منذ عام 1991 والروس يعانون من تدهور مكانة الاتحاد الروسي تدريجياً من وضعية الدولة العظمى والقوة القطبية الثانية، ٳلى دولة عالمثالثية مسلحة نووياً و محكومة من قبل جماعات أشبه بالعصابات، دون سند أخلاقي ودون مجال حيوي خارج المناطق التي يوجد فيها ناطقون بالروسية، مثل روسيا البيضاء ومقاطعات في اوكرانيا وجورجيا.
يأس الروس من العودة ٳلى وضع القوة العظمى جعلهم يلتفون حول رجل المخابرات القوي وذي الصلات الغامضة بمجموعات ضغط ونفوذ سرية. لسان حال الشعب الروسي يقول "ٳن لم تكن لدينا دولة عظمى وقوية فعلى اﻷقل أن يكون لدينا رجل عظيم وقوي...". هذا يفسر السلوك الدموي والمتكبر للرجل وﻷزلامه والذي تعبر عنه باختصار جملة السفير الروسي المتعجرف في مجلس اﻷمن حين خاطب الشيخ حمد قائلاً : "اعرف حدودك فأنت تتحدث ٳلى سفير روسيا العظمى القادرة على محو بلادك من الخريطة...".
روسيا "العظمى" ونخبتها من الشبيحة ماذا بقي لها من مكونات الدولة العظمى غير المفاخرة الفارغة ؟ احتاج الروس لحرب ضروس لاسترداد الشيشان الصغيرة والتي قد يفقدونها لدى أول بادرة ضعف، اضطروا لاجتياح أجزاء من جورجيا التي تطاولت عليهم بغباء. الاقتصاد الروسي أقرب للاقتصاد الريعي النفطي وينتج القليل من المواد المصنعة وليس لديه تفوق تكنولوجي في أي مجال. روسيا العظمى تشتري سفنها الحربية من فرنسا وتقنياتها من كوريا الجنوبية وطائرات دون طيار من ٳسرائيل ! روسيا هذه لا تنتج سوى أسلحة "خردة" لا تصلح لغير القمع الداخلي. ليس لدى روسيا لا اقتصاد ألمانيا القوي ولا حتى الصين، ولا تنوع الهند الثقافي والحضاري. كذلك تفتقد روسيا لدينامية البرازيل و لثراء وتنوع جنوب أفريقيا. مع ذلك كله تحظى روسيا بلقب "الدولة العظمى" ولديها حق نقض "تسلبطت" عليه دون وجه حق بحكم "وراثتها" للاتحاد السوفييتي، أحد المنتصرين في الحرب العالمية الثانية.
الربيع العربي أتى كفرصة لبوتين من أجل أن يعود ٳلى الواجهة الدولية و في نفس الوقت مثلت هذه الثورات تحدياً للسلطة المشخصنة التي يمثلها "بوتين". فلدى نظام الشبيحة في موسكو كل المقومات التي تجعل منه هدفاً مستقبلياً لربيع روسي لا بد له أن يأتي يوماً. مظاهرات المعارضة الروسية في موسكو هي أحد ٳرهاصات هذا الربيع الموعود. من هنا نشأت المصالح المشتركة بين الطاغية الروسي ونظرائه في طهران والمنطقة العربية و رغبة "بوتين" وزمرته في ٳغراق الربيع العربي بالدماء لتخويف شعبه قبل غيره من الفوضى والدمار.
بعدما قام الجيش التونسي، ثم المصري بحقن دماء شعوبهم، ظن مهووس ليبيا أن في مقدوره التذاكي على شعبه. في ليبيا، لعب الروس دوراً قذراً شاركهم فيه الصينيون وحتى التاجر التركي الذي أراد أن يتشاطر. لو كان الروس أوضحوا منذ البداية لطاغية ليبيا أنه سينتهي في المجاري ٳن هو استمر في غيه، لربما كان هذا اﻷخير قبل الوساطة الجنوب أفريقية ورحل مع حريمه وجزء من أمواله. لكن الروس أرادوا دخول "البازار" الليبي على أقل من مهلهم.
