مواضيع اليوم

بشير شريف البرغوثي يكتب عن رواية باسم سكجها " انا ... و لكن "

بشير شريف البرغوثي

2014-09-12 10:59:44

0

 "أنا ... ولكن": رائعة باسم سكجها

 

علامة بارزة في إبداع السيرة الروائية

إنه نص سردي مدهش، ولا يمكن أن أكون محايداً، فالنص ليس دعوة إلى النقد، ولا إلى التذوق ولا إلى القراءة، بل إنه قبل كل ما سبق وبعده دعوة إلى المواجهة، وإلى شرف المشاركة في المواجهة في صراع بقاء وإحلال يخوضه الشعب الفلسطيني منذ عقود. فالنص هنا ينتمي إلى الأدب التفاعلي في ثنايا سطوره حيث يجد كل فلسطيني شيئاً من نفسه وتاريخه ومعاناته، ويجد القارئ نفسه واقفاً أمام كل فكرة وقفة تأمل ليبدي إعجاباً، أو يتأمل، أو ليسأل نفسه في اللحظة الحاسمة: "وأين أنا وأين دوري؟"... وهكذا يحسم باسم سكجها مسألة الدور الوظيفي للعمل الأدبي من أول سطر في الإهداء... فالمستهدفون بالنص قائمة طويلة عريضة من المحكومين سلفاً بالتشرد والاستقرار المؤقت، ممن يعيشون الحياة بكل تقاطعاتها وامتداداتها طولاً وعرضاً. إنه التطهير والتحفيز معاً، وهل للأدب دور أهم من هذا من لدن أرسطو وحتى أيامنا؟

وهنا تبرز مشكلة، وهي أن نصاً إبداعياً يحمل رسالة بهذا العمق والاتساع لا يمكن أن يخضع لقوالب مسبقة الصنع، فلا شخصية الكاتب على امتدادها، ولا تاريخ العائلة يسمح له بالانصهار في أي قالب، كيف وأجداده هم من يقولبون الذهب ويصوغونه.... لذلك سيظل النص وصاحب النص عصيّين على الخضوع لنمطية وتقليدية ما نسميه تجاوزاً بالنقد الأدبي الحديث في عالمنا العربي.

ولقد ذكرني هذا الاستقصاء على القوالب بما دار بين المرحومين إحسان عباس وغسان كنفاني حين قدم غسان روايته "رجال في الشمس" إلى الدكتور إحسان، وبعد أيام، تقابل الرجلان، وصرح الدكتور إحسان لغسان "إنها رواية واقعية آسرة خلابة تنشب أظفارها في وجه القارئ فلا يستطيع منها فكاكاً إلى أن يأتي عليها"... ولكن د. إحسان ألمح لغسان بأنه لا شيء من الرمزية في الرواية، فهي "واقعية تماماً".... ويقول د. إحسان أنه عاد إلى قراءة العمل مرة أخرى بتأنٍ وتؤدة كي تدهشه عبقرية غسان في خلق نص رمزي متكامل من ألفه إلى يائه في إطار واقعي تماماً. نظرة خجولة – ولكنها واثقة – حملت احتجاجاً ما من غسان، جعلت د. إحسان عباس يعيد القراءة. وأكاد ألمح هذه النظرة في عين باسم على غلاف كتابه، وكأنها أيضاً دعوة إلى كل النقاد الذين سيقرأون العمل كي يعيدوا القراءة مرة أخرى قبل أن يتعجلوا في إصدار الأحكام المسبقة الصنع.

أنا واثق أن باسم سيلتقي غسان على مائدة هذه الحالة الإبداعية... ويظل علينا أن نعثر على ناقد يشاركهما جولة الإبداع ولحظة الكشف أو قدح الزناد.

وفي هذا العمل، يرفض باسم إلا أن يضيف سجية أخرى، وصحبة أخرى من المبدعين في جموحه نحو الموت... "وليس لدي سوى القليل من الوقت، فالعمر يداهمني كما سيارة إسعاف على شارع مزدحم ... يترفق سائقها هنا، ويصارع هناك، ليصل في آخر الأمر بهذا الجسد إلى لحظة الحياة، لحظة الدنيا على رأي أخي مؤنس الرزاز". إنه العمل الإبداعي تحت مطرقة الحاجة إلى إنهاء المهمة في أسرع وقت ممكن، كيف لا وسيف الموت معلق في سقف السماء بشعرة واهية فوق العنق مباشرة؟ هنا يختار باسم رفيقة بالاسم: إنه مؤنس الرزاز. وأقول : بل سيكون هناك آخرون يا باسم... سيكون غسان ومتشردون مثل علي فودة، وربما غالب هلسا، ومن المؤكد أن أبو القاسم الشابي سيترأس الاجتماع. وسيأتي تيسير السبول ليشهد حرارة دمه في نصك، ولا أظن بدر عبد الحق يفوت فرصة الاستمتاع برشاقة أسلوبه وهو يمعن النظر فيها وقد طورها باسم حتى صارت قادرة على اجتياز حواجز المحلية نحو آفاق العالمية الرحبة.

