من منا لا تراوده فكرة الخلود ، من أفقر انسان الى أغنى انسان على سطح الأرض .من ملك الملوك ، الى الفرد العادي من الشعب ، من منا لا يتمنى أن تستمر حياته الى مالا نهايه ، أو على الأقل لفترة تعد بعدة آلاف من السنين ، ويكون بكامل صحته ووعيه . من منا لا تراوده هذه الأفكار ولو بالأحلام ، وخاصه ، أحلام اليقظة التى تجعلنا نعيش رغباتنا كما نريد ، ونطلقها على سجيتها ، لنجتاز الصحاري والقفار ، ونركب أمواج البحار،ونبطش بعدو شرس ، ونهدم ، ونبني ، وننجح ، ونفرح ،ونلتقي أحبتنا ،ونعيش أمتع اللحظات ، كل هذا يحدث داخل مخيلتنا ونحن جالسين ، أو متكئين على أريكة ، ولم نبرح مكاننا . ان هذا تعبير عن الرغبة في عمل المستحيل ، امتلاك الامكانيات الخارقة ، والتي تكشف ولو جزئيا عن الرغبة في الخلود .
هناك رغبة في الخلود ولو جزئية ، الى حين تحقيق الهدف ، هدف بذل فيه شخص الكثير من وقته وجهده وماله ، ويتمنى أن يطول به العمر الى أن يرى هدفه وقد تحقق. وأحيانا ، يتمنى شخص أن يطول به العمر حتى يرى نهاية عدو ، أو غريم أ و شخص سبب له أذى لا ينسى . من منا لم تشغله فكرة الاستنساخ ، امكانية تكرار الكائن الحي لوجوده العضوي بنفس صفاته ، مرات ومرات بالاستنساخ ، وتمنى أن يستطيع ذلك ، لكي يكرر وجوده مع أحبائه لأطول فترة ممكنه. هناك فرق بين الخلود ككائن عضوي ، كجسد ودماغ بكامل الوعي والادراك ، والخلود ، وبالأكثر دقة التخليد بالأثر ، سواء بحفظ الجسد بالتحنيط ، أو التخليد بالعمل، بالبنيان ، بالاختراعات ، بالمؤلفات ، بعمل شيء خارق ، بالدفاع عن قضية عليا تهم الشعب والحقوق الوطنية . ولكن ورغم كل هذا فالخلود كهدف بعيد المنال وكل التجارب المعروفة لدينا باءت بالفشل ، والخوف من الموت ينبع من أنه خسارة كل شىء، أقصد كل شىء في هذه الحياة جربناه واستمتعنا به أكلا وشربا وعاشرناه وأحببناه انسانا ،ولما كان الموت لا مهرب منه لهذا نحاول أن نبعده عنا قدر استطاعتنا ، كأن لانعرض أنفستا للخطر الذي تكون نتيجته الموت أو الاٍقتراب منه ، فنحن مذ وجدنا في هذه الحياه ونحن نقاوم الموت منذ الطفولة اللاواعية الى أن وصلنا الى درجة الوعي ، والموت له شكلان مادي ومعنوي . فالمادي هو انعدام الحس بأي شىء كما في الحياة والتساوي مع المادة الجامدة ومن ثم التحلل والتلاشي . أما المعنوي فهو الاٍلقاء خارجا بعيدا عن الأحياء سواء في باطن الأرض أو في باطن أسماك البحر _ هناك قبيلة تدفن موتاها في البحر _ أو بالحرق _ كما هو في المعتقدات الهندوسية _، والاٍلقاء خارجا معنويا أي اعتباره شىء مهمل وليس له أية فائدة بين من هم أحياء . ونفسيا يولد هذا اٍحساس بالألم عند الكهول . ولا ننكر أن الموت معنويا يثير شعور بالخوف من المجهول ، الما بعد ، ليس مهما الزمن في الما بعد ، بعد مليون سنة أو عشرة ملايين من السنين ، المهم ماذا بعد ؟ والجواب هو أن كل المعطيات العلمية والتجريبية منذ التاريخ المكتوب وعلم الاٍنثربولوجيا ومنذ أن وعى الاٍنسان نفسه كاٍنسان ، كل هذا يقول أن ليس هناك من اٍمتداد ما بعد الموت ، أي امتداد مادي ، جسدي ، حسي لهذا الجسد الذي مات وتحلل واندثر . أما الأديان فاٍن لها رأيا آخر ، حيث في الميثولوجيا الدينية نجد عالما آ خر يلبي نزوع الاٍنسان ورغبته في الخلود ، وهذا العالم الذي تنسجه الأديان يختلف من أمه الى أخرى باٍختلاف تاريخها وأساطيرها عن الحياة والموت . ولفهم قضية الخلود والموت بصورة أعمق ،من الناحية العلمية ، فممكن وضعها ضمن الاٍمكان والاحتمال والواقع ، فلو قلنا لشخص عاش قبل خمسة آلاف سنة ، أننا سننتج في مزرعتنا دجاجا متخصص لانتاج البيض ، وآخر للحم ، وننتج أبقارا خاصة بالحليب ، وأبقارا خاصة باللحم ، وسيطير الانسان في الجو ويصل الى القمر ، وأن الانسان سيسكن المريخ يوما ما ، وسيكون باٍمكانك أن تكلم شخص يبعد عنك آلاف الأميال بآلة صغيرة تحملها في جيبك ، حتما لن يصدقك . ولكن لماذا لن يصدقك ؟ لأن المعطيات الظاهرة أمامه ، وهي لا تزيد عن معطيات الطبيعة البكر ،كما هي من جبال وصحاري وبحار وأنهار وأشجار ،كما أن دماغه الجنيني لا يستطيع تصور ما تقوله له ، وذلك لأن ما تقوله له هو نتاج نشاط الجنس البشري ، ومراكمة للخبرات العلمية والحياتية منذ آلاف السنين . اٍن نزوع الانسان الى الخلود والأحلام ، أوجدت في دماغ الانسان شكل من وجود عالم آخر ، عالم نقي ، عالم خال من التعاسة ، وتمنى أن يعيش في ذلك العالم ما دام لا مفر من الموت . فالامكانيات العلمية الحالية لا يمكن أن تحل مسألة الخلود ، فقط ممكن اطالة عمر الانسان ، وذلك بجعله يعيش في بيئة صحية تقلل من امكانية غزوه بالأمراض ، وبالتالي ، موته مبكرا . وبعد كل هذا فاٍن معطياتنا الحسية ومدركاتنا العقلية تقول أننا سائرون للموت رغم أنفنا ، فكل الخيارت في هذا المجال مسحوبة منا ، فوجودنا كبشر ليس بارادتنا ، وموتنا ليس بارادتنا ، ولن نرغب في مغادرة الحياة مهما كانت صعبة ، فالموت لا يمكن تفضيله على الحياة ، بحلوها ومرها ، حتى أفقر الناس يرفض الموت ، اٍلا في حالات الاختلال العقلي ، أو الايمان بمثل وأهداف تنبع من المقدس ، تجعل شخصا ما يضع نفسه في موقع مميت ، على أمل أن يحصل على الحياة الأبدية بما فيها من جنان وحوريات وولدان مخلدون . والملاحظ أن أ كثر الناس تدينا هم الأكثر حرصا على الحياة ، ولو راقبت سلوكهم اليومي لوجدتهم أكثر الناس شرها وشبقا وخوفا من الموت . ... أخيرا نحن نقبل الموت لأننا سائرون اليه رغم أنفنا فالخلود بعيد المنال، وما الايمان بالوعود ما بعد الموت اٍلا نزوع نفسي لحياة أفضل ، ورغبة في الحياة رغم المآسي التي نمر بها .
التعليقات (0)