الطير المهاجر
في يوم من أيام تموز الحارة ، وفي هاجرة من هواجره ، انتقلت من قريتي التي كنت أسكنها إلى مدينة الموصل ، وأول ما نزلت الدار التي استأجرتها شدّ انتباهي عصفور قد عشعش على شجرة في الدار وأخذت أُراقب حركاته ، فانتبه إليَّ وكان ينزل في باحة الدار وأنا أُلقي إليه بعض الطعام ليلتقطه بمنقاره ثُمَّ يعود إلى الشجرة من جديد ، وهو ينظر إلي بعين الرضا والسرور ، وأنا أنشد له تلك الأبيات الشعرية التي قالها أبو فراس الحمداني - ابن عم سيف الدولة الحمداني - حين كان في الأسر لدى الروم :
أقول وقد ناحت بقربي حمامة |
|
أيا جارتاً لو تشعرين بحالي |
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى |
|
ولا خطرت منك الهموم ببالي |
أيا جارتاً ما انصف الدهر بيننا |
|
تعال أقاسمك الهموم تعالِ |
وفي ليلة ظلماء جاءنا زائر غريب أخذ يتردد إلى المطبخ ليرى ما يوجد فيه فرأى العصفور وأراد أكله وهو نائم في عشه ، ولكنه طار من العُش بعيداً لينجو بنفسه ، فهاجت المشاعر والأحاسيس في نفسي نحو هذا العصفور ، وأحسست بآلامه ومعاناته كيف لا ونحن نشترك في المعاناة سوية ، فحال هذا العصفور كحالي فأنا في ليلة مظلمة عدا الأغراب على بلدي وخربوا عُشي وقتلوا وهجروا وأهلكوا الحرث النسل ، وأصبحت في ليلة وضحاها غريب في بلدي ، وإذا بأبناء البلد يعاملونني كأني غريب من بلد آخر كأن لم تجمعنا هذه الأرض منذ مئات السنين ؟! ، أين الدين الذي كان يجمعنا ؟!
ألم يجمعنا المصير الواحد المشترك ؟! والتاريخ المشترك ؟! ، ألم نشرب سوية من ماء دجلة والفرات ؟ ونستنشق هواء العراق ؟! وتشرق علينا شمس واحدة ونستظل في ظل أُمنا النخلة ؟!
وإذا بقائل يقول لي : أُخرج من بين أظهرنا ، إنك لست منا ، إنك لست من أبناء هذه الأرض ؟ ، فقلت سبحان الله ، أنا ولدت هنا وأبواي ولدا هنا ، وجدي ولد هنا وجد أبي ولد هنا كذلك ، فخرجت مسرعاً إلى قبر أبي وجدي ، وقلت لهما : منذ متى أنتما قد ضمتكما هذه الأرض ؟!.
فقالا لي : إننا هنا منذ مئتي سنة أو أكثر ، فبعد هذا الزمن والتواصل مع هذه الأرض والذكريات الطويلة ، وفي غفلة من الزمن وإذا بي لستُ من أهلها وعليَّ أن أرحل بعيداً عنها تاركاً خلفي الأهل، والأقرباء ، والأصدقاء ، وذكريات الطفولة ، والشباب تاركاً الذكريات الجميلة بين أزقتها وحقولها الغناء ، تاركاً فيها داري ووطني الصغير .
فحملت أمتعتي وأطفالي ، وزوجتي لأرحل بعيداً عنها وأسكن في أرض ليست بأرضي ، أرضٌ لم ألدُ فيها ، ولم أعش فيها ، وليس لي فيها ذكرى واحدة ، كي أنجو من بطش الغرباء ، وأنا في كل يوم أقف أمام تلك الشجرة وأنظر إليها وأتساءل متى تعود أيها العصفور كي تبني عُشك من جديد ؟!، فمتى تعود أيها الطير المهاجر ؟!. ومتى ياترى أنا مثلك أعود ؟!، ومتى يخرج الغرباء من بلدي ؟!([1]).
* * *
التعليقات (0)