يعتبر الكثير من المعلقين أن حل اﻷزمة السورية سوف ينتظر انقشاع غبار الانتخابات اﻷمريكية لأن الرئيس اﻷمريكي المقبل "سوف يكون مطلق اليدين في التعامل مع نظام الشبيحة في دمشق". لسان حال هؤلاء يقول "ٳن سوريا هي بيضة القبان في الشرق اﻷوسط بموقعها المتميز استراتيجياً وأمريكا لن تضيع فرصة وضع يدها على شرق المتوسط من البوابة السورية".
من هذا المنظار يتم تقديم أمريكا كتاجر جشع يبحث بأي طريقة عن أسلوب "للسطو" على بلاد الشام بأي طريقة، هكذا يغدو العداء ﻷمريكا رديفاً للرغبة في التحرر والانعتاق من قيود التبعية. هذا هو، بالمناسبة، ذات منطق نظام العصابة في دمشق وأصدقاؤها ممن يعتبرون أن أمريكا هي "الشيطان اﻷكبر"، فهل هذا الكلام سليم ؟ وهل أمريكا راغبة في الدخول ٳلى "المستنقع" السوري ؟ ولماذا؟
ليس أكيداً أن الموقع السوري "جذاب" بالنسبة ﻷمريكا، فالبلد "محشور" بين أصدقاء أمريكا وليس لديه موارد تذكر، فهل أمريكا، حليفة تركيا، بحاجة لموانئ وقواعد في شرق المتوسط وهي التي تملك قواعد راسخة في أوربا وتستفيد من تسهيلات في ٳسرائيل ومصر؟ الموقع السوري حساس ومهم، لكن بالنسبة ﻹيران التي ستضع قدمها على شواطئ المتوسط ولروسيا التي خرجت من مولد "الربيع العربي" بلا حمص. ٳسرائيل هي اﻷخرى لها كل المصلحة في وجود نظام صديق لها في دمشق اﻷسد يحمي حدودها الشمالية ويقوم بالمهمات القذرة لحسابها. أما أمريكا فلن تجني من الموقع السوري سوى "وجع الرأس".
هذا يفسر البرود اﻷمريكي ولا مبالاة سيد البيت اﻷبيض بمعاناة السوريين، فلو كان "الدب" اﻷمريكي يتلهف الفرص للدخول ٳلى كرم الشام فالفرصة سانحة، لكن الغنيمة "ليست محرزة" بالنسبة للعم سام في سوريا على خلاف "الوليمة" الليبية ونفطها الوافر.
ما مصلحة القوة العظمى اﻷولى في التدخل لمساعدة السوريين على قلع أشواكهم والتخلص من حاكم دمشق السفاح ؟ هل يمكننا الركون ٳلى واجب اﻷمريكيين اﻷخلاقي كالدولة اﻷكبر في العالم تجاه الشعوب المسحوقة ؟ من ينتظر موقفاً أخلاقياً محضاً من قبل الرئيس اﻷسمر سينتظر طويلاً، فالرجل "براغماتي" وانتهازي ولن يفعل شيئاً لمجرد دافع أخلاقي. سياسة الرئيس "اوباما" في هذا المجال تشبه كثيراً سياسة الرئيس "جورج بوش اﻷب" والذي كان أقل رؤساء أمريكا أخلاقية وحساً بالعدالة واﻹنسانية، حين دفع العراقيين للثورة على "صدام" وترك جلاد بغداد يحصد 500000 شهيد من مواطنيه تحت سمع وبصر جنود العم سام.
علينا أن لا ننغر بالخطاب الراقي واﻹنساني للرئيس "اوباما" الذي أجزل الوعود الفارغة للعرب وللشعوب المستضعفة وأبدع في "صف الكلام" على مبدأ "الكلام ليس عليه جمارك...". الرئيس "اوباما" لا يتحرك ٳلا بناء على مصالحه ومصالح أمريكا العليا. الواقع المر يقول أن لا مصلحة عليا، استراتيجية أو اقتصادية، ﻷمريكا في سوريا، لا اليوم ولا غداً. بالنسبة ﻷمريكا، سوريا دولة ثانوية مثلها مثل الصومال ولولا الحدود المشتركة لسوريا مع ٳسرائيل وأسلحة اﻷسد الكيماوية لنسي اﻷمريكيون وجود الدولة السورية.
مع ذلك، نرى الرئيس "اوباما" يذكر سوريا بأكثر مما يذكر الصومال ! فما السر ؟ تفسير هذه اﻷحجية هو في سياسة "الدور اﻹقليمي" التي أرساها الأسد اﻷب، مؤسس العصابة، الذي أدرك أن سوريا لا أهمية استراتيجية تذكر لها، لكنها ستجد موقعاً لها على خريطة العالم حين تصبح "مزعجة" للقوة اﻷكبر وحين تعرض خدماتها و"تتحرش" بالجيران وتجعجع بالحروب، مثل كوريا الشمالية و"بنما" في ظل نورييغا. هذه الدول الهامشية التي تأتي أهميتها من مشاغبتها، كالطالب الفاشل الذي يثير الانتباه ببهلوانياته.
المشكلة أن اﻷسد الصغير تجاوز حدود "المشاغبة" المقبولة التي رسمها اﻷسد اﻷب ضد أمريكا وساهم مباشرة في سفك دماء جنود أمريكيين في العراق خاصة، ثم ذهب بعيداً في الخضوع للسياسة اﻹيرانية بما قد يشوش على السياسة اﻷمريكية وتوازناتها الدقيقة في المنطقة.
هناك ٳذاً "حساب دم" مفتوح بين العم سام واﻷسد الصغير واﻷمريكيون لن يتركوا بشار دون محاسبة ولو بعد حين. لكن شتان ما بين تصفية حسابات أمريكا مع اﻷسد وبين مساندة العم سام للثورة السورية والمساهمة في انتصارها. الوضع الراهن من الصراع غير المتكافئ لكن المستمر، وسقوط الضحايا من الطرفين في سوريا، ٳضافة ٳلى حشر اﻷسد في الزاوية قد يكون كافياً لشفاء غليل اﻷمريكيين. حتى اللحظة، تبدو سياسة السيد "اوباما" سائرة في هذا الاتجاه : "دعوا اﻷسد ينزف ببطء دون أن يموت..." وليمت السوريون بالآلاف في هذه اﻷثناء.
في حال انتصر الجمهوري "ميت رومني" في الانتخابات اﻷمريكية، فسيكون هذا خبراً سيئاً لبشار، ﻷن الرجل قد يفضل "تصفية حسابات" الماضي مع عصابة اﻷسد "بالذراع". مع ذلك سيجد رومني نفس المعادلة التي تواجه "اوباما" حالياً لجهة غياب المصلحة الاستراتيجية اﻷمريكية في بلاد الشام وسيكون التدخل العسكري اﻷمريكي المباشر في سوريا في غياب تفاهم ٳقليمي وأرضية مشتركة مع الثوار السوريين، تكراراً لخطأ "بوش الابن" في العراق.
على اﻷغلب، سينحصر التدخل اﻷمريكي في أحسن الحالات في تقديم دعم سياسي ولوجستي للثوار والسماح بوصول أسلحة نوعية لهم بما يسمح بانتصارهم، بشرط أن يكون ﻷمريكا ما تكسبه من انتصار الثورة وليس مجرد "فش خلقها" في عصابة اﻷسد.
ٳن كانت الثورة السورية تريد أن تنتصر فعليها أن تبحث لنفسها عن أصدقاء يشتركون معها في المصالح دون الاكتفاء بالخطاب الثوري الرومانسي والفارغ حول "الثورة ستنتصر ﻷن الشعوب دوما تنتصر...". هذا ليس صحيحاً، فالثورات تنتصر حين تتوفر لديها مؤهلات النصر أو حين ينهار أعداؤها بعد أن يفقدوا القدرة على الانتصار واﻷسد لا زال قادراً على الصمود بفضل أصدقائه. النصر أو انهيار العدو هي أمور موضوعية تخضع لقواعد منطقية لا للتمنيات واﻷحلام.
مالذي لدى الثورة السورية لتقدمه من أجل كسب صداقة أمريكا ومن أجل قلب المعادلة الراهنة والانتصار على اﻷسد حليف محور الشر ؟ بكلمة أخرى، كيف تستطيع الثورة السورية "ٳحراج" أمريكا ودفعها لمساندة أحلام السوريين في التحرر ؟
من الضروري أن تضمن الثورة السورية ﻷمريكا أن انتصار الثوار لن يكون رديفاً لوصول اﻷصوليين ٳلى السلطة و لن يصب في النهاية في صالح محور الشر...بمعنى الابتعاد عن معسكر "بوتين" و"ٳيران" والصين وباقي الطغاة الصغار في فنزويلا وكوريا الشمالية.
اﻷمر الثاني هو الالتزام بحل سياسي لقضايا المنطقة والالتزام بالقوانين الدولية في حل النزاعات مع دول الجوار بما فيها ٳسرائيل. هذا لا يعني على اﻹطلاق التخلي عن الجولان أو تناسيه كما فعل اﻷسدان اﻷب والابن، لكنه يعني أن سوريا المستقبل سوف تضطر للاعتراف باﻷمر الواقع وبحق ٳسرائيل في الوجود وتتعايش معها ضمن حدود واضحة ومقبولة من الطرفين في ٳطار القانون الدولي وحقوق اﻹنسان (وهذا ما ترفضه ٳسرائيل، لكن رفض العرب لهذه المبادئ يعفي ٳسرائيل من التزاماتها القانونية كقوة محتلة). على عكس ما يظن البعض، ف"تنازل" الثورة السورية عن الجولان لن يكون أبداً مطلباً أمريكياً ﻷن نتيجة التنازل عن الهضبة المحتلة ستكون القبول بتغيير الحدود بين الدول بالقوة، وهذا مناقض لمصالح أمريكا وسياساتها.
