مواضيع اليوم

عائلية لسكان "حي التنك" في مدينة الميناء قرب طرابلس

صهيب ايوب

2010-01-20 08:50:00

0

يوميات عائلية لسكان "حي التنك" في مدينة الميناء قرب طرابلس

 

تنقل هذه اليوميات الجزئية أحوال عائلات تقيم في أكواخ أدى تكاثرها في ناحية من مدينة الميناء قرب طرابلس، الى نشوء ما سمي "حي التنك" الذي بدأت ملامحه الأولى ترتسم في مطلع سبعينات القرن الماضي.


بدأ "حي التنك" في مدينة الميناء المتصلة بطرابلس يظهر بملامحه البائسة منذ بداية سبعينات القرن الماضي، حينما راحت بيوت الفقراء تتناثر بين بساتين الليمون والحمضيات، فتكاثرت واتصلت محولة بعض البساتين حارة من الصفيح. بيوت اكتظت من صفائح التنك. ثم بنى عدد من الفقراء أكواخهم "التنكية" على مساحات من الارض المشاع، وراحوا يرشون بعض رجال القوى الامنية ليسكتوا عن مخالفات البناء في زمن الفوضى أيام الحروب. هكذا تكوّنت الحارة من بيوت مستنبتة على عجل، وسميت حارة "التنك" التي تتسم بحجمها الكثيف والمتشابك والعشوائي. وفي العام 1980 وصل عدد العائلات في الحارة الى 145 عائلة. واليوم هم معرضون للطرد من البيوت الى الشارع بعد صدور قرار "الضم والفرز" القاضي باخلائهم مساكنهم الصغيرة.


يوميات جارتين

كانت المرأة البدينة والمترهلة تجلس على كنبة مبقورة في ساحة الحي التي تستنقع فيها مياه الامطار الصباحية. ترتدي ثياباً عادية: عباءة شبه مهترئة وفوقها وشاح نبيذي يسدل طرفيه على كتفين مستسلمتين. حولها تتجمع أكواخ كثيفة من التنك والصفيح. يتحلق اطفالها قربها متناولين بأيديهم المتسخة والصغيرة علباً فارغة من"السردين"بعضها صدىء وبعضها الآخر لا يزال يحافظ على لمعان معدن الستانلس. يملؤون العلب الصغيرة بتراب رمادي جاف، يقومون بجبله بمياه آسنة ليصنعوا منه بيتاً ترابياً. تمسك المرأة البدينة سيجارة من نوع فايسروي، تشعلها بلامبالاة. فيتصاعد الدخان من فمها كثيفاً. تستعد لمجة اخرى، فيما تنشغل عيناها بمراقبة المارة بين الأكواخ. تدخل الى كوخها الصغير وتخرج بعد دقائق، حاملة بيديها "صينية" عليها فناجين للقهوة. تنادي بصوت مقعر ورجولي جارتها أم صبحي. تطل الجارة بجسمها النحيل تعلو وجهها الشاحب علامات الكسل والترهل. على عتبة بابها الخشبي المسوس، تضع على رأسها حجابها الليلكي وتغطي به نصف رأسها، تاركة خصلة صغيرة تتأرجح فوق جبينها. تقترب النحيلة من جارتها بخطوات متثاقلة وتجلس قربها على الكنبة المبقورة. تناول البدينة جارتها فنجان القهوة، وتقدم لها سيجارة.
تمسك ام صبحي الفنجان بذبول يوحي أنه آيل للسقوط من يدها، فيما تستعجل الجارة البدينة إشعال السيجارة. المرأتان تحدثتا بشغف عن الجارات، ثم راحتا تتداولان في شؤون المنزل. ليس لديهما من الكلام سوى في امور تتعلق بحياتهما الضيقة في الحي ويومياته المضجرة. "مجدرة" ام بطاطا "مدبلة"؟ تساءلت ام صبحي. استقر الرأي على المجدرة. "بتمد اكثر على السفرة"، قالت. فالحاجة والتقشف ميزتا أهالي الحي.