حين أدرك الروس أن الأوربيين سيتدخلون مع أو بدون قرار من مجلس اﻷمن المشلول، امتنعوا عن استعمال حق الفيتو "الرهيب" الذي يتمتعون به والمخاطرة بامتهان هذا الحق وخفض قيمته. ما كان الفيتو سيغير في اﻷمر شيئاً بعدما قرر الفرنسيون والبريطانيون ٳرسال القذافي ٳلى مزبلة التاريخ.
الفرنسيون والبريطانيون قطعوا الطريق على "بازار الدم" الروسي وتدخلوا في ليبيا ﻹنقاذ شعبها من القتل ثم اضطر الرئيس اﻷسمر القاعد سعيداً في البيت اﻷبيض للحاق بحليفيه المتحمسين للخلاص من مجنون طرابلس، قبل أن يفوته القطار.
اعتبر الروس أن "امتناعهم" عن استعمال الفيتو سيضمن لهم جزءاً من الكعكة الليبية، لكنهم تعلموا بعدها أن لا جوائز تعطى مجاناً لمصاصي الدماء مثلهم وأن الشعب الليبي والعربي لا يعتبر الامتناع عن استعمال الفيتو "حسنة" تستوجب المكافأة. اتجه الليبيون صوب من قدم العون لتحريرهم ضاربين عرض الحائط باحتجاجات موسكو وأمثالها من المرابين.
في سوريا، وازن الثنائي "بوتين" و"مدفيديف" خياراتهما : استعمال الفيتو والدخول في لعبة الموت السورية والحصول على مرابح اقتصادية سريعة ولو قذرة، أو التصرف كدولة مسؤولة تحترم حق الشعوب في الحياة والحرية. لم تكن هناك مخاطرة في استعمال الفيتو، فالقادرون على التدخل في سوريا والقفز فوق الفيتو هما أمريكا وٳسرائيل حصراً.
أمريكا لديها رئيس بائس يحلم بالبقاء في البيت اﻷبيض، ولو على بساط من الدم السوري، ولا يريد تحمل مسؤولياته كرئيس للدولة اﻷعظم وكمرجع أخلاقي وٳنساني. الرجل خرج فاراً من العراق تاركا البلد يسقط في الحضن اﻹيراني، وهو يهرول للانسحاب من المستنقع اﻷفغاني ولو أدى ذلك لعودة طالبان و "كأنك يا زيد ما غزيت...". الرئيس اﻷسمر ليس في وارد التفكير في أي شئ غير قضاء السنوات اﻷربعة المقبلة في حضن البيت اﻷبيض الوثير وليذهب السوريون والقيم اﻹنسانية ٳلى الجحيم.
ٳسرائيل لن تتدخل في سوريا، ولماذا تتدخل وهي التي حمت اﻷسد ونظامه منذ 1966 ؟ صحيح أن المسلمين هم الذين حموا اليهود من الانقراض خلال العصور الوسطى في أوربا وخاصة في ٳسبانيا ولكن من قال أن الدولة العنصرية في ٳسرائيل مستعدة لتحريك ظفرها لحماية السوريين العزل الذين تدكهم الآلة العسكرية "لرجلها في دمشق" ؟ المثال الفيتنامي في كمبوديا يبعد سنوات ضوئية عن النخبة الحاكمة في "تل أبيب".
على العكس، استفادت ٳسرائيل من مجازر اﻷسد لكي تظهر نفسها، واحتلالها، على أنهما أرحم بما لا يقاس من نظام اﻷسد "الوطني" ! وهي لا تمانع في أن ينقرض السوريون على يد اﻷسد. بالفعل، فاﻷسد يقتل يوميا من السوريين الأبرياء ضعفي ما كانت تقتله ٳسرائيل من الفلسطينيين خلال الانتفاضة في شهر....
