مسرحية " الاقي زيك فين يا علي" للمخرجة لينا أبيض
مسرحية " الاقي زيك فين يا علي" للمخرجة لينا أبيض
ضحى عبدالرؤوف المل
توجت الممثلة " رائدة طه" عملها المسرحي " الاقي زيك فين يا علي" باحاسيسها المفعمة بحدث استشهاد والدها اثرعملية الطائرة البلجيكية سابينا عام 1972 وبعد اكثر من اربعين عاما استطاعت عمتها سهيلة بمثابرتها وقدرتها على متابعة قضية الحصول على جثة اخيها، لتدفن في مدينة القدس حيث اقتحمت الفندق الذي كان يقيم فيه وزير الخارجية الأميركي " هنري كسينجر" في القدس، وطلبها منه استرجاع جثة شقيقها ونجحت في ذلك ودفنته وفق ما يقوله الإسلام.
بنت الشهيد واحاسيسها على خشبة مسرح مفتوحة للحكاية بكل تفاصيلها المؤلمة واحداثها المعروفة وغير المعروفة، وما يتبقى بين الخبايا يروى تمثيليا بجرأة ترتكز على الانفعالات الحسية مستبدلة العاطفة الابوية بأب حنون آخر هو القائد الراحل " ياسر عرفات" لتروي له ايضا ما تعرضت له من محاولات جرحت مشاعرها كابنة شهيد، فهل مسرحية الممثل الواحد عند المخرجة" لينا ابيض" تركت للمسرح طبيعة حكاية حرة تعيد للذاكرة احداث فقدان الشهيد " علي طه" ؟ ان ما يجهله المشاهد او الانسان العادى من رؤية ما يتبع من حدث الاستشهاد والفقدان وما يليه من تخيلات نبعت من الاحساس بالمشاركة في القتال، لتثأر " رائدة طه" لوالدها برقصة حالمة تعوضها عن الواقع الذي منعها من الثأر. لتحمل سلاح الكلاشنكوف وتقاتل بفن مؤثر، وبوجدانية ومعاناة اهل كل شهيد بعد استشهاده ومرارة الفقدان لشخص هو الحكاية بأكملها.
تجسيد صوتي حركي من خلال عبارات دلالية في الخطاب المسرحي الموجه بانشطاراته المتعددة الى فضاء العرض بتنوعه الاخراجي، ومعالجاته الفنية المنسجمة مع فلسفة الشاشة المرئية التي استخدمتها " لينا ابيض" وبما يتوافق مع تزامنية النص اللفظي والحركي، وبتفاعل وهارمونية واتساق في بنية العرض وجوهره، بكفاءة مستترة مسرحيا. لكنها ملموسة في الشفرات التفكيكية التي تركتها المخرجة " لينا ابيض" للناقد وباستهلال القديم الجديد من خلال اغنية " الاقي زيك فين يا علي" لتوطد العلاقة مع الجمهور كي تبدأ عبر الاداء برؤاها الاخراجية المتوازنه مع النص دون ان تتدخل في تغيير الاسس، متجاوزة بذلك المسرح التقليدي متحدية التسلسل المنطقي للحكاية تاركة لرائدة طه اللوحة المسرحية، لتملأ الصورة البصرية بأطر النص الدرامي الاخرى . اي تلك التي تحسم اشكالية الاخراج والنص، لتقود دفة العرض وفق حداثة حكواتية تتماشى مع الخطاب المسرحي الذي يضفي على الزمن قيمة حقيقية معالجة بذلك موضوعا انسانيا مرتبطا بشعب فلسطين اولا، وبالقدس ثانية وباشكالية دفن يستحقه الشهيد في موطنه
عمة ما زالت على قيد الحياة تعيش في القدس المحتلة، وتحمل في نفسها حزن فقدان الاخ الحنون، وهي الجريئة القادرة على متابعة قضية طلبت منها الوصول الى السفارة الاميركية لمتابعة قضية استرداد الجثة لتدفن وفق الاصول . حيث توحدت الفنانة" رائدة طه" مع الجمهور في حالة تشكلت مع الانفعالات المتوازنة بين الحكاية النوستالجية والذات، وخشبة المسرح اخرجت " رائدة طه" مكنونها التمثيلي بوعي ترك اندفعاتها تزيد من تأثر الجمهور مع القدرة الاخراجية في الرؤية الكاملة للحكاية وتفاصيلها للحفاظ على الحركة المتجددة، لتبتعد " لينا ابيض" مع " رائدة طه " عن الروتين بمهارة مسرحية تفاجىء الجمهور. لان الحكاية برمتها مروية تعبيريا على لسان الابنه، وصدق مشاعرها تغلغلت في نفس المشاهد عبر التضاد الحركي والانفعالي، والتعبير الجسدي المتمكن من ايصال المعنى حتى بين نفس ونفس، فالتضاد في المصطلحات التمثيلية والتعبيرية مشدودة في الاداء الشفهي والتعبيري الحركي ضمن المضحك المبكي، الموجع والمفرح، المقلق والآمن. لننتقل من مرحلة الى مرحلة دون الانتباه اننا امام ممثلة واحدة تروي الحدث شفهيا بكل مرارة ابنة الشهيد.
