تناول الكرسي وانضم إلى طاولتنا دون إذن ، لم يعترض احد من الجالسين ، وكأنهم ينتظرون قدومه ، خاصة وأننا أفرغنا ما بجعبتنا من أخبار ، كما استهلكنا من الشاي أباريق ثلاثة. لم ينتظر مصطفى استواء ضيفنا على كرسيه فمد له كأسا تعلوه عمامة بيضاء من الزبد . وسأله ما الجديد في الساحة التعليمية يا سيد محسن؟.
انبرى صاحبنا وكأنه ينتظر مثل هذا السؤال معرجا على ذكر بعض الإحداث التي سبق أن ناقشناها لكنه أضاف إليها نكهة بأسلوبه المعتاد ما جعل الأعناق تشرئب إليه وكأنها تسمع لأول مرة ..نظرت إلى الطاولة المجاورة فلاحظت بعضهم يسترق السمع ظننته في البداية من رجال المخابرات الذين يتبعثرون في كل مكان، ثم تبين أنهم ممن يدركون قيمة الرجل ويتمنون مجالسته، وكذلك شان غالبية الطاولات فصاحبنا لديه القدرة في الخوض في جميع المواضيع وضليع في فقه المذكرات وخبرة في حل المشاكل التي تطال زملاءه من تعسفات رؤسائهم..
تجاوز العقد الرابع بقليل مظهره لا يوحي بوظيفته بل يخال إليك انه من مدمني العمل في قطاع البناء ملابسه في خصام تاريخي مع وسائل التنظيف . ملامحه قاسية تخفي كآبة مزمنة ومع ذلك تحس بجاذبية في كلامه تعجز عن اكتشاف كنهها . أما عيناه لا تستقران تتحركان في كل اتجاه وكأنه يبحث عن شيء فقده للتو في المقهى..
بدافع الرغبة لمعرفة أكثر بهذا الشخص الذي يحمل ملفا سألته :
- الأخ ينتمي إلى أية نقابة ؟
- انا الله يحفظني ، النقابة طلقتها من زمان . زمان هناك النضال الحقيقي أما اليوم فلا نقابة ولاهم يحزنون . الخوت باعوا الماتش حاول احدهم التدخل فلم يفلح ..استرسل صاحبنا وهو يكيل الاتهام لبعض زملائه الانتهازهين ممن اتخذوا مكاتب النقابة لتحقيق مآربهم الشخصية على حساب المنخرطين...
- ودون سابق إنذار سألني عن النضال في قطاعنا
- النضال نحن لم نعرفه إلا مؤخرا هناك اضرابات ووقفات أنا استجيب فقط للإضراب بينما يتكفلالشباب بالوقفات .أما الوضعية فلا زلت انتظر السماء لتمطر ترقية إلى السلم 11 بعد عقد ونيف في السلم 10
- ابتسم بمكر وهو يقول "الحال من بعضه" اصبر وصابر وانتظر الفرج ممن يوصي بإعطاء الأجير أجرته قبل أن يجف عرقه..
استغل مصطفى انشغال صاحبنا بمشاهدة تسجيل هدف في التلفاز الجانبي
فسأله ما رأيك أسي محسن في الترقية الأخيرة؟
ضحك كثيرا قبل أن يستأنف
- الوزارة عندنا ترقي الموتى عاملة بالمقولة المشهورة " اذكروا أمواتكم بخير " وليس كالترقية أفضل للتذكي..ر
- وما العيب في ذلك فهؤلاء قدموا خدمات كثيرة ومن حق أبنائهم أن يستمتعوا وسينزل ثواب ذلك بردا وسلاما عليه وهو في قبره..
- بلهجة غاضبة لماذا نجد نحن أنفسنا في صراع و منافسة مع الموتى لاحتلال الرتبة الأولى لماذا لم يرقوا في حياتهم ..هؤلاء يجب علينا ان ندعو لهم بالرحمة والغفران لا أن نحس بأنهم يستحوذون على ترتيبنا في اللوائح .كان الأجدر بالوزارة أن ترقيهم بصفة استثنائية .ولكن لا الوزارة ولا (النقابة) فكرت في الأمر..
ولو تمت ترقيتهم قبل وفاتهم أكيد سيستمتعون أكثر بحياتهم ولن يجد مرض السكر والروزماتيزم طريقه إليهم . بل قد يتغاضى عنهم الموت لسنوات. وقد يحقق بعضهم حلمه بالحج إلى بيت الله الحرام او... لكن قلة ذات اليد واليأس من الترقية إضافة إلى طلبات ومشاكل الزوجة والأبناء جعله يؤثر أبناءه بالمبلغ الذي يمكن أن يعالج به نفسه فباغته الموت فاستراح ولم يرح.
ما الفائدة من الترقية التي تأتي مع زحف مرض الرعاش إلى يديك إضافة إلى مرض السكر ونقص النظر و.. هل تستطيع حينئذ الاستمتاع بتلك السيارة التي حلمت بها شابا وقدرت عليها شيخا وأنت عاجز عن قيادتها ..
أراد مصطفى أن يهدي من توتره – احمد الله فالمال ليس كل شيء والصحة أولى
- لا تضحك علي أسي مصطفى المال هو اللى يحمي الصحة .. إذا لم يكن لديك مال لشراء الدواء فقد يقضي عليك اصغر فيروس، ثم انظر إلى الذين رقوا في السنة الماضية وجوههم وضيئة ينضح منها الدم.. بعضهم غير حتى المقهى التي كان يجلس فيها لأنها لا تناسبه
- لا تبالغ أسي محسن فالأرزاق بيد الله ووقتما يحي الخير ينفع وزايدون الوزارة منحتكم بالإضافة إلى الترقية بالاختيار فرصا للترقية بالامتحان المهني
- لا تستفزني أسي مصطفى . بعدما رمونا في زنزانة لعقدين لا امتحان لا متابعة في الجامعة ، وبعدما تكلست عقولنا وتيبست أطرافنا أحدثوا الامتحان المهنى الذي لا ينجح فيه سوى الشباب الذين تخرجوا للتو من الجامعة بينما نحن نركن في الرف لحين تخرجنا من هذه الحياة ،عندها يمكن أن تنالنا لعنة الكوطة في أرذل العمر، وهناك من يمكن أن يستفيد وهو يعبر الصراط المستقيم في اتجاه الجنة أو النار ،عندها لن ينشغل بما هو دنيوي..
- قل لي أسي محسن كم قضيت في السلم العاشر
- لا تذكرني فقد نسيت
- سنساعدك على التذكر ونعد معك إذا شئت
- أكثر من 13 سنة ومثلها في السلم 9 وقريب من التقاعد ومحال أن أصلها أسوة بغالبية الزملاء الذين يدركهم الموت قبل الستين .وحتى إن وصلت فستتكالب علي حينها الأمراض المزمنة التي اشعر من الآن بتباشير ها، وعلي انتظار من له من الأقدمية 36 سنة و33 سنة..
- انك تمزح أسي محسن هل يعقل أن هناك من قضى في العمل 36 سنة
- لا تستغرب يا أخي فمن المرقين مؤخرا من سجل تحت خانة الأقدمية في المنصب 41 سنة وليس معنى هذا انه قضاها في العمل كلها: هذا الشخص تجده قضى بالكثير 28 سنة في العمل الفعلي و سنتان متقاعد والباقي بجوار ربه . مع أن هناك قلة عملوا أكثر من 30 سنة.
فجأة تقدم شخص من صاحبنا فتوجها معا إلى ركن جانبي، واستمرا في حديث لاتصلنا منه سوى حركات أيدي صاحبنا وهو يوضح للآخر... علمت من مصطفى أن لديه مشكل مع مدير المؤسسة ويستشير صاحبنا ليدله على الإجراء المناسب .فهو يعتبر ملجأ لكل متضرر من تعسفات بعض المديرين الذين يحسون أنهم يشغلون كرسيا اكبر من حجمهم ..
التعليقات (0)