أخوة أم صداقة شارع
رَحلتُ اليوم بخاطري رحلة لعدة سنوات مضت ، رحلة ليست إلى سهل ولا إلى جبل ، ولا إلى بَرٍ ولا إلى بَحر ، ولكن إلى عالم مسحور من عوالم ذكريات المراهقة والشباب الأول ، يا رحمة الله على تلك الأيام كنا نتعرف فيها على كثير من الشباب في أماكن مختلفة في المدرسة في ساحة كرة القدم أو على شاطيء النهر أو في أحد المتنزهات ، وكان أبي يطلق على صداقاتي هذه الكثيرة والمتعددة بأنها صداقة شارع ، لماذا هذه التسمية ؟ لأن التعارف واللقاء تمَّ خارج بيت كلانا ، ولم يَدْعُ أحدنا صاحبه إلى بيته ، فالتعارف تمَّ في الشارع ، واللقاء كان كذلك ، وحتى مواعيد اللقاء تتم في الشارع فضلاً على إنه لا توجد التزامات تجب عليك من جراء هذه الصداقة، فهذه صداقة غير مكلفة ، ولكن صديق الشارع هذا، إذا دخل حَيك بحث عن بيتك حتى يجده ليسلم عليك ، فإذا ما تعرف على الدار طرق بابه ، وسأل أهل الدار عنك ، وإذا قيل له أُدخل ، أحجم عن الدخول ، وانتظرك حتى تخرج إليه ليسلم عليك وبعد عناق وقبلات حارة ، يقول دخلت الحي أو الشارع لأقضي عملاً ما ، فقلت إن لي صديقاً فيه فأحببت أن أسلم عليك ، وإذا ما سمع إني مريض هرع إليَّ ليزورني في المستشفى وكان بعضهم يبقى معي الأيام داخل المستشفى ، وإذا ما أردنا أن نذهب إلى الحلاق ذهبنا جماعة ، وكذلك إلى دار السينما ، وإلى السفرة ومن لا يوجد لديه مال منا أخذناه معنا عنوة ودفعنا عنه حلاقته وأجرة السينما وقناني المشروبات الغازية وكذلك لفات الساندوﭺ ، وأجرة السيارة وعدنا مسرورين إلى بيوتنا . وإذا ما حدث عندي فرح شاركني فيه ، وإذا ما نظرت إليه يخيل إليك أن المناسبة هي مناسبته وكذلك الأحزان ، وإذا ما رآني أتشاجر مع أحد الشباب ، شاركني هذا الشجار ودافع عني بقوة وتحمل من أجلي الإيذاء ، ومع ذلك نحن في منظار أبي أصدقاء شارع !!.
كم أتمنى اليوم أن تكون صداقاتي المتعددة والكثيرة مع أصدقائي المقربين كأصدقاء الشارع أولئك لأني لا أرى فيهم كل ما ذكرت آنفاً .
وكم أتمنى أن يكون أخوة لي في الله من الذين أحسبهم على خير كأصدقاء الشارع أولئك .
وكم أخوة أو جماعة انسقنا خلفها لسنوات ، وليتهم وليتها كانوا كأصدقاء الشارع أولئك ، وهذه دعوة لكم أن نكون أصدقاء شارع لا غير ، ولكن بصفات أصدقاء الشارع الكرام أولئك .
الأخوة هي أساس الحياة ، عليها تقام المجتمعات ويستمر وجود الجماعات ، وأنا أؤمن بأن للأخ حقوقاً عليّ ، وصرت في بعض الأحيان أُحب ، وأبغض على هوى ومراد أُخوة لي ، وأنا لا أعرف اليوم كيف أشكو أُخُوتي التي أحببتها ؟ ، ولا أعرف كيف أديمها أو كيف أعمل لأجلها ، وإني لأعجب كيف يحيا الكاذب والمنافق سعيداً ؟ وكيف لا يموت الشريف الصادق من الأسى على تلك الأيام وعلى أولئك الأصدقاء والأخوة الكرام ؟
لم أصدق أن ذلك كله حدث لي ؟ وكيف أصبحتُ لا أبصر معاني الأُخوة الجميلة اليوم ؟ ، هل لأن الوجوه تغيرت أو لأن القسمات اختلفت والأخلاق تبدلت ؟ ، وأصبح السمت غير السمت ، ويجب عليّ أن أصدق أن هذه هي الأُخوة .
وقفت على مفترق طرق أنظر إليها ، كلما هبّ غبار قلت : هل هذا غبار موكب من مواكب إِخْوتي ؟ نعم إنه هو ، ثُمَّ أسأل نفسي مالذي جرى ؟ لماذا أصبح الحق لدى بعضهم خطيئة ؟ ، لقد أصبح المنظر مألوفاً يحدث في كل يوم ، فتصوروا أثر ذلك في النفس ، فلا أستطيع أن أنام حتى أفكر في ألف حماقة وحماقة ، وما قصصت هذه القصة إلا للذكرى والعبرة وليس تهويلاً للأمر ، وإنما هي وصف لواقع نعيشه اليوم مع أُخوةٍ وأحباء لنا ، هذه الكلمات في وصف صداقة الشارع لاتطفئ حنيني الى تلك الصداقة ولا يطفؤه دمع العين ولا حرقة القلب ، ولا كثرة الشكوى؟! .
وأخيراً أود أن أقول أن الستر ارتفع عن الكثيرين من الأحباب ، وسيرتفع عن آخرين أيضاً .. إنها قصة لم يخترعها خيال كاتب ولم يؤلفها قلم أديب ، بل ألقت فصولها في ركاب الدعوة وأحببت أن أرويها كما كانت لقد مشيت في ركابها ، وسحت في جنباتها ، وكبرت في أحضانها ، ورأيت أُخُوتي تترنح أمام ناظري ، فياترى هل تغيرت الأُخُوة أم الإِخْوة قد فقدوا الحس والشعور بها؟! .
التعليقات (0)