من إعداد: أ.د قويدري الأخضر و د. ناجم مولاي
قسم الفلسفة- جامعة عمار ثليجي
الأغواط- الجزائر
* تمهيد:
ينطلق الصوفية في تعاملهم مع الموجودات من فلسفة روحية، مفادها أن الكون بكل مظاهره ما هو إلا تجلّ للحق عز وجل، و أثرٌلصفاته وأسمائه العُلى،و تأسيسا على هذا، فقد تعاملوا مع الكون كلّه بخلُق المحبة والتعظيم، وتمكنوا من تأسيس بَراديغمªتراحمي يندر أن نجد له نظيرا عند غيرهم، إلى حدّ أنْ أنشد عارفهم الأكبر الشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله أبياته المشهورة:
لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديــــرٌ لـرُهْبانِ
وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة طائـــــــــــــف وألواحُ توراة ومصحـــفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجـَّـهتْ رَكائِبُهُ فالحُبُّ دينـــي وإيماني
ومن هذا المنطلق تأتي هذه الدراسة لتقاربَ ثقافةالتسامحكما عرفها الصوفية تنظيرا وممارسة،وذلك من خلال الإجابة عن التساؤلات الآتية:
- ما الخلفيات الروحية لثقافة التسامح في التصوف الإسلامي؟
- كيف تجسدت هذه الثقافة في تعاملاتهم مع المخالفين لهم ؟
– و ما هي سبل استثمارها في حياتنا المعاصرة؟
- أولاً: مدخل مفاهيمي:
يذهب الفيروز ابادي في القاموس المحيط إلى أن التسامح مرادف للتساهل[1]. و يعرف ابن منظور الحنيفية السمحة بـأنها هي التي" ليس فيها ضيق أو شدة"[2]. أما قواميس اللغة والمعاجم الفلسفية والسياسية فإنها تجمع على أن التسامح Toléranceبمعناه الأخلاقي موقف فكري وعملي يقضي بتقبل المواقف الفكرية والعملية التي تصدر من الغير، أي هو احترام المواقف المخالفة[3]. ونقيض فكرة التسامح هو اللاتسامح، أي التعصب والعنف ومحاولة فرض الرأي ولو بالقوة[4].
وقد ذهب المفكر الفرنسي إدغار موران (1921م - ؟ ) إلى أن التسامح يعكس موقف من يقبلأساليب الآخرين في التفكير، وطريقة معيشتهم الحياتية، و يندمج معهم و يعترف بهم ويحترم وجهات نظرهم (...)وهو ـ كخُلق ـ يضمن بلوغ التلاحم الكلياني بين أفراد البشرية جمعاء[5].
أما منظمة اليونسكو فقد أصدرت إعلانا سنة 1995م ينص في مادته الأولى على أن التسامح: «يعني احترام وقبول التنوع الغني عالمنا ولأشكال التعبير والتصرفات الإنسانية لدينا. و يتعزز التسامح من خلال المعرفة والانفتاح والتواصل وحرية الفكر لثقافات والضمير والمعتقد»[6].
ويرجع تاريخ التسامح في أوروبا إلى أكثر من ثلاثة قرون، لكنه لم يتخذ صيغته النهائية إلا مع فلسفة التنوير التي صاغها بعض الفلاسفة من أمثال جون لوك : John Locke(1632 - 1704م(،و فولتير Voltaire(1694 – 1778م)، و كانط Kant (1724 – 1804م) وغيرهم.
وقد ظل هذا المفهوم مقترنا بمحاولة التقريب بين المذاهب الدينية المتصارعة في أوربا و التي خلّفت حروبا دينية مدمرة[7]. لكن فلاسفة التنوير في ما يذهب إليه الجابري وقعوا في تناقض صارخ حينما رفعوا شعار التسامح لتجاوز الخلافات الدينية التي كانت سائدة في أوروبا، وأهملوه في القضايا السياسية، والدليل على ذلك أن كثيرا منهم تسامحوا مع الاستعمار، وأيّدوه واعتبروه وسيلة لتمدين الشعوب غير المتحضرة، بل كان منهم من ينادي بتفاوت الأعراق وأفضلية بعضها على بعض[8].
هذا وإن الحديث عن التسامح يحيلنا إلى الحديث عنالاختلاف الذي يتضمن هو كذلك قبول الغير، والتفكير خارج منطق الهوية، والاعترافبحق الآخرين في التمتع بحقوقهم وحرياتهم الأساسية. وبالتالي فهو نقيض الهوية، و مرادف للتباين[9].
1- ثقافة التسامح في التراث الإسلامي، بين النفي والإثبات:
إن المتصفح للقرآن الكريم يلاحظ أنه لم ترد فيه مفردة التسامح بشكل صريح، ولكنها وردت ضمن حقل دلالي تحدده عبارات أخرى مثل العفو واللاإكراه. فقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم﴾[10].يشير إلى ضمان حرية المعتقد ونبذ كل تطرف ديني. و قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾[11]، و قوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان:63 ].وقوله: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾[12]،،كل هذه الآيات وغيرها تتضمن معنى العفو والتسامح.
وقيم العفو والتسامح نلمسها جليّة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حيث ضرب -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة في الرفق والرأفة والرحمة. فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتبادل الهدايا مع غير المسلمين ويتعامل معهم في البيع والشراء والأخذ والعطاء والاقتراض، وجميع المعاملات الحياتية التي يتعامل بها أبناء المجتمع الواحد.
فعن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «إنه من أُعطي حظّه من الرفق فقد أُعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار»[13].
وعن سيدنا عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، قَال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمْكم من في السماء»[14].
وعن سيدنا أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- الصادق المصدوق صاحب هذه الحجرة يقول: « لا تُنزع الرحمة إلا من شقي»[15].
وجاء في حديث سيدنا جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-، قَال: قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس»[16].
