مواضيع اليوم

8 هل رأى الدهر سكارى مثلنا؟

يوسف الحلوي

2012-10-20 12:49:26

0


صرخات الصبية تتناهى إلى مسامعي، حادة تصم الآذان ... ترى ما الذي يحدث في قسم "س" خرجت مسرعا، فوجدت "س" يحمل عصا مكنسة في يده ويلوح بها ذات اليمين وذات الشمال، حيثما اتفق والصغار يفرون من بين يديه مذعورين، كان ثملا ورائحة الخمر تفوح منه على بعد أمتار عديدة، أمسكت به من ذراعيه وجذبته إلى الخلف، وأنا أصرخ في وجهه: ماذا تفعل أيها المجنون؟ فرد علي والعبارات تتدافع من فمه في غير نظام: لقد طلبت منهم البارحة أن يأتوني باللوز فلم أظفر منهم بغير حفنة واحدة، الكلاب ،.. و.. وأوصيتهم بجلب الزيت فلم يفعلوا، من أين سآكل أنا وزوجتي ؟ لقد تلاشى راتبي بفعل القروض .. كان مدمنا على الخمر وشعاره في الحياة: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر < > ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر...يقترض ليشرب... يمقت مهنته إلى أبعد الحدود... ولوعا كان بحل الكلمات المتقاطعة، يصرخ بين الفينة والأخرى، حين كنا نسكن معا، بحروف متقطعة تشي بسكره.. حيـ .. ـو.. ا..ن.. بر.. مائي، فنقدم الاقتراح تلو الآخر، دون فائدة لا .. لا.. لا، ثم يردف بنبرة حاسمة: إنه المعلم، صار لديه قاموس من المرادفات لكلمة المعلم، فهو ذبابة "التسي تسي" والعاشب، وأفعى البيض وأشعب ومادر، لم أجد من بينها وصفا واحدا مشرفا للأسف... قلت له مهدئا: ليس في مصلحتك أن تتصرف هكذا، ستجر على نفسك متاعب إضافية، أنت في غنى عنها، نظر إلي باستعطاف: خذني إلى بيتي أرجوك، حملته إلى بيته بصعوبة، وعلى عتبة منزله وجدت زوجته جالسة القرفصاء وعيناها محمرتان من شدة البكاء، أومأت إليها برأسي، فأفسحت الطريق، وأدخلته ثم وضعته على أحد الأسرة وقفلت راجعا .. كان البيت يعج بالفوضى وآثار المعارك الطاحنة تلوح من جنباته، على باب المنزل استوقفتني زوجته وشكرتني وهي مطرقة برأسها من شدة الخجل، لم أستطع النطق ببنت شفة، فقد كان الموقف محرجا، حاولت مواساتها فلم تسعفني العبارات، فغادرت والأسى يلفني من رأسي إلى أخمض قدمي، فقد كان "س" صديقي الحميم قبل أن يختار سلوك هذا السبيل، تقاسمنا الحلو والمر عندما كنا طلبة وفي مستهل حياتنا المهنية، لم أكد أبتعد عن البيت إلا بخطوات يسيرة حتى سمعت زعيقه يملأ الفضاء يتبعه صوت ارتطام الصحون والكؤوس بالأرض والجدران.. كان شخصا طموحا وقد أحس بكثير من الغبن حين أرغم على العمل في ميدان التدريس، حصل على نقط جد مشرفة في دراسته الثانوية تؤهله لولوج كلية الطب أو المدرسة العسكرية، فلم يفكر في الأولى لأنه يتيم الأب ولا مال لديه لتغطية النفقات التي تتطلبها الدراسة بالكلية، كما لم يفلح في ولوج الثانية لأنه ينحدر من أسرة لم ينبغ فيها غيره فلا عم ولا خال ولا أخ ليتوسط له في ارتقاء المراقي الصعبة، كان راضيا في البداية بنصيبه من الدنيا، وما هو إلا أن عرك بؤس التعليم ، حتى انتفض ساخطا على كل شيء، وجد السلوى في القنينة يفزع إليها من حين لآخر، يفضي إليها بمكنونات صدره فما تزيده إلا هما على همومه المتراكمة، أحس بنقص رهيب يلازمه فصار متسلطا، كاد أن يقتل أحد التلاميذ يوما لأنه خاطبه دون أن يفتتح بلازمة "السي" ، ثرت في وجهه حينها قائلا: لست سيدا ولن تكون كذلك، أنا وأنت من رعاع القوم، ملهاة تشغل الناس عن أحزانهم، نحن الجديد في حياتهم البالية، يكسرون مللهم بنا، فيعيشون من خلال صراعهم معنا وهم الصراع مع السادة، ويحسون في انتصارهم علينا إحساس المواطن الذي يملك أمر نفسه، إنهم يربون الناس على المواطنة ونحن "كوباي" التجارب الوطنية ، انظر إليهم يصرخون في وجهك وهم يطلقون بين الفينة والأخرى، عبارة "الحق" و"القانون" .. هل باستطاعتهم التفوه بها في وجه دركي أو فرد من القوات المساعدة، لا تخدع نفسك أنت عاشب وأفعى بيض وكفى، مع توالي الأيام ساءت أخلاق صاحبي أكثر فأصبح عينا للمدير علينا، يخبره بكل صغيرة وكبيرة ، فصار المدير يدير شؤون المؤسسة بهاتفه النقال فقط دون أن يكلف نفسه عناء الحضور، حتى إذا اقتضى الحال أن يوقع بعض الوثائق طلب منا ملاقاته يوم السوق الأسبوعي في أحد المقاهي، وأجاد صاحبي القديم صنعة التملق فحصل على أعلى النقط بيننا أثناء زيارة المفتش، أصبح ممقوتا لدى الجميع، لكنني احتفظت له ببعض الود، ود تعود جذوره لأيام الدراسة، وإن كان طيف الفتى الطموح قد تلاشى ليحل محله شبح شاب اكتهل في ريعان شبابه.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !