حكومة "Titanic"
للعام الثالث يقود السيد عباس الفاسي سفينة الحكومة المعطلة، وبالرغم من أعاصير التحديات العاتية التي تلوح في الأفق، فالرجل لا يرى ضرورة لتوخي الحذر وتجنب غرق محقق، وها نحن نشهد اليوم على اصطدام هشاشة توقعات حكومته بصلابة جليد أزمة يهدد خطط اقتصاده الفاشلة بالانهيار.
تبددت، إذن، ملامح التفاؤل من على وجه الاقتصاد المغربي بعد أن تجلت أعراض الأزمة بوضوح داخل قطاعات مهمة كالسياحة وعائدات المهاجرين، بفعل فقدان الآلاف لمناصبهم في ديار المهجر، كما بدأ الحديث عن شح في السيولة في الجيوب المالية، التي ابتليت أصلا بثقوب الفساد الذي يعشش داخل دواليب المؤسسات العمومية للدولة، لتبدأ الحكومة متأخرة في مواجهة أزمة انتقلت من شبح كان يُطل ذات يوم، إلى حقيقة مجسدة لم يعد من الممكن نفي وجودها.
الم تتكرر نغمة " قولو العام زين" في تصريحات الوزير الأول وصلاح الدين مزوار، وزير المالية، في تعليقهم على المخاوف التي أثيرت حول حتمية تعرض المغرب إلى تأثيرات الأزمة العالمية، و أن الاقتصاد بخير ولا يخصنا سوى النظر في أرقامه!
لم تجد الحكومة ضرورة في دق جرس الإنذار وتنبيه الشعب من احتمال الخطر القادم، و اختارت، عوض مواجهة الواقع بشجاعة سياسية، اللجوء إلى تبديد المخاوف بتصريحات اقرب ما تكون إلى تلك الموسيقى التي تَطَلًَب عَزفها على ظهر سفينة "تيتانيك" في الوقت الذي كانت تغرق وسط مياه المحيط إلى الأبد.
وإذا كانت المؤشرات المخيفة التي ظهرت، قبل عامين تقريبا، على شاشات البورصة الوطنية لم تجعل وزير المالية يتخلى عن تفاؤله الزائد، إلا أن الأيام الأخيرة وما جلبته من أخبار، لا تبعث على الطمأنينة، كانت الدافع وراء إقراره بتأثر الاقتصاد الوطني من جراء الأزمة المالية، منقلبا بالتالي على تصريحاته السابقة. وهكذا سارع السيد الوزير إلى إرسال نداء استغاثة لاستجداء الدعم المالي من البنوك العالمية، وهو الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى صحة هذه الخطوة على مستقبل بلد، عانى لمدة طويلة بعد أن أُثقِل كاهله بديون عرقلت مسيرته باتجاه بناء اقتصاد حر! .
فإذا كان صيت السيد عباس الفاسي ذاع في مجال الإفلات من سيف المسؤولية دون حساب يذكر ، حيث أنكر في تصريحاته وقوع أحداث بسيدي إفني، وقبل ذلك قفزته الشهيرة من سفينة المسؤولية التي أَودت بآلاف الحالمين، مابين قتيل و"جريح" بمستقبل أفضل في مياه وهم النجاة، أيام كان وزيرا للتشغيل، فوزير المالية، صلاح الدين مزوار هو زعيم الانقلابيين الذي اسقط براس المنصوري من على قمة تجمع الأحرار، ولهذا فعنصر المفاجأة غير حاضر أصلا في فيلم الانقلابات الجديد .
تغريدات الوزير خرجت عن سرب اغلب تصريحات وزراء المالية في العالم، والذين أقروا بخطورة الأزمة المالية التي تتهدد بلدانهم في تجسيد غير ملتبس للسلوك السياسي الصحيح الذي يعبر عن احترام كبير للمواطن، الذي يدفع من جيبه الضرائب التي تضخ الوقود اللازم لتشغيل محرك الدولة الاقتصادي.
وإذا كانت لغة الأرقام، التي تحدثت عن تأثر واضح للعديد من القطاعات بضربة الأزمة العالمية، أجبرت الحكومة على التخلي عن الحديث بلغة الخشب ، فمن الواجب الأخلاقي والسياسي أن تقف أمام محاسبة عسيرة عن سياسة تضليلها للرأي العام والاستخفاف به طيلة هذه المدة، قبل أن تُساءل عن خطواتها المنفردة التي قادتها في اتجاه مغامرة الاستدانة لمواجهة عاصفة الأزمة الاقتصادية دون استشارة واسعة مع باقي الفرقاء .
عندما بدأت بوادر الأزمة تلوح في أفق الاتحاد الأوربي الغني، بادرت الحكومات الديمقراطية إلى الحديث بلغة الأرقام حول الوضع المالي والاقتصادي، و عقب إطلاع دافعي الضرائب بحالة الاقتصاد، سارعت إلى التحرك الفوري لتطويق دائرة الخطر الذي يهدد الاقتصاد الأوربي، وتابع الرأي العالم العالمي سلسلة من المؤتمرات التي خصص جدول أعمالها لتبني جملة من الإصلاحات المالية والاقتصادية للخروج وبسرعة من وحل الأزمة بأقل الخسائر، وحيث تبين للجميع كيف اجتهدت في تشخيص وضع اقتصادها وإخبار الرأي العام بأدق تفاصيله بكل شفافية، ولم تتردد في التخفيض من مرتبات وزرائها كخطوة هامة على قائمة إجراءات تقشفية استهدفت في مجملها تجاوز تداعيات خطر الأزمة العالمية.
وفي اسبانيا، الدولة التي يفوق دخلها القومي الإجمالي الدخل القومي لكل الدول العربية ، بادر رئيس حكومتها، قبل عامين ، أي عند بداية اشتعال نار الأزمة المالية، إلى دعوة زعيم المعارضة، ماريانو راخوي، للقائه في قصر المونكلوا، وذلك للعمل إلى جانبه من اجل إطفاء لهيبها، فالرجل يفهم إبعاد المسؤولية التي سيتحملها إذا ما قرر المغامرة لوحده في مواجهة أزمة كبيرة كهذه. وقبل خمسة اشهر تقريبا توصل الخصمان اللذوذان إلى اتفاق سياسي حول إصلاح المنظومة البنكية واقتراح إصلاحات تشريعية تهم صناديق التوفير.
كان على الحكومة، التي يفترض فيها أن تقود شعبا كاملا على طريق التنمية وتحقيق تطلعاته ورغباته، أن توفر لنفسها القدرة على استشعار الأخطار القادمة واتخاذ كل ما من شانه أن يجنب الدولة العواصف الاقتصادية والسياسية ، لضمان قيادة حكيمة وسليمة طيلة مدة ولايتها. لكن الطامة الكبرى هي أنها عوض ذلك قررت أن تجازف بالقيادة دون أي احتياطات السلامة، والأطم من ذلك كله أنها لجأت إلى الكذب و تخذير الشعب بوصفاتها المعهودة لتزيل عنه الخوف الذي اعتراه وهو يتابع فصول الأزمة الاقتصادية العالمية تجتاح أكثر الاقتصادات قوة في العالم.
إن الإجراءات الأولية التي يجب على الحكومة اتخاذها بكل شجاعة، إن هي أرادت بالفعل الخروج من الفساد قبل الأزمة هي تحصين خزينة الدولة من عبث الأيادي الخفية، وذلك بمحاسبة المسؤولين عن تبذير الجيوب المالية للدولة التي أصبحت ثقوبها تتسع معجلة باختفاء السيولة الكافية لتغطية النفقات على المؤسسات العمومية.
فسيول المديونية الجارفة التي فتح وزير المالية باب الخزينة أمامها لن تسهم إلا في اتساع دائرة التبذير، الذي يغمر سفينة الحكومة عبر ثقوب الفساد المستشري، و الذي أصدر المجلس الأعلى للحسابات تقريرا بشأنه. إنها الكارثة الحقيقية التي ستتسبب لامحال في إغراق سفينة الحكومة في بحر المديونية العميق، والذي سيجعلنا عالقين لمدة طويلة في انتظار الخلاص.
حكومة عباس الفاسي، شانها شأن سابقاتها من الحكومات الكومبارسية، دأبت على إخفاء الحقائق والكوارث المحدقة مخافة أن تقود إلى انتفاضات شعبية تهدد استقرار الدولة، انتفاضات تنتهي غالبا بسقوط الكثير من الأبرياء والقليل من الرؤوس الكبيرة، حين تميط اللثام عن واقع الإختلالات في التسيير والتقصير و عن الخروقات الواضحة في تحمل مسؤولية قيادة الشعب.
السيد عباس ليس أبها بنداءات الإغاثة التي تطلق من منابر الصحافة المستقلة، ولا يبدو انه مهتم بتداعيات الأزمة المالية على الاقتصاد الوطني بقدر ما يهمه البقاء ولأطول مدة ممكنة أمام دفة القيادة، التي لم يتحلى يوما بالشجاعة التي تتطلبها، فهو اليوم كما الأمس مطمئن إلى وجود شاطئ أمان في انتظاره، بعد مرور العاصفة، وما عليه إلا أن يستعد للقفز من على سفينة الحكومة ليعانق طوق النجاة من جديد.
قدرنا أن نتواجد على سفينة حكومة يقودها السيد عباس الفاسي، ناكر أحداث سيدي افني، تتقاذفها الأزمات من كل الجوانب، نعرف جيدا انه لن يتخلى عن القيادة بمحض إرادته، لن يُقِر أبدا بمسؤوليته عن الكوارث التي يخلفها وراءه، وما نعلمه بالتأكيد أن بمقدوره القفز سالما من على ظهر سفينة ستلقى حتما مصيرا كذاك الذي لَحِق ذات يَوم بسفينة أحلام إسمها "تيتانيك".
التعليقات (0)