وقد تحدث الباحثونفي التاريخ الإسلامي كثيرا عن دستور المدينة الذي تمت صياغته فور هجرته صلى الله عليه وسلم، والذي اعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعْلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني.حيث تضمن تنظيم العلاقة بين جميع الطوائف خاصة ، المهاجرون ، الأنصار، والجماعات اليهودية . وبإقرار جميع الفصائل بما ورد فيه، صارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية المعتقد وممارسة الشعائر.[17]
وإن خير دليل على التسامح الإسلامي، تلك الشهادات التاريخية المتتابعة التي سجلها بعض المستشرقين
ü فهذا المؤرخ ول ديورانت William James Durant(1885 - 1981) يقرّ أن: «أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون، استمتعوا في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم»[18].
ü أما المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه Sigrid Hunke[19](1913- 1999م) فقد شهدت بأن:« العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود، لاقوا قبل الإسلام أبشع أنواع التعصب الديني وأفظعها؛ لكن المسلمين سمحوا لهم جميعاً بممارسة شعائر دينهم، وتركَوا لهم مقدّساتهم دون أن يمسوها بأدنى أذى»[20].
ü ويذهب غوستاف لوبون Gustave Le Bon(1841-1931م)إلى أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم[21].
ü وقد عبر البابا شنودة الثالث (1923- 2012م) بطريك الكنيسة الأرثوذكسية بمصر، عن شعوره تجاه ما وجده المسيحيون في ظل الحكم الإسلامي فقال:« إن الأقباط في ظل حكم الشريعة الإسلامية يكونون أسعد حالاً وأكثر أمناً ولقد كانوا كذلك في الماضي حينما كان حكم الشريعة هو السائد»[22].
وإذا كانت سنّة الله في الاجتماع الإنساني أن يكون هناك دائما فارقا بين الواقع والمثال، فإن ممارسات الدول الإسلامية ،لم تكن دائما على مستوى المثال الإسلامي في التعامل مع الآخر الديني، ومع ذلك فقد ظلّت هناك ثوابت من الرحمة والتسامح حكمت علاقة المسلمين بغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية عبر تاريخ الإسلام[23].
ولعل المفكر محمد أركون (1928-1999م) قد انطلق من بعض الثغرات المتطرفة في التاريخ الإسلامي ليذهب إلى أن التسامح يعتبر واحدا من أنواع اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي،وأن بعض الدارسين من المسلمين يقعون في مغالطات تاريخية حينما يحشدون النصوص الدالة على التسامح بينما التاريخ الإسلامي يثبت أن هناك انزلاقات خطيرة انجرت إليها المجتمعات الإسلامية عبر تاريخها تؤكد على أن التسامح لم يكن بمستوى هذه المثالية الموجودة في النصوص[24].
ورغم أن الشريعة الإسلامية- يضيف أركون- كانت تقرّ بحقوق أهل الذمة من اليهود والنصارى إلا أن هذا التسامح كان تسامح اللامبالاة، كون الإسلام ،حاله كحال كل الأنظمة اللاهوتية الدوغماتية، كان يحتكر الحقيقة ولا يسمح بغيرها للآخر إلا في حدود ما يتوافق مع مصالحه.
ولا ينكر محمد أركون وجود بعض النماذج المثلى للتسامح في بعض الدوائر الصوفية والفلسفية و الدينية، ولكنها ، في رأيه ظلّت أصواتا خافتة تترد في فضاءات ضيقة، ولم تتسع لتشمل كل مؤسسات المجتمع الإسلامي، ما يؤكد أن هناك هوة سحيقة بين النص المقدس الذي يمثل البذور الأولى لفكرة التسامح، وبين الواقع الذي غلبت عليه البنى الاجتماعية السائدة وأطر الفكر المهيمنة[25].
إن التسامح كممارسة فعلية يتطلب ـ حسب أركون ـ وجود مجتمع مدنيٍّ يكفل حرية التعبير عن موقف فكري ومذهبي مخالف. وهذا ما كان غائبا في كل العصر الوسيط مسيحياً كان أو إسلامياً.
وعليه فإنه ليس بمجرد سرد النصوص الدينية يتحقق التسامح في المجتمعات الإسلامية التي مرت بعصور انحطاط حالكة، بل إنه ـ كقيمة حداثية ـ لا يتحقق إلا بشرطين هما: الإرادة الفردية، والإرادة الجماعية على مستوى السلطة السياسية[26].
وفي مقابل هذا الطرح الأركوني يذهب المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1936-2010م) إلى أن مفهوم التسامح كان متأصلا بالفعل لدى الجيل الأول من المثقفين في الإسلام، ويعني بهم فرقتيْ المرجئة والقدرية «الذين كانت أفكارهم تدور حول محورين رئيسيين: التسامح من جهة ، والتأكيد على حرية الإنسان من جهة ثانية» [27].
ففي خضم الصراع بين الإمام علي -كرم الله وجهه- و بين الخليفة معاوية -رضي الله عنه-،اعتزلت جماعة من المسلمين (المرجئة والقدرية) هذا الصراع، وقالت بفصل الإيمان عن العمل، وعدم تكفير أي واحد من المتصارعين، خلافا لجماعة الخوارج التي تطرفت وحكمت بالتكفير انطلاقا من ربط الإيمان بالعمل.
ومن بين الشخصيات المتسامحة ضمن هذا الاتجاه- فيما يرى الجابري- الفقيه الأكبر أبو حنيفة (80-150هـ)الذي نُقل عنه قوله: « لا نكفّر أحدا بذنب ولا ننفي أحدا من الإيمان»[28]. ومن هذا المنطلق دافع الجيل الأول من المثقفين في الحضارة العربية الإسلامية عن مفهوم الإيمان كمفهوم " ليبرالي" قائم على الاعتدال والتسامح.
ليس هذا فحسب، بل إنه إذا أردنا – حسب الجابري- إعطاء مفهومِ التسامح معنًى عامّا شموليا يرتفع به إلى مستوى المفاهيم الفلسفية،فعلينا أن نحمّله ذلك المعنى القوي الذي عبّر به ابن رشد ( 525-595هـ ) عن احترام الحق في الاختلاف والذي صاغه في عبارته الشهيرة « من العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه» [29].
وبناء على هذا يجب تبيئة مفهوم التسامح في ثقافتنا المعاصرةكما ظهر في التراث الإسلامي من خلال مفهومي الاجتهاد والعدل، خاصة هذا الأخير(العدل) كما ورد استعماله عند المعتزلة وابن رشد[30].
وهكذا ينتهي الجابري إلى ضرورة إعادة بناء مفهوم التسامح بالصورة التي تجعله يعبر -داخل الثقافة العربية- عن ذات المعنى الذي أُعطي له داخل الفكر الأوربي. وهو بهذه النتيجة يضع أطروحته في تعارض تام مع أطروحة محمد أركون.
غير أن الجابري، وإن كان أكثر اعتدالا من أركون في هذه المسألة، حيث أكد على وجود التسامح في التراث العربي الإسلامي - وهي ميزة تحسب له- إلا أنه حصرها في قطاع ضيق، وغفل عن وجودها في قطاع معروف من التراث الإسلامي وهو التصوف.
ونعتقد أن هذا الإغفال كان متعمَّدا من طرفه لعدائه الأيدلوجي المعروف للتصوف[31]. وسيتضح لنا في المبحث اللاحق مدى أهمية هذا القطاع العرفاني -كمجال ثقافي وديني- ظهر فيه التسامح بشكل لافت لا ينكره إلا جحود.
2- التأسيس العرفاني لثقافة التسامح:
تتأسس ثقافة التسامح عند الصوفية، على موقف أنطولوجي عميق يتعلق بنظرية وحدة الوجود. فهم يقرّون أن ما ثمّة في الوجود إلا الله وأسماؤه[32].
فالغير (أي السوى) فلا وجود له على الإطلاق. لأن مجرد الإقرار بوجود سوى الله(=غير الله) معناه الإقرار بوجودين اثنين هما: وجود الله من جهة، ووجود سواه من جهة ثانية، وهذا التصور يؤدي إلى مشكلة الإثنينية الوجودية التي اعتبرها الصوفية شركا منافيا للتوحيد الخالص.
إن الحقيقة الوجودية التي ينطلق منها الصوفية هي أن الموجود الحقيقي، هو القائم بنفسه، والقائم بنفسه هو الذي لو قُدّر عدمُ غيره بقي موجودا، فإن كان مع قيامه بنفسه يقوم بوجوده ووجود غيره، فهو قيّوم. ولا قيوم إلا هو سبحانه وتعالى. فإذن ليس في الوجود غير الحيّ القيوم الواحد الصمد[33].
وتفصيل ما سبق، أن الوجود في نظر الصوفية واحد لكنه يتمظهر في صورتين:
أ.الوجود الحقيقي:وهو وجود الله سبحانه وتعالى الحي القيوم الغني الباقي[34].
ب. الوجود المجازي: وهو وجود جميع الكائنات من حيث أنها وُجدت بإيجاد الله تعالى لها[35]. فهي موجودة بغيرها لا بذاتها، وتستمد وجودها منه تعالى لا من ذاتها.
وبناء عليه فما ثمّة إلا وحدة وجودية، أو قُلْ وجود واحد، وهو(أي الوجود) للقديم (الله) وجود بالذات، وللحادث(العالَم) وجود بالغير[36].
غير أن الناس متفاوتون في إدراك هذه المشاهد التوحيدية بحسب مراتبهم في المعرفة:
- فمن الناس من يشهد الكثرة الوجودية فقط: وهذا مشهد الناظرين إلى الخلق، الغافلين عن شهود الحق. فلا يشهدون إلا الكثرة، ولا يرون إلا الخلق[37]. و يُسمّى هذا المقام في الاصطلاح الصوفي بـ مقام الفرق الأول بحيث يحتجب صاحبه بالخلق عن الحق[38]. وأغلب الناس منحصرون في هذا المقام.
- ومن الناس من يترقى إلى الوحدة الشهودية: فيفنى في شهود الحق(الله) ويغيب عن شهود الخلق(الكون)[39]. ويسمي الصوفية هذا المقام مقام الجمع[40].
- ومن العارفين من يشهد الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة: وهذا أكمل مقام يبلغه الصوفي، بحيث يشهد وحدة الحق متجلية في كثرة مخلوقاته، ويشهد في الوقت نفسه تلك الكثرة صادرة من الوحدة الأصلية و راجعة إليها. وهذا المقام يسمى عند القوم بـ مقام البقاء بعد الفناء، أو مقام الفرق بعد الجمع[41]. وفي هذا المقام تتحقق المعرفة الحقيقية، فيتوازن العارف وتعتدل الشريعة عنده مع الحقيقة.
3- دين الحب في التصوف الإسلامي:
دين الحب مقام ذوقي يبلغه العارفون فيشهدون بعين الحقيقة أن الله عز وجل ظاهر متجلٍّ في كل شيء بصفاته وأسمائه ، فيُسلِّمون لهذه المظاهر، ويحبون الله فيها من هذه الحيثية، إذْ لا ظاهر إلا هو[42].وقد لخّص ابن عربي هذا الأمر، في أبيات من ديوانه ترجمان الأشواق فقال:
« لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبـــان
وبيت لأوثان وكعبة طائـــــــــــف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجـــهت ركائبه فالحب ديني وإيماني»[43].
أماجلال الدين الرومي[44]، فقد ذهب إلى نفس ما ذهب إليه ابن عربي حيث يقول:
» انظرْ إلى العمامة أحكُمها فوق رأسي...
بل انظر إلى زنار زاردشت حول خصري...
فلا تنْأ عني لا تنأ عني...
مسلم أنا ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي...
توكلت عليك أيها الحق الأعلى...
ليس لي سوى معبد واحد...
مسجداً أو كنيسة أو بيت أصنام...
ووجهك الكريم فيه غاية نعمتي...
فلا تنْأ عني، لا تنأ عني»[45].