ما الذي يمنع "بوتين" ٳذا من طرح الفيتو في البازار بل ومن رفع سعره والمزاودة عليه ما دامت الدماء التي تسفك هي دماء عربية ومسلمة لا يبالي بها السيد "بوتين" وزبانيته ؟
أكثر من ذلك، لماذا لا يستمر الروس في بيع أسلحة لا تصلح سوى لقتل المدنيين ٳلى نظام اﻷسد مادام هذا اﻷخير يدفع نقداً وما دام الكفيل اﻹيراني جاهزاً للسداد ؟ حتى لو هُزم نظام اﻷسد في دمشق فسيكون الباقون من زبانيته في حاجة للحماية وهم سيدفعون ثمنها نقداً خاصة حين يضطر أتباع "الطائفة الكريمة" للجوء ٳلى دويلتهم الموعودة والتي هي قيد اﻹنشاء. هكذا تضمن موسكو موطئ قدم على شواطئ المتوسط وتحافظ على أوراق للمقايضة المستقبلية حين تقرر واشنطن التفاوض مع سيد الكرملين.
لماذا تغير موسكو موقفها في حين ينأى العرب والمسلمون بأنفسهم عن معاناة الشعب السوري ؟ حين يكتفي أكثرهم بالدعاء للشعب السوري بالنصر وبذرف الدموع على الضحايا دون تحريك أنملة نصراً لشعب سوري يُذبح ؟
الحق يقال، فبوتين قد وجد "باب رزق" في الثورة السورية يسمح له باللعب في الوقت المستقطع اﻷمريكي، ربما بانتظار رئيس أكثر أخلاقية وحزماً من الرئيس اوباما. في هذه اﻷثناء يكسب "بوتين" صفقات سلاح لم يعد هناك ما يكفي من الطغاة لشرائه، كل هذا بكلفة ضئيلة أو غير موجودة، فالدم السوري رخيص على الجميع، سوى السوريين، وهؤلاء لا يدخلون في حساب شبيح موسكو اﻷول ولا في حساب "العالم الحر".
في النهاية، يلعب "بوتين" نفس اللعبة التي لعبها قبله الكثيرون من الطغاة الصغار، فاقدي اﻷخلاق والقيم، من موسوليني حتى جمال عبد الناصر، ممن اعتبروا السياسة امتداداً لنرجسيتهم اللا محدودة، هكذا تتضاءل اﻷخلاق والقيم وتكبر اﻷنا.
بوتين ليس كبيراً، فرجال السياسة يكبرون بأخلاقهم وبالتزامهم بقيم الحضارة واﻹنسانية، هكذا كان رجال مثل تشرشل وديغول كباراً حين صغرت "اﻷنا" لديهم وأصبح آخرون صغاراً رغم كل مظاهر العظمة والأبهة التي تحيط بهم.
كلما بدا "بوتين" كبيراً كلما بدت روسيا صغيرة وبعيدة عن روحها الحقة. ليست روسيا وحدها التي تبدو صغيرة، مثلها، يبدو الرجل المفترض به أنه اﻷقوى في العالم والمؤتمن على مصائر البشر واﻷخلاق في البيت اﻷبيض صغيراً بل ويزداد صغراً كلما اقترب من لحظة الحقيقة، اللحظة التي يختار فيها أن يدخل التاريخ كرئيس أخلاقي وٳنساني، أو كمجرد شاغل جديد، وصولي و متبلد المشاعر، لبيت أبيض كل ما فيه أسود، أسود سواد أعلام القاعدة الحالمة بالجهاد في أرض الشام، وسواد حزن السوريين وهم يقولون "ياالله ما لنا غيرك يا الله...".
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog ahmadshami29@yahoo.com
نشرت في بيروت اوبسرفر الخميس 14 حزيران 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=77865:chami&catid=39:features
التعليقات (0)