اﻷكيد أن هذا الخطاب سوف لن يعجب الكثيرين، لكن السياسة هي فن الممكن ولم تكن يوماً خاضعة للمبادئ اﻷخلاقية والعدالة المطلقة.
على الثوار الاختيار بين شرين أحلاهما مر كالعلقم، اﻷول هو مصادقة "العدو" الأمريكي وفق شروط هذا اﻷخير ومحاولة الحصول على العون من اﻷمريكيين من أجل الحفاظ على الحقوق اﻷساسية للسوريين في وحدة وحرية ترابهم الوطني واحترام خصوصيتهم الثقافية مع بناء علاقة متكافئة قدر اﻹمكان مع "الحليف" اﻷمريكي الجديد، أو البقاء تحت نير وحراب اﻷسد وزبانيته المدعومين من محور دولي قاتل يمتد من بيكين ٳلى تل أبيب مروراً بطهران وموسكو، مع غض طرف واضح من قبل دول "البريكس " الباحثة عن مصالحها على حساب الدم السوري. اﻷسد ومحور الشر الذي يدعمه حتى النهاية لم يتركا للشعب السوري غير القبول بالموت أو البحث عن تحالف مع "البعبع" اﻷمريكي في وجه شياطين أنظمة العصابات في دمشق وطهران وموسكو.
ٳذا كان للثوار السوريين مصلحة في هكذا تفاهم، فما هي مصلحة العم سام في مد يد العون للسوريين ؟ هل نتوقع من اﻷمريكيين ان يساعدوا من يجاهرهم بالعداء ؟
الخطوة اﻷولى يجب أن يقوم بها الطرف الضعيف في المعادلة. على الثوار السوريين أن يحسموا أمرهم ويختاروا معسكرهم، وهم عليه مرغمون على مبدأ "ما أجبرك على المر ؟ اﻷكثر مرارة..". لكسب صداقة أمريكا التي نحتاجها، علينا البدء بمد يد الصداقة "للعدو" اﻷمريكي بما يشجع هذا اﻷخير على فتح صفحة جديدة مع السوريين من أجل بناء سوريا جديدة. علينا واجب تقديم الثورة السورية على أنها صنو الثورة اﻷمريكية ضد المحتل البريطاني بما يسمح للشعب اﻷمريكي بالتماهي مع دوافع السوريين وأحلامهم.
الخطوة الثانية هي تبني وجهة نظر عصرية حول الدولة المدنية التي يجب أن تبنى على مبادئ حقوق اﻹنسان واحترام الديمقراطية وحقوق اﻹنسان واﻷقليات وسيادة القانون، ٳضافة ٳلى تبني مبادئ الاقتصاد الحر والاندماج في الاقتصاد العالمي بشكل تدريجي ومدروس.
الخطوات السابقة مهمة ولكنها ليست حاسمة، فالأهم بالنسبة للأمريكيين ولكل أصدقاء سوريا هو وجود جهة مؤسساتية تمثل الدولة السورية المقبلة وقيادة موحدة للجيش الحر (أو الوطني) بما يسمح بالتعامل الندي وبالتحقق من التزام الثوار بالمبادئ المتفق عليها.
بالنسبة للجهة المؤسساتية القادرة على تمثيل الدولة السورية المقبلة، ومع فقدان المجلس الوطني السوري لكل مصداقية، يبدو السيد "رياض حجاب" اﻷكبر حظاً في الحصول على اعتراف دولي بدوره المستقبلي، شئنا أم أبينا. من لديه شكوك حول التزام السيد "حجاب" بالثورة وبظروف فراره، عليه أن يطرحها علناً، أو ليسكت ويحترم شجاعة الرجل.
توحيد القيادة العسكرية على اﻷرض يبقى حجر الزاوية في انتصار الثورة السورية. توحيد القوات الثائرة على اﻷرض سيكون مصدر ٳحراج للرئيس الحالي "اوباما" يسحب منه حجته الرئيسية لعدم ٳمداد الثوار بسلاح نوعي.
بدون توحد القوات على اﻷرض تحت قيادة مشتركة، حتى مع دعم أمريكي غير محدود، لا أمل للثورة بالانتصار على زبانية اﻷسد ومحور الشر. الاستمرار في العمل الثوري الفوضوي وغير الملتزم بأوامر وتعليمات قيادة عسكرية عليا موحدة هو ضمان فشل الثورة. الفوضوية والأنانية والعمل الفردي هي أعمال تكاد ترقى ٳلى مرتبة الخيانة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات اﻷمريكية و"المناظرات" المرتقبة بين المرشحين.
أحمد الشامي http://www.elaphblog.com/shamblog ahmadshami29@yahoo.com
بيروت اوبسرفر : الخميس 4 تشرين اﻷول 2012
http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=83769:chami&catid=39:features
التعليقات (0)