من يحمل المتاع
كثيرة هي الحكايات التي يحويها موروثنا الشعبي والتي تضم بين طياتها كثيرة من الدروس والعبر لمن أراد الإتعاض بتجارب الآخرين, فمن هذه الحكايات التي كانت تقصها أمي علينا في جوف الليل ونحن صغار : حكاية رجل كان لا يملك إلا جملاً واحداً يضع عليه متاعه وأطفاله وزوجته في حِلِهِ و ترحاله مع أبناء القبيلة , وأخذت نفسه تسول له ذبح الجمل ، وعمل عليه وليمة لأبناء قبيلته أسوة ببقية الأغنياء منها , وكانت زوجته تنهاه عن ذلك ، ولكنه كان لا يرتدع عما نواه. وفي إحدى المرات انتصر عليها ، سل سيفه وأخذ يحده فلما وقف أمام الجمل , كانت زوجته قد سبقته إليه ووقفت حائلاً بينه وبين الجمل .
وقالت له : على رسلك أيها الرجل على ماذا سوف نحمل متاعنا وأولادنا إذا أراد القوم الرحيل عن الديار إلى مكان آخر ؟ . قال : سأضعه على ظهري ، وقام بنحر الجمل وأكل لحمه مع أبناء قبيلته , فلما حان موعد الرحيل , حملوا أمتعتهم على دوابهم , وقف الرجل وزوجته حائرين وهما لا يملكان دابة لوضع متاعهما عليها ورحل القوم تاركين الرجل وأسرته في ديارهم .
قالت له زوجته : ماذا أصنع اليوم , إن القوم ساروا ، أين سأضع المتاع ؟.
قال : ضعيه على ظهري ، وجلس الرجل وأحنى رأسه إلى الأرض ، وأخذت زوجته بوضع الخيمة وأعمدتها وحبالها ، فرأت ثقلها عليه .
فقالت : هل أجلب بقية المتاع وأضعه على ظهرك ؟ .
قال : نعم ، ( أني موگايم موگايم ، خلي شتريدين تخلين )- أي أنا لا استطيع النهوض أبداً ولن أتمكن من حمل الأمتعة التي وضعتها على ظهري فلا يضرني إذا ما وضعت بقية المتاع - .
فكم واحد منا ذبحَ جملة على مستوى الأفراد والجماعات والدول ؟!. وكم واحد منا غيّب رأي العقل والسداد والصلاح وأخذته العزة بنفسه وهواه فبقي متاعه على قارعة الطريق دون أن تمد له يد العون أو المساعدة ؟!. وكم واحد منا حُمّل من الواجبات أكثر مما يطيق فلم يستطع القيام بها جميعاً ؟!.
...
السفير
الذكريات الجميلة لا تنسى ولا سيما ما كان منها في فترة الطفولة وأيام الدراسة فكلما عاد الإنسان بذاكرته إليها يرى أنها أجمل أيام العمر لأن فيها تتجسد وتتشكل شخصية الإنسان ، وفيها تتبلور المفاهيم والقيم ومن خلالها يرسم مستقبل الكثيرين منا ، ومن هذه الذكريات حين كنت في الصف الخامس العلمي طالباً في إعدادية المستقبل للبنين ، أذكر أن الأستاذ الفاضل إسماعيل جمعة خميس رحمه الله ) مدير الإعدادية ، نادى عليّ في الاصطفاف الصباحي أمام طلبة الإعدادية وأخذ بيدي وقال : انظروا إليه إنه ابن القرية وسفيرها إليكم ، وأخذ أصدقائي وطلاب الإعدادية يطلقون علي سفير القرية أو السفير ، فغضبت ذات مرة ، وألقيت فيهم كلمة لازال بعضها في ذاكرتي ، قلت: أنا لست سفيراً لبلادي لأقطار العالم بل أنا سفير لقريتي الخاملة الرابضة في سهل منخفض بين مرتفعات تحيطه ، تلك القرية الرابضة على مقربة من الضفة الشرقية لنهر الزاب الأعلى ، إني موفدها إلى بلاد العالم فأنا أشبه ما أكون دبلوماسياً متنقلاً لها فأنا أجول بأفكاري وخيالي ، وأكتب عما شاهدته فيها فأنا السفير إلى العالم ، وها أنا أقول لكم عدلوا أفكاركم وتصوراتكم وعدلوا المشهد الأخير وغيروا نظرتكم في أبطال المسرحية وغيروا تصوراتكم عن قرى بلادي فأنتم لا تعرفونها ، فأنا ابن القرية وسفيرها إليكم في هذه القرية تعلمت القيادة والريادة والشهامة وحب الآخرين ، تعلمت الرجولة من خلال العمل في الحقل ، وفي الليل وأنا أسقي زرعي أنام متوسداً أكياس السماد لا أخشى الأفاعي أو العقارب أو الذئاب ، أنا فارس منذ الطفولة وميدان فروسيتي كل أمر صعب متحدياً كل عقبات الحياة من جهل وفقر وأمية ومن بعد لمؤسسات التعليم عني ، فأنا اليوم السفير عن تلكم القرية وإن كانت رحلة إيفادي مجانية ، فأنا عربي بدوي الانتماء لا يحد فكره ولا يضيق عليه مكان ، صحوت مبكراً على ملامح البادية وعشقت فيها اللغة البكر ، وأهلوني كانت لديهم هذه اللغة ، وظيفتي الأولى كانت رعاية الأغنام ، وجلب الماء من النهر إلى البيت ، أحفر بيدي الأرض لأزرع النبتة ، أحمل كتبي وأسير مسافات طوال لأصل إلى مدرستي وفي أيام المطر أحمل حذائي بيدي فمن منكم لديه القدرة على مجاراتي : في تحدي الصعاب أو في الأدب ولاسيما في الشعر أو القصة أو بقية العلوم أنا أتحدى الجميع للنزال فهل من مبارز وإن لم يقدم أحدكم فأنا سفير القرية وفارس المدرسة كذلك .
...