في الرابع عشر من شباط 2005 هز انفجار مدوٍ وسط بيروت التجاري في منطقة "السان جورج " . رئيس وزراء لبنان اﻷسبق "رفيق الحريري " أصبح "الرئيس الشهيد " بصحبة العديد من رفاقه. لم تفلح التقنيات المتطورة في حماية سيارة الشهيد المصفحة الي استحالت ٳلى جمر ملتهب.
اﻷنظار اتجهت فوراً ٳلى القاتل السوري المحترف ، والمشهور بطول باعه في الاغتيالات والقتل بكل أصنافه فالرئيس "بشار اﻷسد" وارث عرش الجماجم الدمشقي لم يكن من المعجبين لا بشخصية الفقيد القوية ولا بعلاقاته الدولية الواسعة وكان يعيب عليه احتفاظه بعقلانية يفتقدها اﻷسد و ببعض الاستقلالية عن نظام الممانعة الصدئ في دمشق.
قبل الاغتيال كان اﻷسد الصغير قد شتم وهدد الحريري بحضور نائبه "خدام" (وهو اسم على مسمى). "خدام " هذا استغل أول فرصة للخروج من سوريا لتغيير ولائه ولفضح ما دار في مقابلة اﻷسد والحريري معتبراً أن هذه المقابلة كانت "بمثابة حكم باﻹعدام على الرئيس الشهيد". لكن لماذا قابل اﻷسد الصغير " عمّو الحريري " صديق والده وهدده ؟
هدف المقابلة المشؤومة كان ٳقناع الفقيد بالتصويت لصالح تمديد ولاية رئيس لبنان الذي سوف ينسى العالم اسمه قبل حتى انتهاء ولايته. "ٳميل لحود" ما لم تخنني الذاكرة، لم يكن رئيساً خارقاً ، بل هو نسخة لبنانية عن الرئيس الوريث بشار. شخص منفصل عن الواقع يكتفي بٳعطاء مسحة من شبه الشرعية لنظام مارق ولا يهمه سوى شخصه ومصالحه الضيقة.
المرحلة كانت صعبة بالنسبة لنظامي الشبيحة في دمشق وطهران ، ففي أمريكا رئيس يفعل ما يقول و له مبادئ يؤمن بها ، مثل الحرية والديمقراطية ، ولا يكتفي بالخطابات العاطفية الفارغة أو بصف الكلام. اﻷخطر من ذلك أن قوات الرئيس "بوش " كانت تخوض حرباً مع جماعات سنية في عراق حرره اﻷمريكان من صدام السني ويريد اﻹيرانيون الشيعة السيطرة عليه ! سوريا اﻷسد كانت كعهدنا بها على الجانب الشرير من التاريخ وتسعى ﻹحلال النفوذ الفارسي محل الوجود الأمريكي المؤقت.
ما كان اﻷسد ليخاطر حينها بتسليم مفاتيح البيت اللبناني لرئيس ماروني مستقل قد يتفاهم مع الحريري ويقلب الطاولة على رأس اﻷسد وحليفه اﻹلهي الممانع مستمدا الدعم من وجود المارينز في بغداد .
ٳسرائيل أيضاً ما كانت لترغب في رؤية بلاد اﻷرز تفلت من يد "مقاوليها" اﻷسدي واﻹلهي وما كانت لتريد رؤية النفوذ اﻷمريكي يتمدد في المنطقة ويهدد تحكمها بمصائر البلاد والعباد من مابين النهرين ٳلى المتوسط بواسطة " أعداء " تم انتقاؤهم بعناية. لا تحتاج الدولة العبرية مع هكذا أعداء ٳلى أصدقاء أو حلفاء ، فمن لديه أعداء مثل نظام اﻷسدين اﻷب ثم الابن والحزب اﻹلهي ونظام ولاية الفقيه ، وقبلهم صدام ، يكفيه أن ينتظر ليراهم ينتحرون من تلقاء أنفسهم ، دون أن " توسخ " ٳسرائيل يدها.
في لبنان، كان هناك ولا يزال حزب ٳلهي أذاق اللبنانيين ، قبل العدو ، اﻷمرين ، بزعرناته وبمغامراته الطائشة و بتجاوزه التام للدولة وللوفاق اللبناني. حزب الله لم يستح يوما من الاعتراف بخضوعه لسلطة فوق وطنية هي ولاية الفقيه في ٳيران و تواطؤه مع نظام مارق في دمشق جعل من لبنان مزرعة مشتركة بين زبانية اﻷسد ومقاوليهم في لبنان من كل الطوائف ، نظام يعمل وفق العقيدة اﻷسدية : " لكل بحسب دوره في ازدهار تجارة الممانعة وبحسب خدمته لمصالح اﻷنظمة البلطجية في دمشق وطهران والضاحية الجنوبية ".
في الرابع عشر من شباط 2005 "محور الشر" بفرعه العلني الأسدي اﻹيراني وذراعه الضاربة اﻹلهية في لبنان ، وبضلعه اﻹسرائيلي المستور ، اتفق على "حتمية " التمديد للرئيس لحود وهو ما انتهى الرئيس الشهيد ٳلى قبوله على مضض ووافق على التمديد للرئيس المحظوظ " لحود " فتم التمديد دون مشاكل.
لكن شيئاً ما قد حدث ما بين التمديد والتفجير.
قبل التفجير كان الرئيس الحريري قد تعرض ﻷزمة صحية كادت تودي بحياته ، وكانت وفاته ستمر وقتها دون كثير ضجيج ، لكن أحداً ما في هذا العالم خاف أن يرحل الحريري بشكل طبيعي وأراد اﻹسراع في قتله قبل أن يخطفه عارض صحي.
من فعل هذا كان يدرك ربما أن الاغتيال لن يمر مرور الكرام وأنه سيؤدي ٳلى نتائج سوف تكون في صالح القاتل في النهاية ، فمن استفاد من قتل الحريري بالطريقة التي تم بها الاغتيال ؟
قبل الرئيس الشهيد ، لم يمت زعيم عربي قوي بشكل طبيعي ٳلا فيما ندر. مثلاً "جمال عبد الناصر " مات قبل نهاية الهدنة في حرب الاستنزاف بقليل ، مما سمح ﻹسرائيل بالتقاط أنفاسها وللسادات بعدم العودة لحرب أنهكت العدو الصهيوني. لعلها مصادفة ، لكن "صدفة " أخرى ستقع في آذار 1975 وهي اغتيال أسد العرب ، المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز على يد أحد أفراد اﻷسرة المالكة، بعدها بقليل ستقع الحرب اللبنانية و ستدخل السياسة السعودية في حالة من الموت السريري لن تخرج منها قبل خطاب اﻷمير سعود الفيصل اﻷخير ، شبل الملك الشهيد ، أطال الله في عمره...
أيضا اغتيال الرئيس أنور السادات جاء بردا وسلاماً على اثنين من " زعران " المنطقة ، حافظ اﻷسد الذي تمكن من سحق انتفاضة حماة و من ذبح شعبه في ظل صمت عربي ودولي مطبق ، وٳسرائيل التي ستجتاح لبنان في نزهة صيفية عام 1982 تحت أنظار جيش اﻷسد الممانع والمتواطئ.
ليس هنا مجال التوسع في مفهومي "المؤامرة " و"نافذة الفرص " لكن اغتيال الرئيس الحريري يعطي درساً في أساليب التآمر الدولي وفي كيف تحبك الدول والمنظمات المكائد لبعضها البعض وتستفيد من كل حدث ولو لم يكن لها دور في وقوعه.
هناك " نافذة فرص " أتاحها التعنت اﻷسدي في موضوع التمديد للحود سمحت باغتيال الشهيد الحريري وبوضع نظام اﻷسد تلقائياً في موضع المتهم اﻷول. اتهام نظام اﻷسد بالجريمة والزلزال الذي تبعها فتح "نافذة فرص" جديدة للقاتل الحقيقي (لو اعتبرنا نظام دمشق بريئاً وهو ما يصعب تأكيده) ولغيره ، هذه النافذة سمحت بطرد جيش الممانعة اﻷسدي من بلاد اﻷرز وتركه لقمة سائغة في يد الحزب المقاوم الذي سيستفرد بالقرار اللبناني كونه اﻷقوى عسكرياً على اﻷرض.
لكن، هل أعطى اﻷسد الصغير اﻷمر باغتيال "عمّو رفيق" ؟
بعدما تبين لنا حديثاً من خرق ورعونة وغباء اﻷسد الوريث وحاشيته سوف لن نستغرب مشاركته الفعالة في جريمة سيدفع نظامه الثمن اﻷكبر لها.
لو كان اﻷسد الصغير عارفاً بما ستؤول له اﻷمور في بلاد اﻷرز بعد الاغتيال لربما كان قد فعل المستحيل لحماية الرئيس الحريري. لكنه أبدى قصوراً صارخاً عن حماية الرئيس الشهيد وفيما بعد عَجِزَ عن كشف المشاركين في الجريمة ناهيك عن محاسبتهم. سوف يتحجج اﻷسد بالقول "أن نظامه مشهود له بالذكاء وأنه ما كان ليفعل فعلة كهذه وهو واثق من نتائجها الكارثية عليه ". هذا لعمري عذر أقبح من ذنب ، فمعنى كلام اﻷسد هو أنه قتل عشرات الآلاف من مواطنيه وغيرهم دون أن يحاسبه أحد على أفعاله أو يمسكه بالجرم المشهود ، فكيف له أن يقتل الحريري و هو يدرك أنه واقع لا محالة في شر أعماله ! ؟.
