ترتعد فرائص البعض من المعارضين السوريين خوفاً على استقلال البلد و على حريته فور الحديث عن أي تدخل خارجي في الشأن السوري. لسان حالهم يقول أن الخارج "لا هم له سوى التربص بالقرار و بالاستقلال السوري ولا يحلم سوى بوضع اليد على خيرات البلاد و الاستفادة من موقعها الاستراتيجي". يخشى هؤلاء أن "تنهار" سياسة الممانعة والصمود وأن ينخرط القطر السوري في عملية السلام الزائفة وأن يضحي بثوابته وهكذا "تضيع" البلاد ضحية المؤامرة الكونية التي لا تهدف سوى للنيل من نظام الصمود اﻷسدي و تأخير جهوده لتحرير الجولان و اسكندرونة و فلسطين و حتى "ما بعد فلسطين" .
حسب فطاحل المعارضة "الوطنية" التدخل الخارجي لن يكتفي بحرمان السوريين من التمتع بخيرات النظام السوري "الاشتراكي" و بكرمه الحاتمي، بل سيفقد السوريون السلامة و اﻷمان أيضاً. أما ثالثة اﻷثافي فالتقسيم لسوريا بحيث يتم حرمان السوريين، ناكري الجميل، من التمتع بنعيم دولة اﻷسد. وحدها الطائفة العلوية ستبقى ترفل في نعيم جنة آل اﻷسد في دولة "أسدية علوية" محضة ستكون محل حسد السوريين المحرومين من خيرات العائلة الحاكمة.
بصراحة، هل من عاقل يقبل هذا الكلام الفارغ ؟ كأن النظام لم يتنازل مسبقاً عن كل استقلالية و لم يرتهن، حتى النخاع، للخارج. من يعتقد أن سوريا دولة مستقلة ذات سيادة يبدو أنه لا يقرأ غير صحيفة تشرين، و لا يتابع سوى التلفزيون السوري و قنوات الشبيحة. كأنه لا يدري أن الجولان محتل منذ ٤٤ عاماً، في حين تحررت سيناء و جنوب لبنان، و كأن الاسكندرون لم تختف من خريطة سوريا، قبل أن تعود، بقدرة أسدية لا تعرف المساءلة ولا العقلانية.
منذ أكثر من ستة أشهر، و رغم غزارة الدماء السورية التي يهرقها جيش اﻷسد دون حساب و "بأريحية" لا تضاهيها سوى ممارسات جيوش الاحتلال البربرية وتليق ببول بوت و بهولاكو، ليس هناك أي علامة تدل على رغبة الخارج في إزعاج آلة القتل اﻷسدية ناهيك عن وقفها. على العكس تماماً، كل التدخلات الخارجية تصب في مصلحة النظام و تهدف لٳدامة تسلطه و لإخفاء قبح ممارساته.
العقوبات، ما لم تندرج في إطار إستراتيجية تصاعدية هادفة لتغيير النظام، لم تسقط يوماً طاغية، و لنا في ذلك مثال "صدام". على العكس، العقوبات ضد النظام، و هي أشبه ما تكون برفع العتب، قد تزيد من تماسك الطغمة الحاكمة و التفافها حول رأس النظام حين تدرك أن مصيرها ومصيره واحد.
دول الجوار كلها، دون استثناء وحتى الساعة، تدعم استمرارية النظام و لا تريد سوى إضعافه و خلق المشاكل له، كي يكف عن إزعاجها وكي تخفض سقف توقعات النظام. وجود نظام فئوي معزول و متهالك في دمشق مصلحة إستراتيجية للجميع عدا الشعب السوري. إسرائيل ستبقى واثقة من موات جبهة الجولان ما عاش الأسد، إيران و حلفاؤها ستزداد أهميتهم بازدياد عزلة السلطة، كذلك تركيا ستضمن مصالحها في المسألة الكردية، كما في القضايا الحدودية و المياه. هذا ما يفسر "مهل" اردوغان" التي لا تنتهي، و"صبره" على مجازر النظام بعدما كان قد أكد أن " لن تكون هناك حماه ثانية". الكل يريد إضعاف النظام "لتربيته" و "لخفض سعره" أو لتحقيق مصالحه الخاصة، هذا بشرط أن لا تتدهور الأمور إلى حرب أهلية مفتوحة تخلط الأوراق الإقليمية.
العرب وجامعتهم الميتة سريرياً منذ عقود، كانوا عند "حسن" الظن بهم، فهم أتوا متأخرين و بمبادرة تليق بالنظام العربي المتحجر وتضمن بقاء بشار حتى 2014. مع ذلك، رفض النظام هذه المبادرة "كأنها لم تكن".
الخليجيون بما فيهم خادم الحرمين، يكتفون بالتنديد و بالدعوة "إلى الحكمة" و ما من سامع. مع ذلك، تستمر آلتهم الإعلامية الجبارة في "مناوشة" النظام ببرامج موجهة حصراً للناطقين بالعربية. صحيح أن هذا الحشد الإعلامي ضروري للثورة و يفيد قضيتها، لكنه غير كاف، فالمطلوب من الخليج إن كان يريد فعلاً دعم الثورة السورية، استخدام نفوذه السياسي والاقتصادي لدعم السوريين المنتفضين بالفعل لا بالقول فقط و وضع إمكاناته الإعلامية في خدمة أهداف الثورة وفضح بربرية النظام. رغم كل الردح الإعلامي، يخشى الخليجيون انتقال عدوى الحرية إلى شعوبهم، لذا يفضلون "أسداً في القفص" و يخشون سوريا حرة و ديمقراطية، مثلهم مثل "مناصري" النظام، في الحساب اﻷخير..
الأنظمة "الثورية" في مصر وتونس ليست وليدة ثورة، بل هي نتيجة انقلاب عسكري ركب موجة الثورة لإجهاضها و لتحقيق مصالح معينة. في حالة مصر، استفاد الجيش من الثورة للتخلص من مبارك و خليفته وﻹدامة نظام مبارك بدون مبارك، في تونس تصرف الجيش بصورة أكثر مسؤولية واضعاً حداً للحراك الشعبي و للثورة لصالح الاستقرار و إصلاح النظام. في هذين البلدين تلاقت مصالح الراغبين بالتغيير مع مصالح الجيش و الخارج و أدت لطرد الطغاة، و إجهاض الثورة. الحالة الليبية أوضح، فقراقوش ليبيا رجل لا يحترم عهداً و لا يستمع لغير نرجسيته وهو ما جعله غير مرغوب به غربياً، رغم خدماته لهذا الغرب. تلاقت مصالح الغرب في وضع اليد على الكعكة الليبية النفطية مع مصالح نخبة ليبية سئمت من خزعبلات القذافي وكان ما نعرف من الغزو الجوي لإسقاط العقيد و لوضع اليد على ثروات ليبيا كي تسهم في إخراج أوربا من الركود عبر عقود بالمليارات وطرد الروس و الصينيين من "حديقة أوربا الخلفية". هو إذاً تلاق للمصالح ً بين "ثوار" ليبيا و الغرب لمنفعة الطرفين، وليس ثورة بمعنى الكلمة.
في سوريا الأمر مختلف، فالجيش السوري المسمى "وطني" لا هم له سوى حماية النظام و المشاركة في حفلة النهب المنظم للبلاد والعباد. من جانب آخر، لا نفط في بلاد الشام و النظام السوري خادم مطيع لسادته و يحترم التزاماته تجاههم، بدلالة خرسه عن كل الإهانات الإسرائيلية و خدمته للسياسات الغربية في المنطقة، رغم تحالفه المنفعي مع إيران. لا تلاق للمصالح إذاً بين الغرب أو الجيش، مع الثوار في الشام، بل على العكس، هناك مواجهة بين شعب أعزل و بين آلة قمع عاتية يأتيها الدعم من كل صوب.
مع ذلك تستمر الثورة السورية رغم التضحيات و هي في طريقها لزلزلة أسس الاستبداد في العالم كله، كل استبداد أينما كان. إنها ببساطة ثورة حقيقية وأصيلة، مثلها مثل الثورات الفرنسية و الإيرانية، ثورة شعب مقموع ضد نظام غاشم. من هنا تأتي عالمية هذه الثورة و تعاطف الشعوب معها، مقابل صمت اﻷنظمة و تواطؤها، كل اﻷنظمة حتى تلك التي تجاهر بدعم الديمقراطية.
الثورة السورية تقاتل وحيدة، بسلمية لافتة، دون سند أو حلفاء، عدواً بربرياً قادماً من مجاهل التاريخ، حاملا لتراث القمع منذ هولاكو و حتى القذافي. النظام السوري أخرج نفسه من التاريخ و من الإنسانية بعنفه و بإجرامه المنفلتين من كل عقال. وحده "بول بوت" ضاهى في همجيته نظام الأسد. كل هذا في ظل صمت مطبق عالمياً، و في تواطؤ مفضوح مع القاتل ضد الضحية. يستوي في هذا التواطؤ اوباما و نتنياهو، اردوغان و أحمدي نجاد، ميدفيديف و ساركوزي، عرب النفط و عرب الفضائيات.
من هذا المنطلق يبدو الفيتو الروسي، و رديفه الصيني، كضرورة للجميع، تريحهم من عناء تبرير تواطؤهم مع الجلاد و تعفيهم من مسؤولياتهم تجاه شعب يتم ذبحه علناً. مصالح روسيا و الصين كانت أكبر في ليبيا منها في سوريا، مع ذلك رضخ الروس والصينيون لقوة الأمر الواقع و انتهى بهم الأمر للاعتراف بالمجلس الليبي الانتقالي و لاستجداء العقود، عبثاً، في ليبيا الجديدة.
منذ عام 2005 تسمح شرعة الأمم المتحدة لمن يرغب بالتدخل لحماية المدنيين أينما كانوا و دون اعتبار لاستقلالية الدول. شرط التدخل هو تعرض المدنيين لخطر الإبادة و عجز دولهم عن حمايتهم، فما بالك إن كانت دولتهم هي التي تبيدهم. التدخل يتم وفق شرعة حق التدخل الإنساني، الناتو وغيره قادرون على التدخل في سوريا لو أرادوا، كما كان الأمر قبلها في ليبيا، دون الحاجة لقرار دولي. في كوسوفو كما في يوغوسلافيا السابقة لم يكن هناك من قرار دولي و لا من يحزنون.
في الحالة السورية، صدور قرار من مجلس الأمن كان سيكون محرجاً للمتخاذلين و سيفضح جشعهم و ازدواج معاييرهم، لذا التزم مجلس الأمن و رئيسه اللبناني صمت القبور حتى آخر أيلول. مع الرئاسة النيجيرية أوائل تشرين الجاري، و بعدما "تأكد" الغرب من الفيتو الروسي على اﻷقل، طرح القرار للتصويت و كان الفيتو و "كفى الله المؤمنين شر القتال". تم طرح القرار حين تيقن الغرب أن عرب الخليج سيكتفون بالنواح الكاذب و بشتم النظام السوري، و أن الصين و روسيا تخشيان من نجاح الربيع العربي في سوريا و من انعكاسات هذا النجاح على نظاميهما القمعيين المشابهين لنظام الأسد، و من خطر أن تنتقل العدوى الديمقراطية "لا سمح الله" ٳلى بلادهم.
رفض المعارضة السورية "الوطنية" للتدخل الخارجي يأتي، إذاً مثله مثل الفيتو، برداً و سلاما على كل المتواطئين و المتخاذلين عن نصرة السوريين و يصب، بعلم المعارضين أو بجهلهم، في مصلحة النظام و حلوله القمعية. النظام من جهته يقبل بكل تدخل خارجي في مصلحته، سواء جاء من إيران في شكل سلاح و أموال، أو من المافيا الروسية الحاكمة، بل حتى من إسرائيل التي تبذل جهداً محموماً لحمايته من أي ضغوط.
في مسألة التدخل الخارجي، النظام لعب كل أوراقه. التدخلات الخارجية تصب كلها في مصلحته، حلفاؤه، وهم كلهم أنظمة، يقدمون له دعماً غير محدود، بشكل مباشر وغير مباشر، توجّه عجز مجلس اﻷمن المبرمج عن مجرد التلويح بٳدانة النظام، و هو ما يمثل قمة التدخل اﻷممي لصالح النظام. كل أعداء الشعب السوري توحدوا في رفض أي تدخل أممي في سوريا، بينهم مع اﻷسف أجزاء من المعارضة السورية.
أين المخرج إذاً و الثورة السورية قد وصلت إلى مرحلة لا عودة بعدها إلى الوراء. الجنود المنشقون و المتظاهرون الذين ذاقوا طعم الحرية "لن يرفعوا التوبة" و يعودوا لقطعاتهم و بيوتهم سالمين، فالنظام المتعجرف أشرس من أن يُصلح حاله أو أن "يعفو عما مضى" كما فعل النظام الجزائري و سيستمر في حربه لإبادة كل رأي حر و كل اختلاف. هؤلاء الثائرون يعلمون أن لا عودة إلى الوراء وأنهم ميتون لا محالة، فلم لا يستشهدون وهم يدافعون عن أرواحهم و كرامتهم؟ من رأى البطل "حسين هرموش" بعد اعتقاله يدرك أنه كان يفضل الموت على الوقوع في أيدي شبيحة الأسد. الشهيد "مشعل التمو" هل كان سيخرج حياً إن اعتقله النظام؟
في المحصلة الأخيرة، شراسة النظام وغباؤه السياسي هما الحليف الأفضل، و ربما الوحيد، للثورة السورية! فهما ضمانة استمرار القمع والقتل، مع ردود الفعل الأكيدة لهذه الممارسات. قمع النظام يغذي الاحتجاجات و يوسّع قاعدة الثورة ويجذّرها. من هذا المنطلق، يبدو الفيتو المشترك الروسي الصيني كهدية مسمومة للنظام، تشجعه على اﻹيغال في القمع، مما يصب في مصلحة عسكرة الثورة و استماتتها في الرد على تصعيد النظام. الأسد يريد إغراق البلاد في أتون الحرب الأهلية والتي ستنتهي بسقوط النظام ولكن بعد تقويض الدولة والمجتمع، لا لشيء إلا لإطالة عمر النظام لبضعة شهور.
هل قضي الأمر إذاً ؟ وهل يقدر النظام أن ينام ملء عينيه مرتاحاً لتواطؤ الجميع معه، من عرب وعجم؟ هل بقي الشعب السوري وحيداً في وجه نظام همجي لا يرحم؟ ليس الأمر بهذه البساطة من سوء حظ الأسد، ففي زحمة النقمة على الاحتقار الروسي الصيني لحقوق اﻹنسان السوري، مر حدثان مفصليان في مسار الثورة مرور الكرام رغم أهميتهما البالغة.
اﻷمر اﻷول هو تشكيل المجلس الوطني و على رأسه مثقف ليبرالي معارض، من خارج الحراك اﻹسلامي و انضواء العديد من الحركات الٳسلامية، بما فيها اﻹخوان المسلمين، تحت لواء هذا المجلس. بهذا الموقف سحب اﻹسلاميون بذكاء ورقة التخويف بالبعبع الطائفي وبالخطر اﻹسلامي من يد النظام.
النبأ السيء الآخر للنظام هو تصويت مجلس الشيوخ اﻷمريكي باﻹجماع على تسمية روبرت فورد سفيرا للولايات المتحدة في سوريا، بعدما استحالت الموافقة على تعيينه حتى الآن. هذا يعني أن الثورة السورية دخلت، و بقوة، على خط السياسة الداخلية اﻷمريكية، رغماً عن أنف اللوبي الصهيوني.صانع القرار في واشنطن، الذي عجز عن استصدار موافقة الكونغرس على تعيين سفيره في دمشق، سيضطر ﻷن يأخذ بعين الاعتبار من الآن فصاعداً أن ممثلي الشعب اﻷمريكي يقفون، رغم دعمهم المعروف ﻹسرائيل، وراء ثورة الشعب السوري ويجمعون على مساندة حراك السفير فورد و "دعمه" للديمقراطية في سوريا. أهمية هذا الموقف تتضح حين نتذكر أن أياً من النواب اﻷمريكيين لم يكلف نفسه عناء الاستماع لذات السفير فورد قبل ثلاثة أشهر.
تصويت ممثلي الشعب اﻷمريكي يأتي ليؤكد أن رسالة الثوار السلميين في سوريا وصلت ٳلى قدس أقداس الديمقراطية اﻷمريكية و قرعت أبواب ضمير الشعب هناك. هذه الرسالة نفسها قادرة على قلب المواقف في كل مجتمع ديمقراطي حر وهو ما يفسر وقوف الصرخات السورية عند أبواب الكرملين و سلطته شبه الوراثية، تماماً كما عجزت عن الوصول ﻷسماع حزب الشعب الاشتراكي الحاكم بأمره في بكين، فهذان النظامان، ومثلهما كثير، ليس لديهم شعوب، بل رعايا و زبائن. مهمة المثقف السوري تتلخص إذاً في الحديث مباشرة مع الشعوب لشرح أسباب ثورة السوريين، و تعريف العالم الحر بحقيقة ممارسات النظام السوري. محاولة ٳقناع اﻷنظمة الدكتاتورية عبث، و زيارة ممثلي المعارضة لموسكو ستكون فاشلة سلفاً، و مثلها بكين.
الشعب السوري يقوم الآن بتلقين كل شعوب العالم دروساً في الشجاعة و المقاومة السلمية و في الكفاح من أجل حياة أفضل. هذه الدروس تقلق كل أنظمة الطغيان مهما تكن جنسيتها في القرية الكونية التي نعيش جميعاً في ربوعها
لو كنت مكان بشار اﻷسد فلن أفرح كثيراً لفيتو روسي و صيني مدفوع الثمن و مضمون سلفاً، ولن أنام قرير العين عندما يجمع ممثلو الشعب في القوة الكونية اﻷعظم على دعم سفير أحلم بطرده.
أحمد الشامي
ahmadshami29@yahoo.com
http://www.elaphblog.com/shamblog
نشرت في حريات، جريدة أسبوعية سياسية مستقلة، معارضة للنظام السوري و تُعنى بالثورة السورية، العدد التاسع 17 تشرين الأول 2011.
http://www.scribd.com/doc/69099464/Untitled
http://www.arflon.net/2011/10/blog-post_1498.html
التعليقات (0)