اﻷسد و العقيد والقارة العجوز
خطاب النصر الذي ألقاه الرئيس "اوباما" بمناسبة زوال حكم العقيد الليبي يبدو تطبيقاً للقول السائر "ٳن لم يكن ما تريد فأرد ما يكون". الرئيس اﻷمريكي أراد أن يظهر كالمنتصر في حرب لم يكن له فيها دور حاسم، لا في ٳشعالها و لا في خواتيمها. صحيح أن الطائرة الوحيدة التي سقطت في ليبيا، لعطل فني، كانت أمريكية، لكن مشاركة العم سام في المعارك كانت أقرب ٳلى رفع العتب منها ٳلى التنطع لدور القيادة و الحسم.
في عز المعمعة قرر اوباما سحب طائراته دون طيار و قسم كبير من سلاحه الجوي في ما يشبه "الحرد" ﻷن اﻷوربيين هونوا من أهمية مشاركة اﻷسطول السادس في العمليات، و حين عاود اﻷمريكيون تسليم القنابل لحلفائهم البريطانيين و الفرنسيين، كانت نتيجة الحرب قد أصبحت، عملياً، محسومة لصالح الثوار و قوات التحالف.
كيف تقهقرت القوة اﻷمريكية ٳلى هذا الدرك؟ ولماذا يحتاج اوباما ٳلى السطو على نصر ليس من نصيبه، بل يعود الفضل فيه لثعلب فرنسا، ساركوزي و لرئيس وزراء بريطانيا، دافيد كاميرون؟
أصبح بعيداً زمن القوة اﻷمريكية المطلقة، حين كان "ايزنهاور" قادراً على و ضع حد لعدوان ثلاثي على مصر الناصرية بمجرد ٳبداء سخطه من هذا العدوان. بعيد أيضاً الزمن الذي كان يقدر فيه رونالد ريغان أن يهاتف بيغن و شارون ويأمرهما بوقف قصف بيروت عام 1982. اليوم، يأتي أوباما ليدس نفسه بين "آباء النصر الكثر" دون أن تكون له الكلمة الفصل.
سر هذا الضعف اﻷمريكي ينبغي البحث عنه في مغامرات "بوش الصغير" العسكرية المكلفة، و التي انتهت كلها بالخسارة. أوباما جاء لوضع حد لهذه الحروب العبثية التي دمرت الاقتصاد اﻷمريكي لصالح جيوب المحافظين الجدد و الصناعات العسكرية اﻷمريكية.
لم يكن يدور بخلد عقيد ليبيا حين نصب خيمته في باريس عام 2007 و لقي فيها استقبال الفاتحين، أن نهايته ستكون علي يد مضيفه الفرنسي. ساركوزي ذهب ٳلى حد توبيخ وزيرته لحقوق اﻹنسان ﻷنها لم تشارك في بسط السجادة الحمراء للعقيد الذي كان يحتجز حينها خمس ممرضات بلغاريات و طبيباً مصرياً للمقايضة بهم. الرئيس الفرنسي كان يأمل ببيع طائرات رافال للعقيد، ذات الطائرات التي ستدك، بعد أربعة أعوام، معاقل كتائب القذافي.
هل كانت اﻷمور ستسير بطريقة مختلفة لو كان العقيد اشترى تلك الطائرات بملياري دولار؟ لا أحد يعلم. المهم أن فرنسا خرجت من مولد العقيد "بلا حمّص" و بصفقات تافهة. القذافي، ككل طاغية يحترم نفسه، منح أفضل العقود "ﻷعدائه" اﻷمريكيين اتقاء لشرّهم، و أرضى الانجليز ببعض الفتات، مثلهم مثل صديقه برلوسكوني.
العقيد ظن أنه حين يرضي العم سام، فٳن الباقين لن يكون لهم حول و لا قوة، و لعله اعتقد أنه أقوى من أن تهدده قوى عسكرية محدودة، كالقوة الفرنسية، و لعله صدّق أن "شعبه يحبه و يحميه".
الفرنسيون "ناموا على الضيم" و استفاقوا على وقع الربيع العربي. ساركوزي كان أول من تلقف الفرصة الذهبية الكامنة في هذا الوضع المتقلب، حين أرسل و زير خارجيته الحاذق "جوبيه" لانتزاع قرار من مجلس اﻷمن بخصوص ليبيا، بعدما كان قد أعد العدة للتدخل.
غرور القذافي و عجرفته أعطيا الفرصة لخلق تحالف فرنسي بريطاني ضده. هذا التحالف عاد ٳلى واجهة اﻷحداث في اوربا، بعد غياب أكثر من نصف قرن، مستغلاً التقهقر اﻷمريكي. هذا الحلف بدأ "بالتفاهم الودي" بين فرنسا و بريطانيا في مطلع القرن العشرين، و بسببه ذاقت منطقتنا اتفاقية "سايكس بيكو" و وعد بلفور.
ليس صدفة أن يكون المتضررون من هذا التفاهم (ايطاليا، تركيا، ألمانيا) الذين خسروا عقودا مجزية في ليبيا، هم أول من انتقد القمع في سوريا فيما بعد، ليس حباً بالسوريين، لكن ﻹحراج تحالف القارة العجوز و فضح ازدواجية معاييره. الروس و الصينيون لهم وضع آخر، فهم مع كل الطغاة أينما كانوا.
ساركوزي و كاميرون أدركا أن عملاً عسكرياً محدود التكلفة، مع وجود "الرافعة" الثورية على اﻷرض، كفيل بتحقيق أرباح هائلة مقابل "استثمار" محدود! بالفعل، كلفت تلك الحرب أقل من ثلاثة مليارات دولار، و هو رقم تافه بكل المقاييس مقارنة بالغزو اﻷمريكي للعراق الذي كلف أكثر من ثلاثة آلاف مليار دولار...
البريطانيون و الفرنسيون لديهم القدرة على الحد من فاعلية كتائب القذافي على اﻷرض، حتى دون الدعم اﻷمريكي، في حين ليس لدى ألمانيا وأيطاليا، ناهيك عن تركيا، القدرة لحسم اﻷمور عسكريا على اﻷرض الليبية. الفرنسيون و حليفهم البريطاني استفادوا من القاعدة الفرنسية في كورسيكا و من القواعد البريطانية في مالطة.
باقي اﻷوربيين، و حتى اﻷتراك، انتهى بهم اﻷمر ٳلى القبول باﻷمر الواقع طمعاً في الحد من خسائرهم. الروس و الصينيون فوجئوا بضخامة أرباح القارة العجوز وأدركوا، لكن متأخرين، فداحة خسارتهم. هذا ما يفسر سرعة امتشاق هذين البلدين للفيتو الكيدي حين تعلق اﻷمر بدماء الشعب السوري، في حين "تفهم" البلدان ضرورة ٳدانة القمع في اليمن، حيث عدد الضحايا أقل بكثير منه في بلاد الشام.
هل سيتدخل "تحالف" القارة العجوز في سوريا بعدما حقق نتائج باهرة في ليبيا؟
يبدو اﻷمر مستبعداً، فليس لفرنسا قواعد قريبة من سوريا و القواعد البريطانية في قبرص يصعب استعمالها دون الحصول على موافقة تركية، خشية زعزعة استقرار قبرص ذاتها و تحريك الحساسيات بين القبارصة اﻷتراك و اليونانيين.
هل بمقدور اﻷسد ٳذاً الاطمئنان ٳلى أنه لن ينتهي مختبئاً في مجرى للصرف الصحي؟ هذا ليس أكيداً.
نجاح فرنسا و بريطانيا في التخلص من العقيد بثمن بخس، و وضع يدهما على ثروات ليبيا عبر بوابة قلوب الليبيين التائقين للحرية، قد يحرك شهية لاعبين آخرين، متوسطي الحجم، لتكرار المغامرة ذاتها في سوريا. تركيا تبدو حالياً اﻷوفر حظاً في الكعكة السورية بحكم القرب و التشابك الثقافي و البشري.
لكن هناك احتمالاً آخر لا بد أنه يشكل صداعاً للحاكم بأمره في دمشق.
صحيح أن اوباما ليس رئيساً قوياً و لا هو مهتم بالدماء السورية التي يهرقها اﻷسد و زبانيته، لكن الرجل ذكي و "يتعلم بسرعة" مثل ساركوزي الذي تعلم سريعاً بعد الصفعة التونسية التي تلقتها وزيرة خارجيته السابقة "اليوت ماري".
ماذا سيحل بأسد الشام ٳن قرر الرئيس اﻷسمر أن يرد له الصاع صاعين، و بثمن بخس، بعد الدعم اﻷسدي للمقاومة السنية العراقية ضد اﻷمريكيين؟ ماذا ٳن تفاهم اوباما مع اردوغان الواقع تحت مطرقة التمرد الكردي المدعوم من نظام اﻷسد؟
هل هي صدفة أن تسحب أمريكا جنودها من العراق على عجل، ربما لكي لا يكونوا رهائن بيد ٳيران و المالكي، حلفاء اﻷسد، ثم تتبع ذلك بسحب سفيرها في دمشق "خوفاً على سلامته"؟
هل ستقبل أمريكا بالخروج، نهائياً، من شرق المتوسط علي يد "عدوها" اﻹيراني و "صديقها" اﻹسرائيلي وكلاهما، للصدفة، حليف لنظام اﻷسد، كل على طريقته؟
المراهنات مفتوحة على كل الاحتمالات، وحده الشعب السوري البطل لا يراهن سوى على نفسه لنيل حريته.
د أحمد الشامي Beirutobserver 27.10.2011
ahmadshami29@yahoo.com
http://www.elaphblog.com/shamblog
التعليقات (0)