النافذة التلفزيونية

الطقس يتحول بارداً. المرأتان تدخلان الى بيت البدينة المتواضع. تشغلان جهاز التلفزيون، بحثاً عن محطة "روتانا". تشاهدان معا فيديو كليب اغنية نجوى كرم "خليني شوفك بالليل". تنظران بشغف الى الشاشة الصغيرة. هل تتخيلان ان تكونا ممثلتين في شريط الكليب؟ هل اثارتهما ديكورات الشريط والوانه ورجاله وشبانه؟ مسحت البدينة وجهها بباطن كفها، وراحت تحدث نفسها في لهجة ميناوية شعبية: "هالتعب صار ألو مطرح". جالسة كأنها مخدرة بمشاهد الشاشة وألوانها. تبدي ام صبحي اهتماما بمشاهد الكليب. الغرفة البائسة تعبق بدخان السجائر، فتملأ الجو دفئاً. تدخل صاحبة البيت الى المطبخ الصغير لتحضّر "نفس أركيلة". في المطبخ قطع معدنية قديمة ومخلعة. نقاط من الماء تدلف من حنفية المجلى مدندنة انغامها مع موسيقى التلفزيون الصادحة في الكوخ الصغير. تعود الى غرفة الجلوس. تضع النرجيلة بين كنبتها وكنبة جارتها. تكملان الجلسة مع دخان التبغ المضاعف الى ان تحين الظهيرة. تخرج النحيلة من بيت جارتها متجهة نحو منزلها لتحضير وجبة المجدرة لاطفالها وأولادها العائدين، بعضهم من العمل وبعضهم من المدارس المجانية وبعضهم من حارات الحي وأزقته. تدخل منزلها وعيناها غارقتان في اسى الحياة الذي يمنح وجهها غموضا ساحرا لا تكشفه سوى بشرتها الشاحبة.
لحظات ويدفع ابنها الصغير الباب بقدمه. وحول الشتوة الصباحية عالقة بحذائه الرّث. تصرخ في وجهه عالياً طالبة منه ان يخلع حذاءه، فيتسلل الى غرفة الجلوس متجاهلا تأنيبها. يشاهد من قناة رياضية مباراة في المصارعة. يقول لامه انه يشعر بالبرد. تضع المرأة اكواز الفحم الى جانب الباب وتشعلها، مستخدمة طوبتين من الحجر موقداً. بعد اشعال الفحم تضعه في منقل حديد قديم، وتنثر فوقه "كمشة" من "الدق"وتدخل المنقل الى الغرفة. يجلس الصبي امام التلفزيون مستلذاً بدفء الغرفة. دخان المنقل يعانق زفرات انفاسه.
يتوافد اخوته الصغار من لعبهم شللاً. أحذيتهم ممزقة. بعضهم يرتدي بناطيل "الجينز" المثقوبة. الفتيات الصغيرات يضعن على شعورهن اقواسا بلاستيكية ملونة. وخصلات شعرهن مربوطة بما يستخدم في خياطة البناطيل عند الخصر. يجلسن قرب أخيهم ويطلبن منه مشاهدة قناة "ام بي سي للاطفال"، فيما تطلب إحداهن مشاهدة مسلسل "عاصي" التركي على قناة "ام بي سي 4". هنا تبدأ حرب ضروس بين الاولاد على مشاهدة التلفزيون. تهب رياح بحرية باردة وتدخل الغرفة الضيقة. يشعرون بالبرد فيقتربون من "منقل" الفحم ليتدفأوا. إنهم يعودون الى لحمتهم العادية وكأن شيئاً لم يكن ويرتضون بمشاهدة مباراة المصارعة مع أخيهم الأكبر. تناولهم أمهم أرغفة من الخبز محشوة بالجبنة، ليأكلوها ريثما يجهز الطعام ويعود والدهم من عمله.


أولاد في الركام

يعيش أولاد الحي تفاصيل حياة مليئة بالقسوة والشقاء. وجوههم البريئة التي تضحك للمارة بسذاجة وبساطة، تعلوها لمسة حزن مشوبة باليأس. اليأس الذي يولد مع ولادتهم وينبض في عزلتهم عن بيئات تحيط بهم.عيون تتشابه نظراتها. لا هدف لها سوى ان تقضي اوقاتها المملة والمضجرة بلهو بدائي، يبدأ بلعبة "الغميضة" وينتهي بين دشم من الحديد والمعدن الصلب، اكوام الخردة. القسوة والعنف يلابسان ألعابهم المفضلة، لان حياتهم منذ الطفولة عودتهم على هذا، وكأنهم مع أسرهم في صراع مع قدرهم. يظللان القرفصاء ويرممون بأناملهم قصورا رملية. يبنونها وفق مخيلتهم. نقترب من احدهم فيقول "هذا المنزل هو منزلنا الجديد الذي سنسكنه بعد ان نترك الحارة". لعله بيت احلامهم المغاير لأكواخهم التي تجتاحها عتمة الليل في المساءات الخاوية.
يلعبون بين دشم المعادن بفرح. بعضهم لا يعرف درب المدارس. اعتادوا مجالسة اخواتهم وأمهاتهم في أكواخ "التنك". في الازقة تتجمع اكوام المعادن وصفائح الحديد وارتال النفايات. مداخل البيوت متشابهة لا يميز بعضها عن البعض الآخر سوى بضع كتابات على خشبها المسوس. من عبارات هذه الكتابات: "فلان مرَّ من هنا"، اضافة الى رسوم على شكل جمجمة. وجه آخر من وجوه القسوة والعنف على الأبواب.
رامي وخضر واحمد اصدقاء وجيران. يخرجون في الصباح الباكر الى زقاق صغير من ازقة الحي. يماحكون بائع القهوة. ويمازحون عمال ورش النجارة في ساحة الحي ويتقاذفون علب التنك المرمية على التراب نحو برك الامطار التي اجتاحت الحي بمياهها. وبعد ان يملوا يعودون ادراجهم الى داخل بيوت الصفيح.


مساء العائلة

بعد تحضير الغداء تقوم ام صبحي بغلي القهوة في وعاء كبير لزوجها الذي يعمل بائعا جوالا للقهوة. عند الخامسة عصراً يعود ابو صبحي الى الحي منهياً جولاته في بيع القهوة في احياء طرابلس. معظم رجال الحي يعملون مياومين وبائعين جوالين وبعضهم يجمع المعادن ويبيعها. أبو صبحي يعود مترنحاً من التعب، حاملا بيديه مصبات القهوة فارغة. يتركها عند الباب ويطلب من زوجته ان تجهز له الطعام. تجتمع اسعاف وصباح حول والدتهما في المطبخ تضعان طبقا كبيرا من المجدرة على طاولة مستديرة في وسط غرفة الجلوس وهي نفسها الصالون وغرفة السفرة وغرفة النوم.
يلتئم شمل الأولاد الثمانية حول المائدة. ابو صبحي ياخذ استراحة نوم يعود بعدها الى التجوال في الشوارع او قد يستقر على كورنيش البحر ليبيع قهوته. عامر واحمد يذهبان الى "حي الزراعة" ليعملان في احدى ورش النجارة. اسعاف وصباح تقرران القيام بزيارة احدى الخياطات في الحي باحثتين عن عمل ما. الاطفال الصغار يتوزعون مجدداً في الأزقة. أم صبحي تعود الى كوخ جارتها في جلسة سمر ليلية مع "نفس أركيلة" جديد.


صهيب أيوب


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !