كثيرا ما نسمع أحدهم يردد أنه يخاف من الظلام ، وآخر يخاف الارتفاع ، وغيره يخاف البحر، وآخر يخاف من الثعابين . وهذه أشياء موجودة في الواقع وملموسة ، وقد تثير مشاعر الخوف والتوجس وتتطلب الحيطة والانتباه لتحاشي ضرر ما قد يحدث في حال التعامل مع هذه الأشياء دون معرفة سابقة .
ومن جانب آخر ، نسمع أن بعض الناس يتكلمون عن الخوف من مسميات مثل الغول والغولة والعفريت وابليس والأشباح والقتيل والجن والشيطان ، وأهورا مزدا ، وأُولاهيم وعشتار وايزيس وأُزوريس وزيوس والعجل الذهبي ، وتنين انطاكية .
كل هذه المسميات ليس لها في الواقع المادي دليل ملموس ممكن ان يؤثر التأثير المباشر على الجسم الحي . ف " زيوس " و" بعل " وأوزوريس " و " إيزيس " و"أولاهيم " و" العفريت والشبح الذي يطل علينا من القمر ، والشيطان مفاهيم ندلل بها على تصورات ، أشياء مختفية عنا ، تكمن خلف كل ما نراه في هذا الكون من كواكب ونجوم , وما نراه في الطبيعة من نظام وجمال ، وما يواجهنا من أحداث محزنة . ولأنها مجهولة لدينا ، لذا فهي سر من الأسرار ، لهذا فإن وعينا الخيالي يذهب معها الى الحد الأقصى من التضخيم والتفخيم ، وهذه الضخامة والفخامة تجعلنا في الجانب الآخر نشعر بالصغار والخوف الذي يوحي لنا بعبادتها وتقديم القرابين لها .
وعن مسالة الخوف من المجهول فقد ورد في كتاب تهذيب الحيوان للجاحظ كيف ان الاعراب كانوا يتخيلون الجن والغيلان "فاذا استوحش الانسان تمثل له الشئ الصغير في صورة الكبير ، وارتاب ، وتفرق ذهنه ، ... فرأى مالا يُرى ، وسمع ما لا يُسمَع ، وتوهم على الشئ اليسير الحقير ، انه عظيم جليل . ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرا تناشدوه ، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك ايمانا ونشأ عليه الناشئ ، وربي به الطفل ، فصار احدهم حين يتوسط الفيافي ، وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس (المظلمة) فعند اول وحشة و فزعة ، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى ، فقد رأى كل باطل وتوهم كل زور ... فعند ذلك يقول : رأيت الغيلان ! وكَلمْت السعلاة ! ثم يتجاوز ذلك الي أن يقول : قتلتها ! ثم يتجاوز ذلك الى ان يقول : رافقتها ! ثم يتجاوز ذلك الي أن يقول : تزوجتها ! ( تهذيب الحيوان للجاحظ – مكتبة الأسرة – ص 230- 231 ) .
فلماذا الخوف اذا ؟ إنه الخوف من المجهول !!!
فالمجهول لدينا يثير فينا الخوف من المفاجأة ، من الغير مُتوقع ، وهذا يجعلنا لا نعرف مدى الضرر الذي سيحدثه فينا ، فالمجهول يجعل الإنسان يعيش حياته في حالة خوف وحذر وتَوقُع وتوجُس دائم .
ماذا يعني هذا ، أي مم يخاف الانسان ؟
في نشاط الانسان العملي ، كثيرا ما يواجه الإنسان معاضل وإشكاليات يستعصي عليه حلها ، ويبدأ في محاولة فهمها والوصول الى حلول يكون فيها منفعة له . وهو يحاول قدر الإمكان في حدود معرفته تجنب الوقوع في مشاكل تكون نتائجها ضارة له من قريب أو بعيد .
فإذا كان ما يواجه الإنسان في حدود معرفته وإمكانياته ، فلا مشكلة ، وأما إذا كان ما يواجهه اكبر من إمكانياته المادية ، فإنه يلجأ الى غيره من البشر طالبا مساعدته . أما اذا كان ما يواجهه خارجا عن نطاق الإمكانيات ، فإنه يلجأ الى " الغيب ، المجهول " ، " الرب " ، " الله " ،وهناك أناس يلجئون الى الجن ، الشياطين ، العفاريت..فكل الشعوب لها آلهة بمسميات متعددة تلجأ اليها خوفا من عقابها , وطمعا في رضاها .
كيف نشأ الخوف من الغيب ؟
الغيب في الوعي البشري قديم ، قِدم وعي الإنسان ، فالإنسان حينما تفارق مع مرحلة الوحشية وبدأت عنده مظاهر الوعي ، مثل مشاعر الخوف والفرح ، والسلوك المعبر عن هذه المشاعر ، وتطورت أعضائه بحيث ملك القدرة على نطق الكلمات ، أي تكونت لديه أوليات المسميات للأشياء والظواهر التي يتعامل معها في حياته ، ولما كان وعيه جنيني لا يستطيع بالتحليل والتركيب الوصول لجواهر الظواهر الطبيعية من حوله ، تكونت لديه أيضا مسميات لتصورات مجهولة ، وكان لعامل الخوف من المجهول اليد الطولى في تكون هذه المسميات ، فعدم فهمه ظاهرة ما ، أدخل في روعه أن هناك شيء ما مخفي عنه – لا يفهمه ، لا يراه – يسبب هذا . فالبرق مثلا ظاهرة مستغلقة بالنسبة لوعيه الجنيني ، فاعتقد أن هناك اله يسبب هذا الوميض المفاجئ في الأعالي . كما أن الخوف من الرعد أوجد عنده إله الرعد . وعدم فهمه لكيفية سقوط المطر، أوجد عنده إله المطر ، وعدم فهمه للشمس وقوتها الضوئية ، أوجد في تفكيره ووعيه إله الشمس ، وكذلك إله للقمر والكواكب الأخرى مثل الزهرة والمريخ . وكذلك أوجد آلهة للكثير من المظاهر والأشياء الطبيعية ، كالفيضان والحيوانات القوية .
ولما كانت الكثير من مظاهر الطبيعة علوية ، أي تحدث في الأعالي ، السماء . أعتقد الإنسان البدائي أن السماء هي مسكن الآلهة من كل الأنواع .
كما أن لظاهرة الموت ، والتي يفقد فيها الإنسان القدرة على الحركة والكلام أثرا كبيرا في وعيه بأن أوجدت لديه مفاهيم متناقضة ، هي مفاهيم " الحياة " و" الموت " . فالحياة تعني الحركة والعمل والنشاط ومصارعة الحيوانات في الغابة ، وإشباع دوافعه من جوع وجنس ومشاركة اجتماعية .
في حين أن الموت ، هو فقدان لكل هذا ، ويحوله الى شيء لا قيمة له ، فهو إما أن يُترك للحيوانات والطيور الجارحة ، أو يدفن في التراب ويتحول الى جيفة نتنة وعظمة نخرة ويندثر .
إن ظاهرة الموت كانت أكبر من أن يستطيع دماغ الإنسان في ذلك الزمن السحيق في التاريخ ان يفهم أسبابها الجسمانية ، لهذا دخل في وعيه أن وراء ظاهرة الموت " إله " له قدرة خارقة على سحب المقدرة على الحركة والكلام من هذا الجسد ، وهذه المقدرة صورها في شيء ينفصل عن الجسد ، أطلق عليه اسم " الروح " ، كما أن هناك تصور عند قدماء المصريين مفاده أن الجسم بعد موته يترك بعده ما يطلق عليه " القرينه " التي تظل حية ولها احتياجات كما لو كان الجسم حيا .
وكان للأحلام دورا كبيرا في خلق تصور عن موجودات " أثيرية ", خيالية ، إسطورية ،غير موجودة بكامل هيئها في العالم المادي ، وقد تكون أجزاء منها مأخوذة من موجودات في العالم المادي ، مثل الحصان الطيار ، أو الغولة ذات الشعر المنفوش والأنياب الطويلة والعيون الطولية ، والمأخوذة من الغوريلا الضخمة البشعة المفترسه . وهذه الصور الخيالية أو أشباهها يتصور الانسان أنها تعيش في الأماكن المظلمة ، أو الخربة والمغاور والغابات الكثيفة ، وتظهر للناس في أحلامهم أو في الليالي المظلمة ، هي أو أصواتها .لهذا دخل في روع الناس أن هذه التصورات الخيالية موجودة فعلا مع أن أحدا لم يراها ، ولكن نُسجت حولها القصص والأساطير وكإنها موجودة فعلا وعاشت في زمن ما .
والإنسان حينما يرى في أحلامه أشخاصا فارقهم عنه موتهم ، وكانوا يحضرون ويراهم في أحلامه ، ولا يجد لهذه الظاهرة تفسيرا . لهذا دخل في وعيه أنهم يسكنون في الأعالي في مكان ما ، أو في الغابات أو في الجبال الشاهقة , ويأتون لزيارته أثناء نومه , ثم يعودون الى مجتمعهم الذي أطلق عليه " عالم الأرواح " . ومجتمع الأرواح هذا ، هو حياة غير مادية ، روحية ، ليس بها موت ، بل حياة أبدية بجوار الآلهة . و" مجتمع الأرواح " الخيالي هذا هو مجتمع تعيش فيه كل الأرواح الخيرة من آلهة وملائكة ، والشريرة من شياطين وعفاريت ، وذات أشكال متعددة ومختلفة في الطول والقصر ، ومنها الهوائية ومنها النارية ومنها الإثيرية التي لها القدرة على الانزلاق والدخول في كل الأمكنة وأضيقها ،حتى في جسم الانسان .
إن هذه الظواهر قد زرعت أول ما زرعت في وعي الإنسان هو الدهشة و" الخوف " , الخوف من المجهول . إن دماغ الإنسان البدائي لم يستطع ان يوصله الى إدراك مسببات هذه الظواهر ، ولم يكن يستطيع أن يتقي خطرها إلا باستخدامه أشياء بسيطة موجودة في الطبيعة . فاتقاء المطر والبرق مثلا ، كان باللجوء للكهوف أو محاولة بناء كوخ من الأغصان في الغابة .
كذلك يصادف الإنسان البدائي في الغابة حيوانات قوية لا يستطيع أن يواجهها بمفرده ، بل كمجموع ، فهي تملك قوة كبيرة . لهذا نراه يتماهى مع شكلها ويرتدي جلودها ويحمل قرونها على رأسه ، اعتقادا منه انه بهذا يملك قوتها ، ويصبح مهابا مثلها .
وبهذا فالإنسان البدائي كان يواجه الخوف من اتجاهين :
الأول : ما يواجهونه في الغابة من حيوانات ضخمة وقوية ، أو أثناء تصارعهم مع بعضهم البعض أو مع غيرهم من المجموعات البشرية . وهذا دفع الإنسان الى تطوير أسلحة للصيد والحرب .
أما اتجاه الخوف الثاني : فيأتي من السماء ، من المجهول ، من الآلهة. فلما كان المطر والبرق والرعد يأتي من الأعالي ، اذا هناك مسكنا للآلهة في الأعالي ، وهذه لا يمكن مواجهتها بأدوات مادية ، أدوات من الطبيعة ، انها أكبر من أن تُواجه، إنها في الأعالي ، في السماء . من هنا يجب استعطافها ونيل رضاها ، إما بالترجي ، بالدعاء ، وإما بعمل طقوس وصلوات ، أو بذبح الحيوانات وتقديمها كقرابين شملت أنواع متعددة من الحيوانات ،إرضاء للآلهة ، وأحيانا يقدم البشر كقرابين للآلهة ،فقد قدم امنحوتب الثاني سته من الملوك السوريين الذين أسرهم قربانا " لآمون " ضحى بهم بيده .( قصة الحضارة – ول ديورانت ص80 ) ، وفي كل هذا فإن الإله لا يشرب دم القرابين ولا يأكل لحومها ، بل البشر هم الذين يأكلون لحمها أو يشربون دمها أحيانا ، أو يُهرق على الأرض . إذن ما هي العبرة من القربان ؟ الجواب جاهز ، إنه تقرب بالدم الى " الله " ، أو " المعبود " المجهول .
والسؤال : هل الآلهة بحاجة الى هذا الدم ، الى هذا القربان ؟ أم أن هذا هو تقليد وعادات موروثة من الأقدمين ، بأن قمة الطاعة هي إهراق الدم ، ولو كان القربان انسان ، ان انتشار ظاهرة القرابين يوحي أن الآلهة لدى بعض الشعوب القديمة جائعة ومتعطشة للدماء ، وتنتشي لرائحة اللحم المشوي .
إن هذه المفاهيم وهذه التصورات قد وجدت لها ترسيخا وثباتا في الأديان بوصفها نظاما إعتقاديا شموليا يخلق نوعا من العزاء النفسي والوجداني للمؤمنين بها .
وفي كل الأديان الكتابية وغير الكتابية توجد عادة تقديم القرابين للآلهة لإثبات الطاعة لها واستعطافها واستجلاب عونها على الأعداء ، كما تعتبر وسيلة للتخلص من الخطايا , إن هذا هو ميراث ارتدى صفة القداسة ووجد تدعيما له من الأديان .
من الملاحظ أن الأنبياء والفلاسفة والمصلحين ، لم يبدأوا دعواتهم بتعظيم الخوف في دعواتهم بل انتهجوا اسلوب الإقناع والترغيب ، فكل القصص المأخوذة من الميراث المقدس أو التاريخ المكتوب تقول أن آدم لم يضرب أبنائه ، وإبراهيم دعى الى قناعاته بالمحاورة ، وكذلك المسيح لم يدعو الى العنف ، بل حاور الفريسيين ، وسقراط سعى الى المجادلة واعتماد اسلوب التساؤل والإقناع ، وحتى الدعوة المحمدية بدأت كدعوة هادئة لسنوات ، ولكن حينما كثر أتباعه وتركزت مقومات دولة النبي في المدينة ، بدأ بانتهاج العنف في نشر دعوته ، وخَيرَ من لم يتبعه بين الدخول في دعوته او الغزو ودفع الجزية ، أي الإخضاع بالقوة ، وظل هذا منهج يتبعه المسلمون على طول التاريخ كلما أحسوا بقوتهم . وأيضا حينما إعتنق الامبراطور الروماني قسطنطين الأول المسيحية ، جعل من المسيحية الديانة الرسمية للدولة الرومانية ، وفرضها على الرعية ، مع أن المسيح والرسل لم يدعوا أو ينتهجوا هذا السلوك بفرض معتقداتهم على الغير، او بتعظيم الخوف من الرب في دعواتهم . ولم يدخل عنصر الخوف الى الدعوات إلا حينما تحالفت السلطة ، " الدولة " مع الدين .
ولكن كيف وصل الخوف الى الشعب من جهاز الدولة ؟
حينما تحالف الحكام والملوك مع الدين وجدوا في الدين ضالتهم المنشودة فتركز حكمهم ، بان أصبحوا ممثلين للإله في الأرض ، ووجدوا ان الإيمان بالإله الواحد يعني القبول وعدم التمرد على الحكم الواحد ، الملك ، ووجدوا في صفات الرب بأنه شديد العقاب وسيلة لتثبيت حكمهم وزرع الخوف بين الناس .
لما كانت التجمعات الكبيرة من الناس قائمة على المنفعة الاقتصادية ، من هنا يجب اخضاع الميول الفردية لمصالح المجموع ، المجتمع . فالدولة تقوم بفرض قوانينها على الأفراد بالوسائل المادية المنظورة من شرطة وسجون ، ولكن هذا لا يكفي في أغلب الأحيان . اذن هي بحاجة الى الحارس المخيف والغير منظور وذلك لتقوية الدوافع الاجتماعية ضد الدوافع الفردية بما تثيره فيهم من آمال قوية ومخاوف قوية . وهذا الحارس الغير منظور هو الدين .
وفي هذا يقول الجغرافي القديم " سترابو " :
" انك في معاملتك لأية مجموعة من الناس ، اجتمعت كما اتفق ، لا تستطيع بالفلسفة أن تؤثر فيهم . انك لا تستطيع ان تؤثر فيهم بالعقل ، أو أن تقنعهم اقناعا بضرورة الوقار والورع والإيمان ، كلا ، بل لابد لهم من الخوف الديني أيضا ، ولا يمكن اثارة الخوف في نفوسهم بغير الأساطير والأعاجيب ، فالصواعق والدروع والصولجانات والمشاعل ورماح الآلهة ، كل هذه من الأساطير ، وكذلك منها اللاهوت القديم من أوله الى آخره ، لكن مؤسسي الدول حرصوا على هذه الأشياء باعتبارها عفاريت يفزعون بها السذج من الناس " . ( قصة الحضارة – ويل ديورانت – المجلد الأول - ص 97 ) .
قال مكيافيللي في نصيحته للحاكم انه يجب عليه "حماية الدين ولو كان هو نفسه لا يؤمن به لأن الدين يعاونه على حكم الجماهير وعلى تثبيت سلطانه."
قال المنصور الخليفة العباسي " انما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده , أطيعوني ما أطعت الله فيكم " . وهذا يعني أن من خالفني ، فهو يخالف الله لأني ولي أمركم في هذه الدنيا .
.ونرى أن مظهر الخوف هذا له جذور تاريخية وله علاقة بالثقافة والموروث المقدس في حياة كل مجتمع . إن انتشار الخوف بين الرعية له انعكاس على الأخلاق والضمير والبنية الثقافية في المجتمع ، من قوانين وعقوبات ، والأهم من هذا ابتداء سلسلة الخوف من الله وامتزاجها بالخوف من الدولة ، ونظام الحكم سواء كان سلطان أو ملك أو خليفة أو حكم فردي .في حين يجب التفريق بين الخوف من المعبود والخوف من سلطة وأجهزة الدولة الظالمة .
ولكن لماذا التقت مصالح الدولة والحكام مع الدين ، لماذا هذا التزاوج بين الدين والدولة ؟ ذلك أن كلاهما يرتبط وجوده بأن يكون فوق المجموع ، ومسيطر على المجموع . فالدين يُخضع المجموع بالخوف والترهيب من الآلهة في الحياة ومن عقابها بعد الموت . ووسيلته زرع الأمل والترغيب في حياة فاضلة بعد الموت في الجنة . وهذا الاعتقاد يخلق مجموعة من المطيعين لأولي الأمر والمسالمين والقانعين والمؤمنين بالقضاء والقدر خيره وشره ، وأن الحياة مَعبرْ ، ولا تطمع في مال غيرك ، أي لا تمدن أعينك للذي متعنا به غيرك ، فهذا حسد ، وعليك بالأعمال الصالحة لأنها هي الطريق الى الجنة .
أما الدولة ، فتقوم مصالحها على السيطرة على الشعب ، الجموع الغفيرة من الناس ، وذلك بزرع المفاهيم التي تجعل وجودها بهذا الشكل دائم ، وقمع التمرد عليها بكل الوسائل . فالعنف مرتبط مع الدولة منذ ظهورها في التاريخ . فقد قامت إما لإدارة الحروب ،أو لإخضاع الجموع من الناس لسلطتها .
فالدولة هي جهاز للعنف تسيطر فيه قلة ، طبقة من الناس بالعنف على الجموع الغفيرة في البلاد . ومنذ ظهرت الملكية الخاصة في المجتمع الانساني ، أصبح قِلة من المالكين للثروة ووسائل الانتاج ، هم الذين يسيطرون على جهاز الدولة ، ويخضعون بالعنف الجموع الغفيرة الغير مالكة من الشعب ، والتي بحكم فقرها ، وعدم ملكيتها لوسائل العيش ، تخضع للسخرة والاستعباد وتضطر للعمل في ممتلكات الطبقة المالكة . وهكذا كان في التاريخ أسياد مالكين وعبيد مملوكين ، واقطاع مالكين للأرض , وفلاحين وأقنان لا يملكون شيئا ، وأيضا في المجتمع الرأسمالي توجد طبقة البرجوازية المالكة لأدوات الانتاج وتسيطر على جهاز الدولة ، وطبقة البروليتاريا الغير مالكة ، ولكي تعيش تضطر للعمل لدى المالكين لوسائل الانتاج .
ان مصلحة المسيطرين على جهاز الدولة ومصادر الدخل الوطني في البلاد تكون مع عدم التغيير ، بل بقاء الوضع كما هو عليه ، تحت سيطرتهم ، ولتحقيق هذا الهدف يجب إبقاء الناس في حالة عدم فهم للواقع ،جهلاء ،عن طريق تزييف وتشتيت المفاهيم لدى الناس عن الواقع ، وهذه المهمة يقدمها الممثلين الرسميين للدين عن طريق الفتاوي والتركيز على جملة من المسلمات الموروثة ، والتي تُبقي النظام العائلي ، السلطاني ، الملكي الوراثي كما هو . وبالأخص تبقي التقسيمة الطبقية في المجتمع كما هي ، وإقناع الناس أن وجود ناس فوق ، وناس تحت ، هي سنة الله في خلقة ، وأن هذا هو الوضع الطبيعي في الكون , ولا مجال لتغيير هذا الوضع الاجتماعي أبدا .
واذا ما ظهرت بوادر للتمرد على سلطة الدولة ، فالشرطة والسجون والقمع بكل الوسائل جاهزة للتصدي لدعاة التغيير والثورة والمطالبين بالحرية . كما أن المشايخ وممثلي الدين بكافة أطيافهم جاهزون لمساندة السلطة القائمة بالفتاوي والندوات وتفسير النصوص الدينية لصالح النظام القائم . ولا مانع لديهم من نعت الثوار بالمفسدين في الأرض والمخربين . ففي كل نظام جملة من ممثلي الدين لتبييض صورته في عيون الجموع الغفيرة من الناس في البلاد .
ويبقى هنا السؤال : هل الخوف يقتصر على الأفراد في المجتمع ؟ بالطبع لا ، فالمؤسسات العسكرية لا تعيش إلا على السرية ، وتخاف من نشر أي معلومة عنها على الملأ , فالسرية لعدد الجيش وامكانياته المادية وتشكيلاته ذات أثر كبير لنجاحها .
كما أنه لا يمكن تجاهل السرية التي تحيط بها المؤسسات العلمية ذات المنحى العسكري ، خصوصا في الدول التي تتنافس على الأسبقية في تطوير نفسها عسكريا وفي علوم الأرض والفضاء .
والنظام الديكتاتوري والملكي الوراثي يخافان من أن يتداول الشعب المفاهيم السياسية مثل : الثورة والديمقراطية وحرية الانتخاب والتطور الاجتماعي ، وتداول السلطة وحرية الرأي واستقلالية الصحف .
فالطغاة والحكام المطلقون يدركون تماما أن التعلُيم والكتب تحمل الخطر في طياتها ، لأنها ممكن أن تصب أفكارا استقلالية متمردة وتشهيرية في عقول رعاياها . ولا يعنيهم أن التعلُم والتعليم هو الطريق الى العلم ، وهو الذي يخلق الدوافع للاكتشاف والاختراع ولحراك اجتماعي الى أعلى ودفع دم جديد متعلم يؤمن بالتطور في كل نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية .
إن الخوف من انتشار المفاهيم الجديدة لا تجده الا عند أنظمة الحكم السائرة في الطريق الخطأ ، وما يعنيها هو خلق جيل مُفرغ من الدوافع للخلق والإبداع ، خلق جيل مُدجن لوقوعه تحت نظام تعليمي من الحد الأدنى ، بما يلبي رغبات نظام الحكم دون زيادة .
ان هذا يترك أثره السلبي على المجتمع ، فحركة التطور الفكري والاجتماعي تبقى ساكنة ومتباطئة ، مما يترك أثره على تردي الخدمات الصحية ويكثر الفساد الحكومي وتزداد معدلات الجريمة , وينخفض مستوى الدخل القومي . وبالتالي تزداد الحاجة الى الاستيراد ، وتنخفض الحاجة الى التطوير الصناعي ، مما يزيد وتيرة هجرة العقول ، وعدم القدرة على صعود الدرجات الدنيا من السلم الحضاري .
كما أن المؤسسة الدينية تخاف من أن يتعرف الجيل على الآراء الفلسفية والنظريات العلمية الجديدة ، إلا من خلال ما تروجه هي وتحاول أن تُعمم وجهة نظرها وتفرضها على المؤسسة التعليمية في البلاد . فمثلا في جميع الدول العربية يُمنع تدريس الفلسفات بأنواعها ، وخاصة فلسفة المادية الجدلية ، والفلسفات الداعية الى التحرر والديمقراطية . كما يُمنع تدريس نظرية التطور ، " النشوء والارتقاء " لتشالز داروين .
وفي الحياة العادية يظهر الخوف بمظهرين : الخوف من المعلوم ، أو من المجهول المعلوم ، أي يكون مجهول لي ومعلوم لغيري .
ففي الحياة نجد الخوف هو السبب الكامن خلف الكثير من السلوكيات الفردية في المجتمع ، فالخوف من الفصل من الوظيفة يدفع الموظف إلى الذهاب بانتظام الى العمل ، والخوف من التوبيخ يدفعه لإتقان العمل وعدم التأخير ، وأن لا يضع نفسه في موقف يستوجب التوبيخ .
