يحلو للبعض القول أننا نحن العرب أصل الحضارة الإنسانية، وكل ما في الحضارة الإنسانية من علوم وتطور حضاري ورقي يرجع إلينا. وأن خير وسيلة للتطور والرقي الحضاري والعلمي هي بالعودة إلى الأصول والبحث والتنقيب في تاريخنا العلمي وما قاله علماؤها الأوائل. إننا نجد هذا الرأي عند كل شعوب الأرض، فكل شعب وكل أمة وكل قومية تحمل مثل هذا الرأي، وتفخر بأن في تاريخها شذرات من الحضارة والعلوم والفلسفة والعمران البشري. ولكن لا يجب أن ننسى أن الحضارة والعلم الإنساني البشري غير مرتبط بقومية أو أمة أو شعب، إنه نتاج المجتمع البشري كافة، ولا ينحصر في الحدود الخاصة بكل أمة، سواء كانت جغرافية أو لغوية، أو قومية، أو دينية. إن محاولة التقوقع داخل الحدود التاريخية أو اللغوية أو الجغرافية حضارياً يجعل الحضارة كنتونات منعزلة، ويصبح شعار هذا لنا وهذا لهم شعاراً تختفى خلفه ذرائع التخلف الحضاري، وهذا الشعار يولد لدى الأمة قناعة بأنها تسير في الطريق الصحيح حضارياً وعلمياً. وإذا ما حدثت صحوة علمية وحضارية وأرادت مثل هذه الأمة تنظيم مجتمعها على أسس جديدة من القوانين يراعى فيها جميع احتياجات المجتمع العصري، وجدت نفسها في غربة وأنها تحتاج لقرون عديدة للحاق بالمستوى الحضاري العالمي للمجتمع البشري. إن التمحور داخل الحدود الجغرافية أو داخل السمات التاريخية لأمة من الأمم حضارياً تحكم على نفسها بالفناء، وستجد نفسها يوماً لا تملك لا الماضي ولا الحاضر. إن كل شعب أو أمة يريد، يتوق أن لا يبقى بين الحفر، يجب عليه أن يخلق الإمكانيات الفكرية والنفسية لاستيعاب الحضارة الإنسانية لأجياله الحالية حتى يستطيع أن يزرع البذور السليمة وإيجاد المناخ السليم للأجيال القادمة لكي تسير مع الركب الحضاري بشكل طبيعي. إن استيعاب الحضارة الإنسانية الجديدة والتي هي من نتاج النشاط المجتمعي البشري في جميع المجالات العلمية والفكرية والمجتمعية –استيعابها- يتطلب منا عدم النظر إليها بشكل جزئي، أي التمسك حضارياً بالجانب المادي فقط، أو العلمي، فلكي يتم استيعاب الجيل للمستوي الحضاري العالمي، يجب عليه أن يكون جاهزاً فكرياً ونفسياً لهذا، وإلا حدث انفصام في الشخصية وتتعمق الأزمة الحضارية، وتصبح ليس في الإطار المادي بل والنفسي. إن التهيئة الحضارية للجيل يجب أن تشمل كل نواحي الحياة المادية والتنظيم المجتمعي والفكري واللغوي. إن استيعاب الجيل للحضارة الإنسانية يجب أن يبدأ باللغة، أي أن تستوعب لغته التي يتعامل بها كل المفاهيم والمصطلحات والقوانين العلمية الحديثة. وإذا لم يحدث هذا المبتدأ في الانطلاقة الحضارية، فإن الخبر سيكون ضياع لغته لأنه سيستعيض عنها باللغة الحضارية، باللغة التي بها متسع للمفاهيم العلمية والتي تستجيب لكل جديد. وهكذا، فإن الدول التي استطاعت اللحاق بالركب الحضاري عملت على تسهيل استيعاب اللغة القومية للمفاهيم والمصطلحات العلمية، وطورت نظم التعليم للأجيال الجديدة.وبهذا حدث تواصل للجيل الجديد مع الحضارة العالمية، علمياً ونفسياً.وبهذا وضعت الأرضية الصالحة للتطور الحضاري، في الصناعة والبحث العلمي، وهذا ما حدث في اليابان وكوريا وتايلاند وتايوان والصين. وهناك دول سارت في طريق آخر في موقفها من اللغة الأجنبية، بأن استوعبت اللغة الإنجليزية واعتمدتها كلغة أساسية إلى جانب لغتها المحلية مثل الهند وباكستان في محاولة منها للانفتاح على الحضارة العالمية واستيعابها والتكيف معها.