ولا ينبغي أن نفهم من أشعار ابن عربي أو أشعار جلال الدين الرومي ما فهمه بعض الدارسين من أن الصوفية يدعون إلى وحدة الأديان، والتي يصبح المرء بموجبها متميِّعا غير ملتزم بدين معين، وإنما رمزوا بكلامهم إلى أن العالم صادر عن الله، والمخلوقات ما هي سوى آثاره وتجلياته ومظاهره. وإذا كانت الحقيقة الإلهية واحدة، و لا يوجد خارجها سوى المظاهر التي هي بمثابة أعراض للحقيقة الإلهية، فمن البيِّن أن من يشهد هذه المظاهر الوجودية لا يمكنه أن ينظر إليها إلا بعين التعظيم والمحبة و الرحمة.
وقد لاقت نظرية ابن عربي والرومي وغيرهما من الصوفية، ارتياحاً كبيراً وترحيباً واسعاً بين أوساط المثقفين من غير المسلمين، إلى حدّ أنهم أعجبوا بالتصوف الإسلامي كدعوة إنسانية، وتيار روحي كونيٍ يتسم بروح التسامح والمحبة، فكان لهم ذلك سببا في اعتناق الإسلام.
إن هذه الرؤية التعظيمية والرحيمة، للكون بكل ما فيه، لا تعني إسقاط التكاليف، أو اختراق الشريعة، بحيث يتساوي الكافر والمؤمن، والمحسن والمسيء، بل كل ما في الأمر أن الصوفي يشهد ذوقا أن الكون ما هو إلا مظهر الصفات والأسماء الإلهية، ومجلًى لمشيئة الله وإرادته، فيعظّمه من هذه الحيثية فقط، ثم يأتي دور تحكيم الشريعة التي تقضي بإعطاء المراتب حقها، وهنا يجمع العارف بين الشريعة والحقيقة،فيشهد الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة، أو قلْ يشهد الفرق في الجمع، والجمع في الفرق، وهو مقام الاستقامة.
غير أنما تم الحديث عنه من شهود الوحدة الوجودية، يعتبر عند العارفين من ضمن الحقائق العرفانية السامية، والتي لا تتحقق إلا لأصحاب النهايات ممن خاضوا التجربة الصوفية بكل شروطها، وترقوا في مدارج السلوك من خلال تزكية نفوسهم والسير بها نحو عالم الطهر والصفاء.
والحديث عن تزكية النفس يعني رجوع الإنسان إلى عالم الطفولة الفطرية التي فقدها الإنسان جراء التأثيرات الاجتماعية التي تلقاها عبر مراحل عمره.
وذلك ما ذهب إليه الإمام عبد القادر الجيلاني[46]، -رحمه الله- (470 هـ-561 هـ)حينما أكّد على أن كل إنسان يكتنز في باطنه طفلاً طاهراً يمثّل إنسانيته الفطرية. وهذا الطفل الكامن في القلب الإنساني يدعى طفل المعاني[47]. ورغم أن طفل المعاني هذا، موجود في باطن كل إنسان، إلا أن التحقق به لا يكون إلا للخاصة من الذين سلكوا الطريق الروحي.
ولا شك أن هذه النظرة العميقة للإنسان تدفعنا إلى القول بأن الإمام الجيلاني (قدس الله سره) قد أفصح عن المبادئ الكلية التي دعا إليها بعض الفلاسفة من أن تحقيق الإنسان لكماله الإنساني مرتبط بتحقيق الجانب الروحي فيه، والذي لا يمكن أن يكون من خارج الإنسان وإنما من داخله.
لقد أبدع شيوخ التصوف مناهج التخلّق الإئتماني التي بإمكانها أن تخرج الإنسان من ضيق العنف، إلى سعة اللطف، و من الشعور بمِلكيته لنفسه إلى الشعور بائتمانه عليها (الائتمانية)، ومن شعوره بكونه سيداً إلى شعوره بكونه عبداً لله(العبدية)،ومن شعوره بتفوقه على غيره إلى شعوره بأخوّته لبني جنسه (الإنسانية)، ومن منازعته لغيره إلى منازعته لنفسه(الاعتراضية)، ومن مواجهة العالم بالأوامر إلى مواجهة الناس بالأخلاق (الأخلاقية)، و من النظر الأشيائي إلى النظر الأسمائي [48].
4- الممارسات الصوفية لقيم التسامح:
بعد الحديث عن التأسيس العرفاني والتربوي، لثقافة التسامح عند الصوفية، ننتقل إلى الحديث عن بعض الممارسات اليومية لهذه الثقافة عندهم، متخذين الإمام أحمد الرفاعي[49]- قدس الله سره- كأحد النماذج البارزة.
لقد اشتهر هذا العارف الرباني، بأحوال من الرحمة والشفقة والتسامح مع المخلوقات ما يبهر العقول، فقد كانت تعتريه حالات من التواضع والانكسار لا يرى فيها نفسه إلا عبدا ذليلا، فيخاطب مريديه قائلا: « أيْ سادة، أنا لست بشيخ، لست بمقدّم على هذا الجمع، لست بواعظ، لست بمعلّم، حُشرتُ مع فرعون وهامان إن خطر لي أني شيخ على أحد من خلق الله، إلا أن يتغمدني الله برحمته، فأكون كآحاد المسلمين»[50].
وكان من شدة تواضعه يشعر بأفضلية مريده عليه، فيقول مخاطبا إياه: « أيْ أخي، أنت أحسن مني لحملك ذلّة التلقي، وأنا أخذتني سكرة التعليم»[51].
ولطالما كان يردّد -رحمه الله- :« دخلتُ على الله من كل باب، فرأيتُ على الكلّ ازدحاما عظيما، فجئته من باب الذل والانكسار فرأيته خاليا، فوصلتُ وحصّلتُ على مطلوبي(...) وأعطاني ربي من فضله ومواهبه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من أهل هذا العصر»[52].
إنّ طُرق الوصول إلى الله كثيرة في دائرة الشريعة الإسلامية، ولكن الإمام الرفاعي يقرّ بأنه لم يجد طريقا « أقرب وأوضح أيسر وأصلح وأرجى من طريقي الذل والانكسار»[53]. ولا شك أن هذه المبادئ تتضمن إلى جانب بعدها الأخلاقي، أبعادا إنسانية عميقة المعنى، وذلك أن ما نراه من صراع بين البشر إنما باعثه احتقار الإنسان لأخيه الإنسان، وهذا ما حذر منه الإمام الرفاعي في قوله:« (...) لا تزعم أخا الحجاب[54]، أن أخاك الإنسان الآخر، عبدك بدريهماتك، بوقتك، بحظك، بشأنك، بما أنت فيه من أمرك. هو فوق ذلك، وأنت دون ذلك. كل من ساواك بتركيب الهيكل أو ماثلك بالصورة والنسق فهو أخوك بجنسيتك، وشريكك بآدميتك، لا هو مملوكك، ولا أنت مالكه»[55].
هذا عن أبناء الجنس الواحد من البشر، أما عن الأجناس الأخرى من الكائنات، فليس للإنسان الحق في احتقارها لأن « كل من خالفك بتركيبك فهو ملحَقٌ بجنسه، حقُر أو عظُم، وأنت ملحَق بجنسك. فاعرفْ حدّك»[56].
ومن هذا المنطلق دعا الإمام الرفاعي مريديه إلى أن يوقّروا أصناف الكائنات من ذوات أرواحٍ وجماداتٍ[57]. و لا يقف الحد عند توقيرها فحسب، بل الأمر يتعدى ذلك إلى إيصال النفع إليها قدر الاستطاعة " لقوله -صلى الله عليه-: «الخَلقُ كلهم عيال الله، فأحبُّهم إلى الله أنفعهم لعياله»[58].
هكذا وبهذه اللغة المتسامية، وعلى هذه المبادئ الروحانية، ربّى الإمام الرفاعي مريديه، وكذلك فعل كل شيوخ التصوف قبله وبعده. وإن جاز لنا أن نقيس هذا الخطاب التربوي بالموازين المعاصرة، لوجدناه أعمق بكثير مما تنادي به المواثيق الدولية من احترام حقوق الإنسان والرفق بالحيوان. لأنه خطاب لا ينحصر في حدود الدنيوي أو السياسي - كحال تلك المواثيق - بل إنه يتعداها ليصبح واجبا دينيا، ومطلبا روحيا على المسلم عامة، والصوفي بوجه أخص، أن يَـفيَ به تجاه الكائنات بأكملها.
إن التصوف في بعديه العرفاني والأخلاقي ينأى بطبيعته عن التعصب والعنف والغلو والتطرف، و يتجه اتجاها تسامحياً تتواصل فيه ذات العارف ببارئها وبسائر الكائنات في هذا الوجود في فضاء رحب مفعم بالمحبة والسماحة و التراحم.
وقد جلبت الآفاق الأخلاقية التي ترمي إليها التربية الصوفية، انتباه أكثر المفكرين ممن يبحثون عن دعامات للسلام العالمي، في زمن تعالت فيه نبرات العنف بكل أشكاله.حيث وجد أولئك المفكرون أن أهل التصوف يعيشون قيم التسامح، لا ثرثرة وادّعاءً، بل عقيدة وحالا، في كل لحظة من يومياتهم، حينما يقبَلون بالآخر، ويعترفون بشرعية وجوده،لأنهم ذاقوا عقيدة تعددية التجلّي الإلهي، وهي عقيدة تفضي إلى أن كل موجود ما هو إلا مظهر الأسماء والصفات الإلهية، وجبَ تقديره واحترامه.
ولذا لا نكون مغالين، بعد هذا، إذا قلنا أن التصوف في عصرنا هذا أضحى مطلباً حضارياً لما يتضمنه من زخم فلسفي منفتح على كل مجالات الحياة.
5- استثمار التصوف في نشر ثقافة التسامح:
يمكننا أن نقدم اقتراحات عملية نراها مفيدة كمحاولة لاستثمار القيم الصوفية، والاستفادة منها في حياتنا المعاصرة، لأن مجرد سرد النصوص الصوفية المتعلقة بثقافة التسامح لا يكفي لوحده، مالم يصحبه اجتهاد في توظيف هذه النصوص وإخراجها من متحف التراث إلى دنيا الواقع الاجتماعي الذي نعيشه.
ولذا نعتقد أن هناك مسؤوليتان، إحداهما تقع على المنتسبين للتصوف، وأخرى تقع على عاتق السلطة الرسمية، إن أرادت أن تستفيد من التصوف في تحقيق أمنها وسلامتها.
أ. مسؤولية الدوائر الصوفية:
ü تجاوز مرحلة التبرك الصوفي: فالتصوف مدرسة لصناعة العارفين بالله، وذلك من خلال تدريبهم على جهاد نفوسهم وتزكيتها ابتداء، والوصول بهم إلى معرفة الله انتهاء. وعليه فإن المنتسبين للمدارس الصوفية مُطالبون بأن يفقهوا هذه الحقيقة وينأوا بأنفسهم عن أن يكونوا –بانتسابهم للتصوف- مجرد متبركين أو مترسمين.لأن المجتمع ليس في حاجة إلى كثرة المتكلمين عن التصوف المفتخرين بمحاسنه، بل هو في حاجة إلى من يترجم تعاليم العارفين في معاملاته اليومية وينقل سيرهم حية للناس، ويرشدهم إلى مركز النور الذي وصلوا إليه.
ü تداول النصوص الصوفية: تمتلك الطرق الصوفية ذخيرة معتبرة من النصوص الصوفية شعرا ونثرا، تتعلق بالجوانب التربوية والعرفانية.
تركها شيوخ التصوف عبر التاريخ. و عليه فإن المنتسبين للتصوف مطالبون اليوم أكثر من غيرهم بأن لا يكتفوا من هذه النصوص بمجرد تردادها في جلسات السماع- وإن كان ذلك أمرا مفيدا- بل عليهم زيادة على ذلك بذل الجهد في مدارستها و التفكر فيها وفكّ رموزها، وتحويلها حسب الطاقة إلى سلوكيات، وآليات للرقي العرفاني.
ü إحياء قيم التسامح بين المنتسبين للتصوف: حينما يتكلم المنتسبون للتصوف عن قيم التسامح والقبول بالآخر، وهم أنفسهم متنافرون متخاصمون، سيصبح حديثهم عن تلك القيم مجرد كلام لا معنى له.
