حين أصدر "فرانسيس فوكوياما" كتابه الشهير "نهاية التاريخ" عام 1993 كان مقتنعاً، بعد سقوط التجربة السوفييتة وانتصار الليبرالية الغربية الساحق، أن التاريخ قد انتهى وأن لن يكون هناك صراع في المستقبل ! لماذا الخلاف العقائدي حين يتبنى الجميع اقتصاد السوق الحر في كل مكان وتسود الطبقة الغنية في المجتمع والتي تلقي ببعض الفتات للطبقات اﻷدنى ؟
مع ذلك، جاءت الحرب على "اﻹرهاب" وعشرات الحروب الصغيرة هنا وهناك لتؤكد أن الصراع مستمر بين الكبار ولكن بوسائل أخرى. أهم هذه الوسائل هي الحروب بالوكالة التي يشنها خصوم القوة اﻷكبر في العالم ﻹضعاف أمريكا والحد من نفوذها، ٳضافة ٳلى "مقالب" ونغزات يقوم بها منافسو أمريكا، وبعض أصدقائها، لتذكيرها بوجودهم وبمصالحهم. بين هذه الغمزات يأتي رفض "شيراك" المساهمة في غزو العراق عام 2003 رداً على تفرد أمريكا بالقرار، أيضاً عدم سماح تركيا للأمريكيين بعبور أراضيها ﻹسقاط صدام. الكويتيون "قاموا بالواجب" وأكثر.
تورط أمريكا العسكري في كل من أفغانستان والعراق جاء برداً وسلاماً على الجميع، خصوم أمريكا (وليس أعداؤها فهي أقوى من أن يكون لها أعداء) ساهموا بقسط وافر في ٳلحاق اﻷذى بجنود العم "سام" ومنافسو أمريكا وأصدقاؤها وجدوا ﻷنفسهم "باب رزق" في حروب السيد "جورج والكر بوش" غير المدروسة سواء عبر مقايضة دعمهم للمغامرات العسكرية اﻷمريكية أو عبر تعكير صفو القوة اﻷعظم من حين لآخر.
في هذا المجال تحتل "القاعدة" مكانة خاصة في قلوب خصوم أمريكا جميعاً فهي اﻷداة المفضلة لهؤلاء من أجل ٳنهاك القوة اﻷكبر وٳيلامها دون تحمل مسؤولية عمليات "الشيخ أسامة" و خليفته "الدكتور أيمن". بكلمة أخرى، الحرب على اﻹرهاب حلت محل الحرب الباردة. هذا يفسر قتل الشيخ "أسامة بن لادن" دون محاولة اعتقاله ولا التحقيق معه على عكس أوليات المنطق. اﻷمريكيون لم يكونوا بحاجة للتحقيق مع "بن لادن" لمعرفة صلاته وداعميه، فهم يعرفون أعداءهم جيداً ويتظاهرون بعدم الفهم، فلعبة اﻷمم تقتضي بعض المسرحيات والبهارات.
الحقيقة أن المخابرات اﻷمريكية، بحسب الصحافة الغربية، كانت على علم بمكان وجود "بن لادن" قبل الهجوم عليه بعامين على اﻷقل. اﻷمريكيون قاموا بحملة "تلقيح" مزيفة للأطفال في البلدة التي كان يقيم فيها بن لادن وأولاده ! الهدف كان الحصول على الحمض النووي للأطفال لمعرفة نسبهم الحقيقي والتأكد من أن الشيخ المنهك المختبيء في البيت هو والد هؤلاء اﻷطفال، أسامة بن لادن. فهل عجز اﻷمريكيون طوال عامين عن اعتقال الشيخ المريض ؟ ليقتلوه عشية انسحاب القوات اﻷمريكية من العراق، هدية للسيد "اوباما" الذي كان في حاجة "لنصر" ٳعلامي يغطي على فرار المارينز من بغداد، تاركين بلاد الرافدين لقمة سائغة في فم ٳيران.
"القاعدة" ليست سوى واجهة لخصوم أمريكا وهو ما يفسر أن عملياتها محصورة ضد اﻷمريكيين ! كأن لها "عقد احتكار" ضد الأمريكيين فهي لا تمس سوى أمريكا ومصالحها. حتى لو أباد الروس الشيشان المسلمة بمن عليها فهم "أصدقاء" القاعدة و "ذنبهم مغفور". نفس الشيء ينطبق على الصين التي تستطيع قمع أقليتها المسلمة من اليوغور "على كيفها" دون أن "تخشى في الحق لومة قاعدة..". أما ٳيران، فحدث ولا حرج، فالولي الفقيه وأذنابه قادرون على ذبح كل مسلمي سوريا واغتصاب نسائها وقطع رؤوس أطفالها، دون أن تجرؤ "القاعدة" على رميهم بوردة. لنلاحظ أن أياً من داعمي القاعدة ليس من المسلمين ! باستثناء ٳيران الشيعية حتى النخاع !
يبقى سؤالان لا بد من اﻹجابة عليهما، اﻷول هو "لماذا تستثني القاعدة ٳسرائيل من غضبتها المضرية" ؟ فتهاجم أمريكا بحجة أنها "تدعم ٳسرائيل" التي تضرب الفلسطينيين والعرب ؟ الجواب هو أن ٳسرائيل عضو مؤسس في محور الشر، "ٳسرائيل" في هذا المحور هي في مقام "اﻹمام الغائب" الذي يتجلى بفعله لا بالقول والمجاهرة، فهل تهاجم القاعدة من يساهم في دعمها وفي حمايتها و تمويلها ؟
محور الشر هذا يضم ٳلى جانب دولة الفصل العنصري في ٳسرائيل كلاً من ٳيران وروسيا والصين ٳضافة ٳلى أذنابهم في العصابة اﻷسدية وحزب "حسن نصر الله" الذي تنبه حديثاً ٳلى أن الدين اﻹسلامي يتعرض للٳساءة، ليس في الشام القريبة ولكن في "الانترنيت" ! "سيد المقاومة" وجد "باب نصب" جديد وفرصة للضحك على عقول البسطاء وٳظهار خوفه على الدين الحنيف وغضبه من اﻹساءة البالغة التي لحقت بالرسول الكريم، وفي نفس الوقت استعراض قدرته على نشر زعرانه في بيروت "لتذكير من يكون قد نسي أن أيار 2008 قابل للٳعادة".
السؤال الثاني هو "لماذا تمول مشيخات الخليج القاعدة وهي تعلم أنها ألعوبة في يد محور الشر"؟ الجواب هو أن التمويل الخليجي للقاعدة مبالغ فيه للغاية وهو ليس أكثر من مناورة ٳعلامية للتمويه على ممولي القاعدة الحقيقيين في طهران وموسكو وغيرهما. ثم ٳن مصلحة الممالك واﻹمارات الخليجية، تماماً كما مصلحة الطغاة، من زال منهم ومن ينتظر، تقتضي التهويل بخطر القاعدة والتطرف اﻹسلامي لكسب حظوة لدى السيد اﻷمريكي على مبدأ "أترون من سيحل محلنا ٳن ساعدتم على اﻹطاحة بنا ؟؟".
من العجيب أن تسخر الصحافة واﻹعلام العربي كل ٳمكانياتها، وهي جبارة فعلاً، لفيلم تافه، يصدر مثله الكثير كل يوم على صفحات الانترنيت ! لم يدر بخلد أي من أباطرة المال واﻹعلام العرب أن يرفع دعوى قذف بحق منتج الفيلم اعتماداً على قوانين أمريكا ذاتها، فلماذا ؟! هل عرب النفط فقراء وليس بمقدور أي منهم دفع أتعاب محامي ولا حتى اللجوء لمنظمة ٳنسانية تدافع عن التعايش ؟ هل يرسلون كل أموالهم للشعب السوري الثائر ولم يبق منها ما يكفي لرفع دعوى قدح وذم ؟
اﻹعلام العربي قبل الغربي يستخف بعقولنا ويعاملنا كما لو كنا "غوغاء" وحمقى لا نفهم ألاعيبهم البهلوانية، وادعاءهم الخوف على الدين اﻹسلامي وعلى رسوله الكريم، فيذكرون أخبار فيلم مدبلج من 14 دقيقة قبل أخبار مئتي شهيد سوري مسلم. بالمناسبة، أليس القول "ربكم بشار" مسيئاً للدين الفضيل ؟! أليس اغتصاب نساء سوريا "ٳساءة لحرائر المسلمين" ؟ هل يعتبر المسلمون ان قتل الشهيد المسلم "حمزة الخطيب" وخصيه والتنكيل بجثته من اﻷمور "غير المسيئة للدين الحنيف" ؟
من يريد أن يشاهد أفلاما مسيئة للدين اﻹسلامي ولكل اﻷديان و لله عز وجل ولكل اﻹنسانية، فما عليه ٳلا أن يشاهد صفحة الثورة السورية على الانترنيت، والشيء بالشيء يذكر، فالفيلم الفضيحة ليس أكثر من "دعاية" مدبلجة على الانترنيت !!
من مصلحة كل اﻷنظمة غير الديمقراطية في العالم العربي واﻹسلامي ٳغراق مواطنيها في الجهل والتجهيل، لذلك لن تجد مقالة كهذه، ومثلها كثير، طريقها للنشر في أي من صحف ممالك النفط وأجهزتها اﻹعلامية الهادفة ٳلى التلاعب بالعقول وليس للتنوير ولا للبحث عن الحقيقة.
بدل أن يسخر المثقفون والٳعلاميون العرب جهودهم لتوعية المسلمين ٳلى حقيقة أنهم ضحايا للتلاعب بعقولهم، نجدهم يكيلون المديح "للقادة المؤمنين حراس الدين الحنيف" أو يجدون اﻷعذار للقتل و البلطجة !