وفي المدرسة ، فلكي يتفادى التلميذ العقاب يسرع الخطى لكي يصل المدرسة قبل قرع الجرس . والخوف من المخالفة يدفع سائقي المركبات إلى الالتزام بقوانين السير وعدم اختراقها .
فسلسلة الخوف يبدأ ترسيخها في الوعي منذ الطفولة ، حيث يتم توجيه الأطفال من الوالدين بتكرار التحذيرات من كل تصرف غير لائق اجتماعيا ، او كل سلوك له نتائج خطرة . وبتنامي الوعي وتبيان المنافع والأضرار المترتبة على الفعل ، يعتاد الجيل على السلوك الايجابي والغير خطر . فالخوف من المعلوم يزول بالوعي بالتربية والمعرفة والتعلم والالتزام بالقوانين .
أما الخوف من المجهول لك ، والمعلوم لغيرك . فيزول بقابلية التعلم والصدق والإخلاص في المعاملة بين الناس وكشف الحقيقة انطلاقا من الشعور بالمسئولية والتعاون البناء بين أفراد المجتمع .
أخيرا فإننا نرى أن الخوف يرجع في الأساس الى الجهل ، الجهل بالذات ، والجهل بالمجتمع ، والجهل بالتاريخ ، وهذا ما أورث الخوف لدى الإنسان ؟ فأينما يكون الجهل أكثر يكون من السهل السيطرة على الإنسان بتكثيف سلسة الخوف في وعيه . وأشد أساليب الخوف قوة ، هو الخوف الذي قام عليه الميراث الشعبي ، وهو الخوف من المجهول ، ومن خطر المجهول : الشيطان ، العفاريت ، إبليس ، عزرائيل واسرافيل .
قد يقول قائل إنني لن أخاف من أي شيء ما دمت أعمل بالوصايا الدينية . ونقول ان الايمان مبني على الخوف من المجهول ويضاف إليه الخوف من الدولة ، السلطة ، الحاكم ، الذي هو ولي أمرك .
إنك لا تملك حريتك ما دام هناك خوف ، ولا يمكن ان تتخلص من الخوف إلا بالوعي ، بمعرفة المجهول بشتى صوره ، وكيف دخل الى وعيك هذا الخوف ، وأصبح يتحكم في مسلكك اليومي من صحوك الى نومك . إنه الميراث الفكري الذي ورثته من المجتمع الذي تعيش فيه ، وارتدى صفة القداسة في وعيك . ولو وُجدت في مجتمع آخر ، لكانت مقدساتك وأفكارك غير التي تؤمن بها الآن .
لكن كيف نتخلص من عقدة الخوف ، سواء الخوف من المجهول ، أو الخوف من المعلوم ؟
والجواب : انه اذا عرفنا مسببات الخوف ، وكيف دخل الخوف في وعينا , وما هي العوامل التي تزيد من قوة تأثيره علينا ، عرفنا كيف نتخلص من الخوف بإزالة المسببات .
بالوعي ،وفهم تراكم الميراث الفكري في وعي الأجيال وكيف أصبح من المسلمات الغير قابلة للتغيير وكيف ارتدت صفة القداسة .
نستطيع أن نتخلص من الخوف , بالعلم والفلسفة وفهم التاريخ الإنساني وتطوره على مر العصور وكيف وصل الإنسان الى هذه الدرجة من الحضارة والرقي .
نستطيع التحرر من الخوف بالعمل على كسر التحالف الغير مقدس بين سلاطين الأرض وسلاطين السماء الذي دام قرون وقرون .
نستطيع أن نتخلص من الخوف بإخضاع كل شيء للمعقولية ، والتمسك بأن لكل شيء سبب معقول المقترن بالتواتر السببي .
نستطيع أن نتحرر من الخوف بزرع الجرأة وتقوية الرغبة في التحرر من الجدر الصلبة التي بنتها في وعينا جملة من المسلمات الممتزجة بالأساطير .
نستطيع التحرر من الخوف بالاعتراف بأن معيار الحقيقة هو مطابقة الواقع ، هو الاختبار ، هو التجربة ، والإخلاص لها .
وأخيرا ، لا ننسى أن هناك من ينادي بضرورة الخوف من قوة عليا ، لأن هذا الخوف هو ركيزة لحفظ أخلاق البشر . ونرى أنه بالوعي والأمان الاجتماعي والاقتصادي تسود الأخلاق الجماعية .
التعليقات (0)