التاريخ سيكتب أن بداية انكفاء النظام اﻷسدي كانت في 14 شباط 2005 حين عجز عن حماية الحريري أو شارك في قتله ثم لم يقدر على محاسبة القتلة أو حتى تقديم كبش فداء واحد غير شريط فيديو سريالي لقاتل انتحاري مفترض. في هذا اليوم انتهى فعلياً الدور المباشر للأسد ونظامه في بلاد اﻷرز وأتى خروج "جند اﻷسد " وهم يجرون أذيال الخيبة ليدشّن مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة ، مع صعود أفق لاعب جديد ، تربى في مدرسة "الممانعة " و" نبيها " المؤسس حافظ اﻷسد.
لم يبق أمام اﻷسد الوريث والذي فقد الورقة اللبنانية بعد الانسحاب المهين لجيشه من بلاد اﻷرز ، من مهرب سوى الارتماء أكثر فأكثر في أحضان نظام الملالي في طهران.
بعد الجريمة بسنوات ومع انطلاق الربيع العربي والثورة السورية المباركة ، يبدو الدور القذر الذي لعبه ويلعبه الحزب الممانع أكثر وضوحا.
باغتيال الحريري، أسكت حزب الله و داعموه الصوت السني المعتدل وقاموا بتغييب رجل السياسة المقتدر والحاذق بطريقة شكلت درساً لغيره. الحزب أظهر قدرته على تجاوز كل الخطوط الحمر ووضع نفسه فوق القانون ، تماماً كما سبق للأسد اﻷب أن أرسى دعائم حكمه وفق استراتيجية احتلالية قائمة على امتلاك قوة ضاربة خارجة عن القانون وعن سيادة الدولة ، كان اسمها في سوريا "سرايا الدفاع "، ثم تصفية كل من يقف في وجه النظام سياسياً أو جسدياً.
مثل معلمه اﻷسد ، دخل الحزب اﻹلهي بعدها في حرب عبثية مع ٳسرائيل وسمى نتيجتها انتصاراً، رغم تدمير البنية التحتية اللبنانية واستشهاد الآلاف من اﻷبرياء وخسارة اقتصادية هائلة، مقابل " فتيشات " سقطت على ٳسرائيل ! كل هذا لا يهم الحزب الممانع ما دام الحزب قد صمد وما دامت إسرائيل لم تجتث "عدوها اﻹلهي اللدود " من جذوره. حزب الله كان "سينتصر" في حربه المجنونة حتى لو دُمِّر لبنان بالكامل ما دام "سيد المقاومة " يقول أنه انتصر. نفس الكلام سمعناه من نظام الصمود في دمشق في حربي 1967 و 1973.
حزب الله كان أدهى من اﻷسد اﻷب ، الذي تحجج "بتحرير الجولان " في حرب تشرين ، في حين برر "سيد الممانعة " هجوم "مقاوميه " على دورية ٳسرائيلية خارج الخط اﻷزرق بضرورة تحرير "سمير القنطار" ! نعم، سمير القنطار "المجاهد" الذي قتل عائلة ٳسرائيلية عزلاء في نهاريا من ضمنها طفلة في الرابعة من عمرها ، ولم يقاتل مستوطنين أو جنودا مدججين بالسلاح. "سمير القنطار " هذا سوف يدعم مثل "سيده المقاوم " قتلة اﻷطفال في دمشق...
في السابع من أيار 2008 سوف يستكمل "الحزب اﻹلهي الممانع " مسيرته التحريرية ويؤكد " سهره " الدائم على أمن الوطن اللبناني والمواطن وسوف " يحتل " بيروت عسكرياً ! في هذا أيضاً يبدو التلميذ "نصر الله " أشطر من المعلم "حافظ اﻷسد" فلم يبق للبنان أرض تحتلها ٳسرائيل و الحزب اﻹلهي يقاوم وكأنه لا يعرف أن اﻷرض اللبنانية قد تحررت، في حين لا زال الجولان السوري محتلاً في ظل تقاعس نظام الشبيحة في دمشق عن التحرير ، فهل يريد جهابذة الحزب المقاوم تحرير اﻷرض السورية "غصباً" عن صاحب الحق الأسدي الساكت ، أم يريدون تحرير كل المستضعفين في اﻷرض على حساب الشعب اللبناني المسكين ؟
حتى كتابة هذه السطور لا زال حزب الله في صف نظام القتلة في دمشق ولا زال يصادر القرار اللبناني الحر لصالح نظام ولاية الفقيه في طهران. الحزب الممانع وراعيه اﻹيراني يبدوان كالرابح اﻷكبر من اغتيال الرئيس الشهيد " التصحيحي " في ظهيرة يوم مشمس من شباط 2005.
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في بيروت اوبسرفر 15 شباط 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=71097:rafik&catid=39:features
التعليقات (0)