". اﻷهم من ذلك أن تسارع اﻷحداث في سوريا كفيل بأن يجعل الفيتو الروسي "مثل قلته". الروس مقتنعون أن الغرب قد أرسل لهم رسالة مؤداها أن الفيتو الروسي لن يغير الوقائع على اﻷرض، وأن الغرب قادر على قلب المعادلة السورية رغم أنف "بوتين".
في اﻷيام اﻷخيرة، تسارع "سحب" الغطاء السني عن نظام اﻷسد، سواء بالشائعات فيما يخص "رستم غزالي" و"فاروق الشرع" أو بانشقاق "نواف الفارس" و"مناف طلاس" وغيرهما. جاءت عملية الاغتيال الناجحة في حي الروضة لتعيد خلط كل اﻷوراق مع تغييب وجوه من داخل وخارج "الطائفة الكريمة"، قتلاً أو عبر جراح بليغة، من العماد المسيحي "داوود راجحة" و السني "حسن تركماني" ٳلى الوزير الشعار الذي لم تتأكد وفاته. هؤلاء لا وزن فعلياً لهم وسيتم استبدالهم بسرعة فهم خدم النظام وليسوا سدنته. اﻷمر مختلف تماماً فيما يخص "آصف شوكت"، وخاصة ٳن تأكدت وفاة "حافظ مخلوف" فهؤلاء من "عظام الرقبة" ويمثلون صلب النظام العائلي الطائفي الذي أقامه آل اﻷسد.
اغتيال "آصف"، و"حافظ" ٳن تأكدت وفاته، تجعل التكهنات حول قيام النظام بتصفية قيادات راغبة في الانقلاب عليه غير ذات معنى. فكيف يجتمع انقلابيون في مكتب اﻷمن القومي في وضح النهار وبحضور ممثلي العائلة ؟! ولماذا يقتلهم النظام بالجملة وهو قد تخصص في فني الانتحار والاختفاء ؟ ثم هل جن النظام لكي يُظهر ٳلى العلن عجزه عن حماية من هم في قلب السلطة اﻷسدية ويفضح الاختراقات الهائلة التي تعرض لها ؟
هذه العملية، التي تحتاج لعناصر من قلب الدائرة اﻷمنية الموثوقة لكي تنجح، تطرح احتمال وجود أطراف في النظام، من خارج الدائرة المغلقة للعصابة اﻷسدية، ترغب في قلب المعادلة التي بني عليها النظام وهي "تحالف اﻷقليات" تحت قيادة عصابة اﻷسد. قد يريد هؤلاء حكماً "علوياً" صافياً لا تعكر صفوه نخبة سنية مرتزقة مشكوك في ولائها، ولا يريدون ٳعطاء دور مبالغ فيه للأقلية المسيحية. من مصلحة هكذا طرف تأجيج الصراع الطائفي في سوريا، عبر اقتراف المجازر المجانية، بهدف الوصول ٳلى ٳقامة محمية علوية في المناطق الساحلية تكون ملجأ لرجالات النظام ولعائلاتهم بعد رحيل اﻷسد الذي صار محتماً. لهذا يغض هؤلاء الطرف عن انشقاق وفرار الضباط السنة بل يشجعونه للاحتفاظ بوحدات عسكرية وأمنية "خالصة" يمكن الاعتماد عليها. يرى هؤلاء أن نظام اﻷسد كان منفتحاً للغاية ومتساهلاً تجاه السنة واﻷقليات التي سارعت للنزول من سفينة النظام الغارقة فور" أن وصل البل ٳلى ذقنها".
ربما يعتقد هذا الجناح الطائفي المتطرف في النظام أن الطريقة الوحيدة للنجاة ولاسترداد المبادرة هي التوجه ٳلى بناء محمية علوية صرفة، فائقة التسليح، بما فيه أسلحة كيماوية وطائرات سلاح الجو السوري الحديثة واﻷسلحة المتقدمة. دويلة على النمط اﻹسرائيلي، لا تلتزم سوى بحماية الطائفة العلوية ومصالحها، وتتخلى عن عائلة اﻷسد وقت اللزوم. حين يقتنع مناصرو النظام والمنتفعون منه من السنة واﻷقليات أن حرسهم "العلوي" سوف يغادر ويتركهم لمصيرهم، فسيحمل هؤلاء السلاح جنباً ٳلى جنب مع الشبيحة ويشاركونهم في ضريبة الدم التي يدفعها أبناء الطائفة لحماية الصرح اﻷسدي الذي استفاد منه الجميع، وليس "الطائفة الكريمة" وحدها.
هذا الاحتمال يعني أن القوى الضاربة في النظام، والتي لم تمس قياداتها الميدانية بسوء ٳلا فيما ندر، ربما تكون قررت اللعب لحسابها الشخصي ولحساب الطائفة دون اﻷخذ بعين الاعتبار مصالح النظام ككل وأن هذه القوى الغامضة قد تجاوزت "اﻷسد" وسوريا التي نعرفها ٳلى غير رجعة.
في هذه الحالة، تحتاج هذه القوى ٳلى رعاة دوليين يضمنون لها سلامتها ومستقبلها، وسوف تجد ضالتها في أجهزة الاستخبارات الكثيرة التي تنشط حالياً في سوريا، فللطرفين مصلحة في ٳزاحة اﻷسد الذي فشل في قمع الثورة والتخلص من أفراد العصابة اﻷسدية الذين أصبحوا عبئاً على الطائفة. قد يكون التفاهم بين الطرفين تكتيكيا ومؤقتاً يحفظ الدولة السورية الحالية في النهاية، وقد يكون استراتيجياً لرسم مستقبل مختلف لسوريا يحفظ مصالح الطائفة والعديد من أزلام اﻷسد الخائفين من المستقبل. المحمية العلوية، كحل أخير، لن تكون تقسيماً معلناً لسورية، بما يطمئن اﻷتراك ويحافظ على الحدود الدولية للبلاد، ولكنها ستضمن حياة الجزارين من زبانية اﻷسد بعد انتصار الثورة وسيكون ذلك بضمانات دولية.
الاحتمال الثالث هو أن تكون العملية قد وقعت نتيجة لتنسيق محكم بين أجهزة مخابراتية فائقة الكفاءة تمكنت من توظيف هجوم الثوار السوريين على دمشق وقامت بتوحيد الجهود بين الثوار وأطراف من داخل النظام، هي على اﻷغلب من الجهات التي سبق وصفها، وزودتهم بما يلزم ﻹرسال رسالة حازمة ٳلى اﻷسد وٳلى زبانيته بأن هناك من يقدر على استهدافهم أينما كانوا.
اﻷيام واﻷسابيع المقبلة سوف تنبئنا بما كان خافياً وسنرى ٳن كان التفاهم بين أجهزة الاستخبارات المذكورة وأطراف من النظام يهدف لتحقيق مصالح تكتيكية أو أنه يدخل في ٳطار استراتيجية بعيدة المدى تم ٳقرارها في مؤتمر "جنيف".
هذا لا ينتقص من شجاعة وتصميم الثوار، من الممكن أن تكون العملية تمت بمبادرة محضة من الجيش الحر، لكن هذا يبدو صعباً في غياب أجهزة متخصصة تابعة للثوار، قادرة على القيام بعملية معقدة كهذه دون الاستعانة بجهد استخباراتي خارجي. على أي حال، لن يأتي أي جهاز استخباراتي ليقول أنه هو من فعلها.
بالمناسبة، أين العماد "علي حبيب" ؟ ألم تنته فترة استشفائه بعد ؟ هل يحتفظ به أطراف من النظام كمفاجأة في ربع الساعة اﻷخير ؟
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog ahmadshami29@yahoo.com
بيروت اوبسرفر الخميس 19 تموز 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=79824:chami&catid=39:features
التعليقات (0)