فيض مسرحي زاخم بالمعاني الانسانية المرتبطة بزمن الكفاح الفلسطيني، والفترة التي توالت مع استشهاد " علي طه" فالاخراج المسرحي تنوع في تفاصيله ضمن الاطر المرسومة لخلق حيثيات ترافق التمثيل دون تقييده برؤية المخرج، ليتحرر النص بالكامل من سلطة المسرح ولتتمسك " لينا ابيض" بالاسس البصرية والمرئية ضمن السينوغرافيا والضوء والشاشة، وبحميمية الزمن الخارج من ارشيف الى مسرح مع امرأتين تجسد كل منهما حالة فنية . جمعت بينهما قصة استشهاد "علي طه " بكامل تفاصيلها الغير معروفة للجمهور. لأن ما يبقى في نفس عائلة الشهيد لا يمكن الاضطلاع عليه او معرفته بدقائق تفاصيلها ، بل بدقة من عايشها واخرجها من بواطنها الوجدانية ، وهذا الفضول المعرفي حشد الجمهور على المسرح ضمن حكاية مسرحية نجحت في ايصال المعنى باكمله من الخاص الى العام .
استطاعت المخرجة " لينا ابيض" توظيف الصور المؤرشفة عبر الابعاد المرئية المؤثرة على المشاعر بقوة حوارية تخاطب بها المادة الحكائية المسرودة بدينامية شفهية، وفضاءات اخراجية ماهرة في بث الحركة عدة نقاط تركتها في متخيل الجمهور على مقعد الرواي، ولكنه المسرح الحقيقي لكل الانفعالات الاخرى من مشاهد ورؤى ثانوية غلفتها بمشهد استرجاعي للجثة، وبأسلوب مسرحي اعتمد على الابعاد البصرية والسمعية معا متآلفة بذلك مع نص درامي حلق على لسان " رائدة طه" وتعابيرها المتحررة من زمن الكبت الطفولي الغامض في زمنيته،والخارج من ذاكرة امراة خمسينية تحمل تفاصيل الغياب مع سني عمرها وافراد اسرتها، فالاستشهاد المحمل بالاسى منحها القوة في استخراج مكنونها ، وكانها تصرخ للعالم انا ابنة الشهيد، انا ابنة الحي الذي لن انساه حتى الموت، انا دمعته العالقة لتحرير فلسطين ، انا فرحته الباقية في هذا العالم المحزون على القدس، وبعمق درامي ذي متانة مونودرامية ممزوجة بكوميديا تراجيدية عن طفولة تنتظر الغائب، عن مراهقة بحثت عن الاب، عن امرأة خمسينية فتحت قلبها لتروي الحكاية .بمزاجية تحكمت بها ابداعيا على المسرح، كانها تعيش تفاصيل الاستشهاد مرة اخرى على المسرح، وبوجع فلسطيني عفوي بمصداقيته المسرحية .
ما بين الماضي والحاضر ذروة تكنيك مسرحي لعبت دوره المخرجة " لينا ابيض" عبر مؤثرات الضوء والصوت والصورة ، والمراحل التي استوقفتها لعرض حياة الشهيد " على طه" تاركة لابنته الحرية المسرحية في النص والتمثيل، وبحرية تأسر قلب المشاهد الذي امتلأ بالحنين وبدمعة ترقرت في العيون بعد مشاهد ختمتها بقولها " رجعت عالقدس لأنو علي مش راح يموت إلا لما أنا موت" وفي هذا تجسيد للشهيد الحي بيننا دائما في الذاكرة والتاريخ، وببصمة الحاضر المخنوقة بكلمة سهيلة وهي تغني " ألاقي زيّك فين يا علي".
التعليقات (0)