الوظيفة الحكومية لا تخلو من وجود بعض المدراء الذين يشكلون عقبة كئود في طريق الانفتاح المعرفي ، بل إن بعضهم يحاول جهده مقاومة التغيير ، وبالطبع هذه النظرة تكون أكثر وضوحاً في المجتمعات البيروقراطية ، أما في تلك الإدارات التي تتقمص لعب دور الإدارة على المكشوف ، فهي في الغالب ترتقي بنفسها وبموظفيها ، وبذلك لا نجد غضاضة في القول بأنها تمتلك أهدافا ورؤى إستراتيجية تجعلها تسير على أرضية صلبة تسير بخطى ثابتة نحو ما ترنو إليه من طموحات ، وبذلك تتحقق لها الآمال والتطلعات .
في الحالة الأولى والتي تكون فيها الإدارة منغلقة على ذاتها منكمشة على قالب جامد واحد لا تحيد عنه نجدها تتعثر كلما سار بها المسير وذلك لكونها لبست ثوباً يخبو عليها ، وبذلك نجد أنها تخسر أكثر مما تكسب ، ليس الخسائر المادية فقط بل إنها تخسر العقول التي تعمل تحت سيطرة القمع والتسلط الإداري ، فنجد شعار الطبقة المظلومة بها " أنا مظلوم ... إذن أنا مجبر " !! .
يتجلى ذلك بوضوح حينما نرى بعض الموظفين الذين يحاولون التَّمرد على هذا النِّظام ، فلا يجدون من ينصفهم ، وبالتالي لا يكتسبون سوى رجع صدى أصواتهم ، فيضطرون إلى الانكفاء على ذاتهم والخضوع والإذعان لمطالب القوة الديكتاتورية التي فرضت نفسها مستمدة هذه القوة من النظام ، هؤلاء الأفراد نجد بعضهم يدخل في دوامة الصراع من أجل البقاء ، وبعضهم الآخر ينزوي على نفسه مستخدما أسلوب جلد الذات .
أسلوب الإقصاء والعزل وحجب الدعم المعنوي أحد الأساليب المهيمنة على هذه الإدارات التي يغلب عليها أسلوب التسلط الإداري ، بل ويُعده علماء الإدارة من أشدها خطراً، لكون المدراء الذين ينتهجون هذا النهج يجردون الإنسان من إنسانيته ، حتى يرى من حوله يبتعدون عنه ، وكأنه مصاب بداء الجرب إلى أن يصل به الحال إلى تدمير الذات بسبب السلبية القاتلة .
علماء النفس بحثوا في هذا المجال حيث أجرى وليام ماير أحد الأطباء النفسانيين دراسة شملت عينة تبلغ ألف جندي أمريكي كانوا معتقلين في المعسكرات الكورية ، وقد اهتم ماير بدراسة الجنود ذوي الحالات النفسية المتردية .
وخلصت نتائج دراسته أنه اكتشف مرضاً يتمثل في أقسى أنواع الإحباط وفقدان الأمل الأمر الذي ينسحب عليه ملاحظة ظاهرة غريبة حيث كان الجنود يطلقون على تلك الحالة داء الاستسلام ، فقد كان الجندي يعمد إلى اعتزال زملاءه ويضرب عن الطعام والكلام حتى يموت ، كل ذلك كان بسبب أساليب كان الجنود الكوريين يقومون بها تتمثل في العزل والإقصاء والوشاية بين الجنود المعتقلين ، وحجب الرسائل التي كانت ترسل إليهم من أقاربهم .
يعود ماير ليسلط الضوء على دور الغضب في تلاشي هذه السلبية القاتلة ويذكر بأن الغضب في مثل هذه الحالات يكون ايجابيا ويؤكد على ضرورة إخراج الغضب من النفس الإنسانية بدافع التنفيس والترويح .
تماماً كما هو الحال عند من يجد في الكتابة مندوحة يستجير بها بغرض الترويح عن نفسه ، وكذلك الحال بالنسبة للشاعر أو من يمارس الرياضة أو من يضرع إلى الله بالدعاء أو الصلاة .
ليس عندي أدنى شك بأن هذا النوع الخطير عندما يمارس من قبل رؤساء الإدارة ( الساديين ) - إن صح التعبير – فإنه بلا مبالغة يهدم القيم النبيلة والمشاعر الايجابية عند من لديهم طموحات وأهداف يسعون لتحقيقها ، وهؤلاء المدراء لا يخرجون عن نوعين من الناس ، الأول إما جاهل لا يرعوي بما ستؤول إليه الأمور بحق من مورست عليه مثل هذه الأساليب ، والآخر لئيمٌ وصل من اللؤم مبلغاً جعله يحترف ممارسة هذه الأساليب بقصد إشباع ساديته بين موظفيه .
والإنسان اللئيم مهما حاول إبطان لؤمه وإخفاءه عن الناس ، لا بد وأن يأتي عليه يوم ويفضحه الله ، حتى لو تستر بستار الفضيلة ، ولقد اهتم الأولون بهذا الشأن ، حتى اهتدوا لعلامات واضحة تكون في اللئيم ، ومنها :
أنهم يحسنون القول ، ويعمدون إلى الحيلة ، مغالين في الحقد ، كثيرو الحسد ، سيئو الفعل ، بعيدون عن الغضب .
وتلك الصفة الأخيرة تقودنا لطرح هذا السؤال : لماذا لا يغضب اللئيم ؟
الإجابة لأنه ببساطة جبان لا يستطيع أن يدفع الشّر عن نفسه سوى بالحيلة والمكر .
ولا أدَّعي علماً بأن هنالك قانون يرفع الأذى عمن ابتلاهم الله بوجود هكذا مدراء يستخدمون النظام في فرض ما تمليه عليهم نفوسهم الضعيفة من سيطرة وتعنّت ، ولكني أتمنى وجود هيئات رقابية ( بحق وحقيق ) تمارس دورها الرقابي على الوجه الأكمل .
التعليقات (0)