إن من الموضوعات التي باتت تشغل المفكرين والفلاسفة، موضوع التأثير والتأثر بين الثقافتين اليونانية والإسلامية، من أجل هذا كان البحث عن الحقيقة. فرأى البعض إن العرب لم يستطيعوا أن يؤصلوا لفلسفة خاصة بهم في العصور الأولى- قبل عصر الترجمة - ولأن مظاهر الفكر الجاهلي لم تتسع لأكثر من الأمثال والحكم، كما أنها لم تتسم بسمة البحث الفلسفي المنظم كما عرف مع اليونان، هذا وإن أثبتت أصالة للفكر الإسلامي كانت جزءا ضئيلا من التراث الذي تناول موضوع (الألوهية، الذات والصفات) المستند على القرآن والسنة ودون تداخل مع الثقافة اليونانية. ( 1)
وهذا ليس معناه أن ننكر ما كان للنقل إلى العربية من نفع جم، لكن هناك من رأى مراجعة هذا التأصيل في قسمه الثاني – النقل إلى العربية- انطلاقا من مراجعة الفلسفة قبل مراجعة الترجمة وهذا ما سنعمل على إيضاحه في هذا البحث المتقدم.
1-1- التأصيل الفلسفي أسباب وعوامل:
إذا كان التأصيل بمعناه الإيجابي هو شرط الإبداع الأصيل. لكن حصر هذا الإبداع في الذات يجعل البعض يتساءل كيف يختار أن يكون كما هو اجمتاعيا، سياسيا، دينيا وفلسفيا و... وهنا يأتي السؤال عن: ما هي الأسباب التي دفعت "طه عبد الرحمن" كغيره من المفكرين إلى محاولة تأصيل الفكر والنقل ؟
يمكن أن نقول من الأسباب التي دفعت "طه عبد الرحمن" على محاولة التأصيل هي:
1- مظاهر المجتمع المتخلف وموضوعاته، هي التي فرضت اختيار ثقافته التي لم تخرج عن ثنائية ( الأصولية المتطرفة للماضي، أو الاغترابية المنبهرة) في التعامل مع التراث أو الواقع.
2- عدم دراسة علوم الأوائل (العرب) دراسة كافية تجعلنا نستفيد منها في واقعنا المعرفي والحضاري الآني وهذا ما نستشفه من خلال حديثه عن تجديد المنهج في تقويم التراث.
3- المذاهب الموجودة في واقعنا الفكري ليست وليدة بيئتها عكس الغرب، بل هي تعبر عن مذاهب الآخر هذا فلسفيا، أما دينيا فقد ظهر الصراع بين المذاهب مما أدى إلى تناحر فكري فيما بينها مما ساهم في ظهور التجزئة في التراث وغياب التكاملية فيه سواء تعلق الأمر بالمنهجية أو القراءة أو المرجعية وهذا ما يستلزم عنه إبداع عقيم في تأصيله وهذا في تعلقه بالانقطاع بالمعنى السلبي.
4- غياب التنظير المباشر للواقع سواء على المستوى المحلي المؤدي إلى غياب ثقافة أصيلة لغياب المنهج الاجتماعي في دراسة الأفكار، لأنه يدرس الأفكار منذ نشأتها وتكوينها من الوضع الاجتماعي. أو على المستوى الخارجي المتمثل في تأصيل الوافد في واقعنا نحن أي تأصيله في مجالنا التداولي. وعدم الالتزام بالواقع أسبابه كثيرة منها: ما يكمن في التراث (أولوية النص)، وما يكمن في النقل عن الغرب (اجتثاث المعرفة من بيئتها)، وما يكمن في ظرف العصر وضرورة العيش في ظروف القهر المتولد عن (اللاشعور الجمعي: بغياب الإنسان والتاريخ في التراث القديم وحضور الله والوحي، واللاشعور السياسي: في مواجهة التسلط وأحادية الرأي واللاشعور الديني: في إعطاء الأولوية للنص والواقع وسيادة الإشراف الصوفي على الحكمة القديمة مما أدى إلى تحول جدل الطبيعة والتاريخ إلى جدل عواطف وانفعالات كما هو واضح في حالات الصوفية).