هاهو "صديق" الشيخ بن لادن والمعجب "ببطل القادسية" صدام والذي أطنب في مديح "ملك ملوك أفريقيا" القذافي البائد، السيد "عبد الباري عطوان" يجد في عموده اﻷسبوعي في "القدس العربي" : "أن غضب المسلمين وثورتهم مبرران " وأنه "يتفهم" تقاعس حراس القنصلية اﻷمريكية في بنغازي عن حمايتها، بما أدى لقتل السفير وثلاثة من موظفي السفارة !!
أمريكا التي ساهمت في تحرير ليبيا من عقيدها المأفون والتي يطلب السوريون منها العون لحمايتهم من طاغية جزار تصبح "عدو الٳسلام والمسلمين اﻷول" ﻷن جهة حاقدة نشرت على الانترنيت، في أمريكا، فيلماً مدبلجاً ؟؟ يا سبحان الله، أي أحمق سيأتي لمساعدة شعب يعض اليد التي تمتد ﻹنقاذه ؟ من سيقوم بٳعانة السوريين حين يرى الدناءة التي تصرفت بها جهات مجرمة في ليبيا رداً للجميل اﻷمريكي ؟ نعم، الجميل اﻷمريكي، فالعقيد كان مستعداً لمنح "كل ليبيا" للأمريكيين مقابل البقاء في الحكم. اﻷمريكيون رفضوا كل عروض العقيد وساهموا في اﻹطاحة به، ثم يأتي القتلة في بنغازي لقتل محرريهم ولطعن الثورة السورية في الظهر ثأراً لنظام بائد.
لكن، هل كل ما حدث من "ثورة عالمية" ضد فيلم تافه هو نتاج التلاعب بعقول البسطاء من المتدينين والذين اعتبروا، عن وجه حق، أن دينهم ونبيهم (ص) قد تعرضا للٳساءة ؟
بكلمة أخرى، هل تكون "القاعدة" وراء بعض أعمال العنف وخاصة عملية "غزو" السفارة اﻷمريكية في بنغازي واغتيال السفير هناك ؟ هذا ما لا تستبعده "الهيرالد تريبيون" في طبعتها ليوم الجمعة الرابع عشر من أيلول حيث تلخص الكاتبة "السيدة كاييم" أن "الوحيد في العالم والذي انسر للمأساة في بنغازي هو بشار اﻷسد ونظامه". في رأي الكاتبة أن هذا الفعل الشنيع هو في مصلحة ٳدامة بقاء الطغاة دون استثناء وخاصة نظام اﻷسد وتصب في مصلحة المعارضين ﻷي تدخل ولو بسيط من أجل تقصير معاناة السوريين.
هل تكون "القاعدة" والتي تدعو لقتل اﻷمريكيين أينما كانوا في سبيلها "لرد الجميل" للأسد ولرعاته في طهران وموسكو الذين منحوها الدعم والملاذ الآمن ؟ كل الدلائل تشير ٳلى أن عملية القنصلية اﻷمريكية التي جرت في الحادي عشر من أيلول وتمت بعد تخطيط محكم وبٳمكانيات هائلة، ليست على اﻹطلاق رد فعل "عفوي" على فيلم تافه مسيء للرسول الكريم.
ٳن صدق هذا التحليل، ستكون القاعدة قد أعلنت "رسمياً" انضمامها ٳلى محور الشر ويجب النظر ٳلى جرائمها كحلقات ضمن ٳطار أوسع. سيكون اغتيال السفير اﻷمريكي في ليبيا رداً غير مباشر من روسيا والصين على المساهمة اﻷمريكية في تحرير ليبيا وٳخراجها من محور الشر. عملية الاغتيال تخدم أيضاً ٳيران التي تظهر قدرتها على تنكيد عيش اﻷمريكيين وعداءها لسياسة اوباما التي حررت ليبيا وحرمت ٳيران من ٳمكانية ابتزاز القوات اﻷمريكية في العراق. الرابح اﻷكبر سيكون نظام العصابة في دمشق الذي يرد عبر استهداف اﻷمريكيين في بنغازي المحررة على الصفعة التي تلقاها في "شارع الروضة" وفي نفس الوقت يرسل رسالة ٳلى اﻹدارة اﻷمريكية مؤداها أنه قادر على ٳيذاء فرص السيد "اوباما" في البقاء في البيت اﻷبيض وعلى تحريك أصدقائه في "القاعدة".
في هذه الحالة، سيكون أربعة شهداء جدد قد انضموا لضحايا الثورة السورية، أربعة أمريكيين أبرياء ينضمون ٳلى الشهيدة اﻷمريكية اﻷولى في حمص، الصحفية "ماري كولفين".
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog ahmadshami29@yahoo.com
بيروت اوبسرفر : الخميس 20 أيلول 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=83031:chami&catid=39:feature s
التعليقات (0)