وعليه فإن أفضل دعوة للتسامح يمكن أن يخرج بها المنتسبون للتصوف، هي أن يعيشوه حقا في واقعهم اليومي فيما بينهم أولا، قبل أن يطالبوا به غيرهم، وذلك بتجاوز صراعاتهم البينية، وقبول بعضهم على ما هم عليه من اختلافات، وإحياء صلة الرحم الدينية فيما بينهم، حتى يكونوا نماذج نورانية تُحتذى.
ü الابتعاد عن الصراعات الحزبية والمعتركات السياسية: من المعلوم أن السياسة لا تتكلم إلا بلغة المصالح، ولا تعرف للأخلاق معنى، وإنما هي مداراة ونفاق، تلك هي طبيعتها، وهي مناقضة تماما للسلوك الصوفي الذي يشترط الصدق والصفاء.
ولذا فعلى المؤسسة الصوفية أن تتجنب الانخراط في معترك الحياة السياسية، وتحذْر قدر وسعها من أن يتمّ توظيفها لأغراض حزبية، وإلا فإنها ستفقد وهجها الروحي، و تضيّع قداستها الدينية.
*ثانياً: مسؤولية الدوائر الرسمية تجاه المؤسسات الصوفية:
ü مساعدة الطرق الصوفية على تطوير هياكلها المادية:إن الطرق الصوفية هي المؤسسات الوحيدة التي كانت وما تزال تتصدر للتربية الصوفية، وهي وإن كانت تعتمد في تسيير شؤونها على مداخيلها الذاتية، وعلى ما يتفضّل به المحسنون، فإنها تبقى في حاجة دائمة إلى إعانات السلطة الرسمية لتجاوز كثير من الأعباء المتعلقة بمشكلات الترميم والبناء وتسيير شؤون الطلبة وتنظيم التظاهرات الدينية والعلمية. وتبقى هذه الإعانات المادية التي تقدمها السلطة للزوايا مجرد اعتراف بالجميل لما تقدمه هذه المؤسسات للمجتمع من توازنات روحية وأخلاقية.
ü إحياء السياحة الدينية: مفهوم السياحة الدينية مفهوم معاصر يتعلق بنوع من السفر والنظر والزيارة إلى الأماكن الدينية والروحية.
ولقد اهتمت بها دول كثيرة مثل مصر وسوريا والعراق[59]. أما في الجزائر فإن الأمر ما يزال متعثّرا بسبب قلة وعي السلطة بالطاقات التي تزخر بها الطرق الصوفية، دينيا و سياسيا واقتصاديا، رغم دعوات بعض المختصين إلى ذلك.
فمن في الناحية السياسية تعتبر الزوايا أداة دبلوماسية ناجعة تساهم في تنمية العلاقات الدولية بين الجزائر وغيرها من الدول، خاصة دول إفريقيا ودول جنوب شرق آسيا.أما من الناحية الاقتصادية فإنها تساهم في الدعم الاقتصادي للوطن بفضل ما يجلبه السوّاح من عملة صعبة وتنشيطٍ لقطاع الخدمات. وبعيدا عن هذين الجانبين، فإن تشجيع الشباب والنخب العلمية على زيارة هذه المراكز سيدفعهم إلى البحث عن خطاباتها الروحية والتعرف إلى مخزونها الروحي الذي يزخر بالقيم السامية.
ü الاهتمام بالتراث المادي و المعنوي للزوايا :تزخر الزوايا بمخزون هائل من المخطوطات والمؤلفات في مختلف التخصصات العلمية.
ومما يؤسَف له أن هذا التراث ما يزال حبيس الخزانات ولم يُتعرّف إلا على الجانب اليسير منه، فيما يبقى الجانب الأكبر منه معرّضا للتلف والضياع. وعليه فإن من أولى الأوليات في هذه الآونة، وضع إستراتيجية مكينة، لإنقاذ هذه المخطوطات، وذلك بجمعها وتصنيفها وترميمها وتحقيقها، واستثمارها فيما بعد.
هذا عن التراث المادي، أما عن التراث المعنوي فإنه يشمل كل الطقوس الدينية والعادات والتقاليد الجميلة و أنواع الاحتفاليات الدينية. وهذا التراث يجب الاعتناء به أيضا لكونه يمثل سمات الشخصية الدينية للمجتمع الجزائري المميِّزة له عن باقي المجتمعات الأخرى.
ü التعريف بالجهود العلمية والأخلاقية للشخصيات الصوفية: تزخر الزوايا بتاريخ حافل صنعته شخصيات دينية مرموقة من خلال سيرها الذاتية السامية، ومعارفها العلمية الراقية. ومما يؤسف له أن التعتيم على هذه الشخصيات بصورة متعمَّدة، أو غير متعمَّدة، وتشويه تاريخها، أدّى إلى نشأة تيارٍ إنكاريٍّ داخل المجتمع -خاصة في أوساط النخب المثقفة - لا ينظر إلى التصوف وأهله إلا مرتبطا بالدجل والشعوذة والخرافة.
ولذا فإن تنظيم التظاهرات العلمية والندوات حول مسارات رجال التصوف ومآثرهم العلمية، سيساهم دون شك في إزالة تلك التشوهات المعرفية عن العقول، وتعريفها بالحقائق الناصعة لأولئك الرجال، و التي ظلت طوال أزمنة مديدة محجوبة عنها.
ü استثمار النصوص الصوفية في المنظومة التربوية: تعدّ المناهج الدراسية رافدا من الروافد البارزة في تشكيل الوعي لدى طلبة العلم على اختلاف أطوارهم التعليمية. وليس أنفع، لنشر قيم التسامح والرحمة والقبول بالآخر داخل مجتمعاتنا، من إدراج بعض النصوص والقصص الصوفية ذات الصلة بتلك القيم، ضمن المناهج التربوية، مع مراعاة المستويات الدراسية والمراحل العمْرية للتلاميذ.
* الخاتمة:
نخلص في نهاية هذه الدراسة إلى أننا في حاجة ماسة إلى قيم الرحمة والمحبة والتسامح واحترام الآخر وقبول التعدّديات كيفما كانت،خاصة في عصرنا هذا الذي طغت فيه الأصوليات المختلفة، وتنامت فيه أشكال التطرف، واستشرى فيه الاستخفاف بالخصوصيات الثقافية التي تميز شعوب العالم.
ولعله قد تبيّن للقارئ - من خلال ما تمّ تقديمه في هذه الورقة- أن التسامح عند الصوفية لم يكن في لحظة من اللحظات تنظيرا مفارقا للواقع، بل كان أحوالا وممارسات يومية، ارتبطت عند الصوفية، بأصول روحية عميقة الغور.
وعليه فإن الخطاب الصوفي بوصفه خطاباً تسامحياً يمكن أن يكون مصدراً تربوياً وأخلاقياً لمن يريد أن يؤسس لفلسفة التسامح، وأرضية للحوار لمن يبتغي أن ينفتح على الآخر،ومنبرا للدعوة لمن يروم أن يبشر بالإسلام الجميل[60].
ولكنه – مع الأسف الشديد- قُدّم للمثقف المعاصر من طرف مناوئيه وخصومه، تارة في صورة ضلالات وبدع وخرافات تناقض الدين الإسلامي، وتارة في صورة قطاع سلبيٍّ يمثل اللاعقلانية في أبشع صورها، فكان أن مرّ عليه حين من الدهر حُجبت فيه نصوصه، وهمُــــــــّشت فيه مدوناته، وشُوّه فيه رجاله، فأضاعت الثقافة العربية الإسلامية- بسبب تلك الحملات المغرضة- منبعا روحيا دفاّقا كان بإمكانها أن تستثمره في حياتها و تستقي منه قيمها الراقية.
ومع ذلك فإن بعض الدراسات الجادّة سواء الغربية منها أو العربية قد تنبهتْ مؤخرا إلى القيم الحضارية التربوية و الاجتماعية و السياسية،و الفلسفية التي يتضمنها الخطاب الصوفي الإسلامي - في وقتنا الراهن- فراحت تبرز مباهجه، وتظهر مزاياه، الأمر الذي أثمر وعيا جديدا، واهتماما متزايدا بهذا القطاع العرفاني سواء على الصعيد المحلي أو العالمي[61].
وربما تأتي هذه الدراسة ضمن هذا الاتجاه التعريفي بالتصوف، لا لتدّعي أنه وحده يمتلك خلُق التسامح، بل لتلفت الانتباه فقط، إلى أن من يطلب هذا الخلُق سيعثر عليه بامتياز في الدوائر الصوفية، التي يرتبط فيها النظرُ بالعمل، والقولُ بالفعل، والتي لا يوجد بداخلها إلا التسامح والتراحم والمحبة والصفاء.
الهوامش والإحالات:
ªالبراديغم: يعني المثال أو النموذج، وترجع اللفظة إلى الأصل اليوناني Paradeigma.
[1]الفيروزآبادي مجد الدين محمد بن يعقوب، القاموس المحيط، تحقيق مكتب تحقيق التراث، إشراف محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة،ط8،2005م، فصل السين، ص1017.
[2]ابن منظور، لسان العرب، ط6، ص 354 و 356.
[3]الجابري محمد عابد، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ط1، ص20.
[4]عبد الحسين شعبان، فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي، دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 2005، ص ص62، 63.
[5]Edgar Morin, introduction a une politique de l’homme, édition du seuil, paris,1965, p92.
[6]إعلان مبادئ بشأن التسامح صادر و مُوقّع من الدول الأعضاء في اليونسكو، بتاريخ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995.
الرابط:https://tolerance.tavaana.orgt.
وينظر كذلك: عبد الحسين شعبان، قيم التسامح في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، الحوار المتمدن مجلةالكترونية-العدد:2910-2010/2/7-01:04.الرابط :http://www.ahewar.org.
[7]جابر عصفور، عن التسامح، مجلة دبي الثقافية، دبي، العدد 25، يوليو/ 2007.
[8] الجابري محمد عابد، قضايا في الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص 32 (بتصرف).
[9]Edgar Morin, introduction a une politique de l’homme, p92.
[10] القرءان الكريم، سورة: البقرة، الآية: 256.
[11] القرءان الكريم، سورة: الرعد، الآية: 22.
[12] القرءان الكريم، سورة: فصلت، الآية: 34.
[13]أحمد بن حنبل،المسند، تحقيق وتخريج النصوص الشيخ شعيب الأرنؤوط مؤسسة الرسالة، ط1 ،1416هـ .1996، ج6 ص159، رقم الحديث 519.
[14]أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي، سنن أبي داود، تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرون، دار الرسالة العالمية، دمشق، ط1، 2009م. رقم الحديث4941 .
[15]المرجع نفسه، رقم الحديث 4942.
[16]البخاري محمد بن إسماعيل، مختصر صحيح البخاري، شرح وتعليق مصطفى ديب البُغا، دار طوق النجاة، دمشق، 1422هـ، رقم الحديث 6013.
[17]ينظر: بسيوني محمود شريف،الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الثاني، دار الشروق، القاهرة، 2003.
[18] ول ديورانت، قصة الحضارة،ترجمة محمد بدران، دار الجيل للنشر والتوزيع، بيروت،ب ت، الجزء2 ، مجلد 13،ص130.
[19]زيغريد هونكه:مستشرقةألمانيةمعروفة بكتاباتها في مجال الدراسات الدينية، وحصلت على شهادة الدكتوراه عام 1941. تناولت دراسة الأديان بموضوعية وتعرف بإعجابها بالإسلاموالعربيةوذلك بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط ألمانيا حيث ذهبت إلى المغربوعاشت سنتين في طنجة، ثم رجعت إلى ألمانيا واستقرت في بونلتقوم بتأليف كتبها المشهورة عن إنصاف العربوالمسلمينلا سيما الأندلسيين، ما أدى إلى تعرضها إلى حملات استياء في موطنها جعلها تنضم إلى بعض الجمعيات الوطنية الألمانية لكف الأذى عنها.
[20]زيغريد هونكه،شمس العرب تسطع على الغرب، نقله عن الألمانية فاروق بيضون و كمال دسوقي، دار الجيل بيروت، ط8، 1993، ص364.
[21]غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسةهنداويللتعليموالثقافة، القاهرة، 2013، ص 344.
[22]البابا شنودة الثالث،(الخلع أيضـا عنـد الأقبـاط)،جريدة الأهرام، عدد 42113، الثلاثاء 26مارس 2002، 12محرم 1423هــ. الرابط: http://www.ahram.org
[23]عمارة محمد، الإسلام والأقليات، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 2003م، ص21 (بتصرف).
[24]محمد أركون، التسامح واللاتسامح في التراث الإسلامي، مقال ضمن المجلة العربية لحقوق الإنسان، السنة الثالثة، عدد2 أكتوبر 1995، ص10 وص 18.
[25]أركون محمد، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي بيروت، 1995م، الصفحات 112، 113، 115(بتصرف).
[26]المرجع نفسه ، الصفحة نفسها.
[27]الجابري محمد عابد، المثقفون في الحضارة العربية، المنشور ضمن منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995،ص46.
[28]المرجع نفسه، ص47.
[29] الجابري محمد عابد، قضايا في الفكر المعاصر، مرجع سابق، ص31 (تصرف).
[30]انظر:الجابري محمد عابد ، المثقفون في الحضارة العربية، مرجع سابق، ص ص46 و 47.
[30]المرجع نفسه والصفحة نفسها.
[31]ينظر:قويدري الأخضر، التصوف بين الاستقالة والاستنارة...قراءة في مواقف الجابري من التصوف، مجلة الكلمة، تصدر عن منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، بيروت، السنة22 ،2015م، عدد86 ، ص102 وما بعدها.
[32]القاشاني عبد الرزاق، شرح فصوص الحكم، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر. ب ت. الفص اليوسفي، ص138.
[33]الغزالي أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، ب ت. كتاب الصبر الشكر،ج4، ص86.
[34]المرجع نفسه. ص141.
[35]المرجع نفسه، ص138.
[36]النابلسي عبد الغني، إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود، تحقيق سعيد عبد الفتاح، دار الآفاق العربية القاهرة، ط1، 2003م ص61.
[37]القاشاني عبد الرزاق، شرح فصوص الحكم، مرجع سابق، ص143.
[38]القاشاني عبد الرزاق، اصطلاحات الصوفية، تحقيق محمد كمال إبراهيم جعفر، الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة،1971 ص163.
[39]المرجع نفسه، ص163.
[40]القاشاني عبد الرزاق، شرح فصوص الحكم، مرجع سابق، الفص اليوسفي. ص143.
[41]المرجع نفسه والصفحة نفسها.
[42]ينظر : قويدري الأخضر، مشكلة الاتحاد والتعالي في عقيدة الشيخ محي الدين بن عربي، دار نينوى، دمشق2010م، ص119 وما بعدها.
[43]ابن عربي محي الدين، ترجمان الأشواق، اعتنى به عبد الرحمن المصطاوي، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ط1، 2005، ص62.
[44]هو محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي المعروف باسم مولانا جَلَال الدِّين الرُّومي. ولد في بلخ في أفغانستانسنة604 ه شاعر وعالم وفقيه حنفي، و متصوف.أسس طريقة صوفية معروفة باسم المولوية. توفي بقونية بتركيا سنة 672ه. .
[45]ينظر: مولانا جلال الدين الرومي،مثنوي، ترجمة د إبراهيم الدسوقي شتا، مجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002.
[46]عبد القادر الجيلي:أو الجيلاني أو الكيلاني هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، ويعرف أيضا بـ"سلطان الأولياء" وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي، وإليه تنسب الطريقة القادرية الصوفية.
[47]الجيلانيعبد القادر، سر الأسرار ومظهر الأنوار، تحقيق خالد محمد وآخرون، دار السنابل، دمشق، ط3، 1994م، ص ص48، 49.
[48]ينظر: طه عبد الرحمن، سؤل العنف بين الائتمانية والحوارية، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، ط1، 2017. ص150 وما بعدها.
[49]الإمام أحمد الرفاعيمؤسس الطريقة الرفاعية ولد سنة 512 هـ في العراق. كان شافعي المذهب أشعري العقيدة. وكان -رضي الله عنه- يُضرب به المثل في التواضع والانكسار ولين الجانب والتسامح والرحمة بالناس والشفقة عليهم. توفي بأم عبيدة بالبصرة، سنة 578ه.
[50]الرفاعي أحمد، البرهان المؤيد،تحقيق إبراهيم الرفاعي، دار آل الرفاعي، القاهرة، 1998 م،ص20.
[51]المرجع نفسه، ص20.
[52]المرجع نفسه، ص ص91، 92.
[53]الرفاعي أحمد، البرهان المؤيد، مرجع سابق، النظام الخاص لأهل الاختصاص، ص57.
[54]أي المحجوب عن الله.
[55]المرجع نفسه، ص ص، 10، 11.
[56]المرجع نفسه، ص11.
[57]المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[58]المرجع نفسه، ص ص66، 67. وروى الطبراني في معجمه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: « الخلق كلهم عيال الله فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعباده». ينظر: الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد، المعجم الكبير، تحقيق حمدي عبد المجيد، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ج10، حديث رقم 1003.
[59]ليلى مصلوب، السياحة الدينية في الجزائر هل تكون بديلا عن البترول؟، الشروق، بتاريخ الأحد 23 سبتمبر 2018م.https://www.echoroukonline.com.
[60]Bariza Khiari .Le soufisme. Spiritualité et citoyenneté ; fondation pour l’innovation politique. fodapol.org .février 2015.pp40 ; 41.
[61] Éric Geoffroy. L'Islam sera spirituel ou ne sera plus. Edité par Le Seuil, Paris, 2009.
ملاحظة:
قدم هاته الورقة البحثية ضمن أعمال الكتاب الجماعي الموسوم ب: ( الحوار مع الآخر بين الثوابت المرجعية والتنوع الثقافي)
رئيس المشروع الدكتور:بلحبيب بشير – مركز البحث في العلوم الإسلامية بالأغواط- الجزائر، 2019.
التعليقات (0)