5- المحافظة على الهوية دون الوقوع في مخاطر الانغلاق عن الذات (sujet) ورفض كل مساهمة للغير (Autre) والمواجهة الإيجابية لثقافات العصر دون الوقوع غي مخاطر التقليد (Imitation) والتبعية، وهذه هي القضية التي يثيرها الجميع باسم الأصالة والمعاصرة.
وفي هذا السياق كان المسعى إلى التأصلية العربية المعاصرة التي يروج لها غير واحد من المفكرين العرب المحدثين والمعاصرين لتحقيق النمو والتكامل للعقلانية العربية المعاصرة، منذ بدأت المحاولات الأولى وإلى اليوم، وهذا ما سنعمل على إيضاحه بالتفصيل في النقاط المتقدمة من هذا البحث.
1-2- الإبداع الفلسفي وصلته بالمنقول الفلسفي:
6- « تلقى الإسلام التراث الإغريقي، كما فهم الأعمال الأصيلة أكثر من فن تزوير الكتابة وهذا الإرث المنقول عند الغرب في القرن (12م) بفضل أعمال "طوليد" وأهمية نتائجها عن هذه الترجمات من الإغريقية إلى السريانية ومن السريانية إلى العربية». ( 2)
وهذا معناه أن ممارسة فعل الإبداع في الفلسفة لا تجعلنا بعيدا عن كل ما يمت بالصلة للمنقول الفلسفي والمأصول الديني، كما يرى "طه عبد الرحمن" نفسه لأنه لم يتأت هذا المعنى لمن شهد لهم بكمال الإبداع من متفلسفة الغرب، وهنا تبرز لنا المرجعية الدينية لفكر "طه" التي ترفض هذا الانقطاع وتربط الإبداع بالعلم والدين في الوقت نفسه، لأن مقتضى التدين عند المسلمين يحملهم على طلب الحكمة والعلم، والحال نفسه يثبت لمتفلسفة الغرب في هذا المجال. لكن هذا لا يمنعنا من « فهم الدور الذي تحمله سوريين كملقنين للفلاسفة المسلمين الفلسفة الإغريقية, ويجب امتلاك على الأقل وباختصار مقدمات الفكر التاريخي وتقلبات ثقافة اللغة السريانية». ( 3)
وهذا لتفادي المحمولات السلبية في هذا المنقول عن طريق الترجمة لتحقيق الإبداع الفلسفي الحقيقي وهنا تكمن العلاقة السلبية بين الفلسفة والإيديولوجية في ظل النقل, وإن تحقق الإبداع في ظل أحد الإنقطاعيين أو الانقطاع المزدوج لا محال واقع في التناقض: هذا من جهة الواقع أومن جهة الدين,وهذا ربما نجده مبرر لغياب الفلسفة الحقة في عصر الأوائل – من العرب – وعصرنا بدليل قول ″ أبو نصر الفارابي ″ ALfARABI (872-950 م): « فإنهم قد بلغوا واجتهدوا, ومن بعدهم إلي يومنا هذا, ممن لم يكن قصدهم الحق بل كان كدهم العصبية وطلب العيوب, فحرفوا وبدلوا ولم يقدروا مع الجهد والعناية والقصد التام, على الكشف والإيضاح, فإنا مع شدة العناية بذلك نعلم أنا لم نبلغ من الواجب فيه إلا أيسر السيرة لأن الأمر في نفسه صعب ممتع جدا». ( 4) ونفهم من هذا كله أن الانقطاع بمعناه السلبي لا يؤدي حتما إلى الإبداع الفلسفي المستقل والخاص، لكن بمعناه الإيجابي التابع لفكرة التأثيل كما يطرحها "طه عبد الرحمن" للمنقول الفلسفي، وعلاقته بالتدين الخاص، ما يعني لنا أن له علاقة بالمجال التداولي الخاص والمنطلق في هذا هو مراجعة الفلسفة قبل الترجمة وهذا لا يكون إلا بالانتقال من رتبة الاشتغال بالفلسفة إلى رتبة الاصطناع لها، وهذا لا يتأتى إلا بالنظر في الفلسفة كما ينظر لها الصانع في الآلة وهو ما أسماه "طه" ب"فقه الفلسفة".
وبماأن الفلسفة الموجودة عندنا هي حصيلة أعمال الترجمة طرحت مشكلة الترجمة من الدرجة الأولى، حيث يكون لها الانطباع المعاكس في بدايتها أما الآن فلا، وهذا ما نستشفه من قول "جورج مونان" (Jorge Monon): «يكون بالأحرى الانطباع المعاكس حيث كانت المناقشات قديما حية منذ "سيسرون" (Cicéron) (106-43ق.م) إلى لوكونت دولسيل (Lecont de lisle)، أما اليوم فالجميع متفق على هذا عندما نتذكر (La guérilla) في معرض ترجمات "شكسبير" (Shakespeare)(1564-1616م) في النادي الفرنسي للكتاب (Club France de livre) فإننا نشعر بالخطأ التاريخي أو سوء الفهم. ونجد أن الأساتذة والكتاب (وهما الفريقان) يقضون على الكلمة كلمة "الترجمة الحرفية" التي تشوه المعنى... يريدون أن يكونوا أمناء للنصوص وغير أمناء في نفس الوقت للغة الفرنسية ولا للشعر ولا للعبقرية الشعرية». ( 5)
وعليه كان الإشكال الذي يراود كل من له محاولة الإجابة عن سؤال الإبداعية الفلسفية مع دوام إمداد الترجمة لهذه الفلسفة فكان أول ما ينظر فيه هو "فقه الفلسفة" وهو الصلة بين الفلسفة والترجمة وبما تخدم عملية الإبداع الفلسفي.
وما يبرز لنا هذا الحديث هنا والذي نراه دافعا للتأصيل عند " طه عبد الرحمن" هو التعارض بين عقلانية الفلسفة وفكرانية الترجمة والتي رأى إنه لا سبيل لحلها ما لم تحصل مراجعة الفلسفة ولا مطمع في هذه المراجعة ما لم يتم النهوض بفقه الفلسفة. لنتبين صفة الفكرانية القائمة على الترجمة من خلال التصور السائد عن الترجمة الراجع إلى التأثير الديني كما يتجلى في "قصة برج بابل في التوراة" التي صارت في التراث اليهودي المسيحي ترمز إلى اختلاط اللسان، أولا وثانيا في "ترجمة الإنجيل" حيث أنه نزل باللغة "الآرمية" في حين أن نصوص الإنجيل الأربعة المشهورة المنسوبة إلى "متى" و"يوحنا" و"مرقس" و"لوقا" وردت باللغة اليونانية، والغرض من التصور الديني للترجمة هنا هو ممارسة الدعوة إلى المسيحية بين الشعوب من خلال العمل الترجمي الكنسي، وثانيا القيام بوساطة يمثلها المترجم في التصور.
الهوامش والإحالات:
1- قمير يوحنا، أصول الفلسفة العربية، دار المشرق، بيروت، ط5، 1973، ص( 12، 139).
2 - Corbin Henry, histoire de la philosophie islamique, Edition Gallimard, France, 1968,pp(30-31). 3 - Ibid, p 31.
4- أبو النصر الفرابي، الجمع بين رأيي الحكمين، ص 109.
5 - مونان جورج، اللسانيات والترجمة، تر:حسين بن زروق، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 2000، ص.11.
التعليقات (0)