ونحن هنا في الوطن العربي، والناطقين باللغة العربية، بالأحرى، الأمة العربية، ما أحوجنا إلى تلمس الطريق السليم الذي يوصلنا إلى أولى درجات السلم الحضاري، وألا نصاب بالغرور بما كنا عليه في الماضي، بحيث نعتقد أنه كافي لبناء حاضرنا ومستقبلنا السياسي والاجتماعي. لقد تمسكنا في الماضي بهذا الرأي لعدة قرون، فماذا كانت النتيجة ؟ أولاً: لقد أصبحنا هدفاً سهلاً للاستعمار من قبل أمم أخرى. ثانياً: لقد استُعبدنا من قبل أنظمة حكم دكتاتورية وعائلية ودينية ظالمة لعقود طويلة. ثالثاً: سيادة أفكار مضادة للتقدم الحضاري ومختلطة بالمفاهيم العصبية والقومية والدينية. رابعاً: القضاء على ملكة الإبداع والاختراع والتجديد وعدم تحكيم العقل في ما يواجهنا من معاضل في حياتنا. خامساً: بسبب هذا المناخ –هاجرت العقول العربية إلى الخارج-.
فلكي تسمو الأمة العربية وترتفع إلى مصاف الأمم الراقية حضارياً واجتماعياً وفكرياً. يجب عليها: أولاً: احترام الإنسان وحياة الإنسان وعقل الإنسان وإبداعه. ثانياً: إرساء الديمقراطية في المجتمع وإزالة كل مظاهر القهر الجسدي والنفسي والفكري والاجتماعي.
ثالثاً: الاعتراف بتأخر الأمة العربية اجتماعياً وعلمياً وحضارياً وأن كل الموجود من ثقافة وتاريخ لا يكفي للارتقاء الحضاري العصري، حيث أن الاعتراف بالخطأ نصف الحل.
رابعاً: التوقف عن اللحاق بالمصطلحات العلمية عن طريق الاجتهاد بالتعريب، حيث أن تعريب المفاهيم العلمية قد ثبت فشلها، فكم من المصطلحات المعربة لم تثبت أمام الاستخدام العلمي اليومي والتعليمي رغم أنه مضى على تعريبها أكثر من نصف قرن.
خامساً: اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة مركزية في التعليم والمعاملات في الدولة والمؤسسات الحكومية، إلى جانب اللغة العربية .
سادساً: تكثيف البعثات التعليمية للدول الأجنبية.
سابعاً: إنشاء وزارة للبحث العلمي والصناعي واعتماد سياسة التفرغ للعلماء.
ثامناً: عمل جوائز قيمة لكل اكتشاف علمي جديد.
تاسعاً: المشاركة في المؤتمرات العلمية العالمية في كل المجالات.
عاشراً: كفالة الدولة للمتفوقين بإعطائهم منح تعليمية لكل حسب اختصاصه.
وأخيراً نجد أنفسنا أمام سؤال هو:
هل ما لدينا الآن، وما ملكناه في الماضي كافي لبناء حاضرنا ومستقبلنا؟
هل تمسكنا بالقبل وليس البعد هو الطريق الأصح لحضارة عصرية أم لا؟
وبالتالي يجب أن نجيب على السؤال:
ماذا نحن الآن؟ وما يجب أن نكون؟
التعليقات (0)