وهنا مزيج فريد... لقد جمع باسم في عمله "أنا ... ولكن" بين رشاقة الأسلوب الصحفي التي تقتضيها حكماً حالة الجموح والسرعة والرغبة في إنهاء المهمة، وبين حبكة نص سردي متعدد الأبعاد من حيث الزمان والمكان بكل ما تتطلبه مثل هذه الحبكة من أناة .... وتؤدة في رص مداميك رواية بشكل هندسي محوسب منذ أن تخلق كفكرة في ذهن الكاتب.

هذا التصميم المسبق على ما غير مثال سابق يتجلى في بناء سردي ذي عشرة أبواب تتناسب ورحابة المواجهة التي تمتد مكانياً من فلسطين القلب، وحتى أمريكا غرباً، ولا تنتهي بالعراق شرقاً، وتمتد زماناً من اللحظة الراهنة إلى القرن الثامن عشر. وليس ثمة شك في أن هذه المساحة الواسعة تحتاج حرفية عالية في فن الحفر المعرفي – على رأي ميشيل فوكو – وتحتاج أيضاً إلى الإمساك بناصية اللغة على مستوى الخطاب العام للنص وعلى مستوى جماليات اللغة في آن معاً. ولا يجد القارئ المشارك أي قدر من الاختلاف في الأسلوب، ولا حتى في حرارة التدفق العاطفي والمعرفي طيلة فترة حله و ترحاله مع النص .

كيف استطاع باسم أن يجمع في إطار واحد  بين جموح الرغبة في الانتهاء من المهمة بأسرع وقت، وهذه الدقة في تماسك النص على مستوى الفكرة – والعاطفة – والجملة والكلمة دون أي اختلال. ودون أن يشعر القارئ ولو لحظة أن الكاتب ارتقى علواً، أو استراح قليلاً، أو بدأت كلماته تلهث وراء أفكاره .؟... إنه ثبات وتماسك أسطوري في المعنى والمبنى يدل على أن كل شيء معدّ منذ البداية  بعناية بالغة وضمن تصميم إبداعي من طراز رفيع. ولا يختل توازن البنيان السردي، ولا إيقاع نبض الكاتب، حتى وهو يخوض معركة التداعي الحر المفتوح على مصاريع الروح والعقل والقلب معاً في وادي عربة، ويعود تسعين سنة إلى الوراء، ثم يقفز بالقارئ من الاردن  إلى مصر مراوحا  بين رفض حالة الإحلال – إحلال الإسرائيلي محل الفلسطيني في الوجدان وفي المكان – وبين حالة القرف من لحظة وادي عربة كنتيجة منطقية لحصاد تسعين سنة من أفعال جنيناها على أنفسنا وأولادنا ... كل ذلك  في لحظات مكثفة من الانكشاف القاهر في وهج الشمس بلا اي آايات دفاع  سوى "براغماتية" مصطفى أبو لبدة والقبول "بتلبيس الطواقي".... وهنا يظل التماسك سيد الموقف ويظل الكاتب مطلق السيطرة على فضاء النص والفكرة حتى عندما يتغلغل في أعماق اللاوعي الفردي له وفي اللاوعي الجمعي لشعبه الذي يتقمصه.

والبطل هنا يظل محافظاً على طابعه الفريد .... فلا هو بالبطل الأمريكي – السوبرمان- المنتصر دوماً، ولا هو من أبطال تشيكوف المهزومين دوماً، وليس أيضاً بطلاً إلهاً كما في الأعمال اليونانية، إنما هو بطل "واقعي" تماماً يجسد واقعية النص، حتى عندما تكون هذه الواقعية توثيقاً مباشراً لحادثة أو واقعة أو وقيعة أو وثيقة، ويظل للقارئ بعد ذلك أن يضفي البعد الرمزي الذي قد يراه اجتهاداً منه لشخصية البطل.

مرة أخرى، أقسم يا باسم أنني حاولت أن أكون محايداً، بكل ما يعنيه شرف المحاولة، ولكنني لا أملك إلا أن اقول إنه نص مدهش متميز سيكون له صداه ولو بعد حين.

 

بشير شريف البرغوثي

01/ 02/ 2013

عمان




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات