يحكى أن المعتمد بن عباد خاصم زوجه أم الربيع وهما في منفاهما بأغمات، وقد احتد الخلاف بينهما فثارت أم الربيع في وجهه قائلة: لم أر في حياتي معك يوم هناء واحد، فحزن المعتمد وذكرها بذكرى عزيزة عليهما قائلا: ولا يوم الطين يا أم الربيع؟ ويوم الطين يوم مشهود تاقت فيه أم الربيع لمحاكاة بائعة اللبن في مشيتها حافية وصياحها، حين كانت تطل عليها من شرفات القصر، وقد حقق المعتمد أمنيتها بأن وضع لها وحلا من الطيب في باحة القصر، وأمر خدمه فرشوا عليها ماء الذهب بينما حملت قربة ذهبية وراحت تذرع الباحة جيئة وذهابا مقلدة البائعة... يذكر المنعمون في لحظات الشقاء اليسيرة التي تمر في حياتهم تلك الأيام التي كانوا يكرعون فيها في نمير الهناء الصافي، فيتزودون منها بما يكفي من الإصرار لمواصلة المسير، أما نحن فلحظات الهناء في حياتنا قليلة، ولا يصفو لنا من ذلك القليل إلا النزر اليسير، إذ يشوبه مرور خواطر تكدر صفونا عن أحزاننا الماضية ،فلا نسعد بذلك إلا كما يسعد العطشان إذ يعترض سبيله نبع عذب يبل منه ريقه ببضع قطرات، هكذا كنت أفكر وأنا أسترجع أحداث ذلك اليوم المشؤوم الذي قضيته في أفراس... نفذ طعامنا بعد أسبوع من العواصف الهوجاء التي ضربت حصارا شديدا على المنطقة برمتها، كان من الصعب أن نغادر البيت لأبسط الشؤون بله أن نذهب إلى المدرسة التي صارت قفرا يبابا... يومها انفرجت أسارير السماء عن أشعة ذهبية لامس بريقها شغاف قلوبنا، فأحيى الأمل فيها من جديد بعد أن شارف على الموت... أيام العاصفة كانت قاسية، امتلأت فيها نفوسنا رهبة و تراقص مصير وجودنا على ظهر الأرض مع الرياح ذات اليمين وذات الشمال، كنا نعد الثواني ببطء ونحن ننتظر النهاية،... فسقوط البيت أمر وارد، تحدثنا عن آبائنا وأمهاتنا وإخواننا، وعن أحلامنا الواسعة، أصغينا بكل جوارحنا للعاصفة تنهش منها ومن أملنا في الاستمرار، وحين تجلت الشمس عروسا في كبد السماء ومعها انتعشت أمانينا في البقاء المحفوف بالمهانة، فكرنا بسذاجة طفولية في انتداب اثنين منا لجلب الطعام من مرنيسة التي تبعد عنا بحوالي عشر كيلومترات، وقد وقع الاختيار علي وعلى "م" ذي البنية الضعيفة، ارتدينا معاطفنا وحملنا بعض الحقائب وانطلقنا... لم نواجه صعوبات في رحلة الذهاب، وعلى مشارف مرنيسة، اكفهر الجو مجددا فأسرعنا الخطى واحتمينا من المطر الغزير بأحد المقاهي... طال بنا المكوث في المقهى دون أن يلوح في الأفق أي بصيص من الأمل في تغير الجو،فقفلنا راجعين بعدما وضعنا المشتريات في الحقائب وحملناها على ظهورنا.
قمنا بتغيير الطريق اختصارا للمسافة، ولم يكن ذاك الخيار صائبا، فالطريق مليء بالأوحال والمطر الغزير يحجب الرؤية، وظهورنا تنوء بما نحمله من الطعام... الأوحال تزيد من صعوبة السير، كانت أرجلنا تغوص في الوحل إلى منتصف الساق، وبذلنا جهدا خرافيا للتقدم نحو أفراس في عقبة كؤود ارتسمت أمام أنظارنا شبيهة بمسيرة حياتنا الشاقة المتعثرة، أدركنا الظلام ولما نبلغ منتصف الطريق بعد، خارت قوانا... كنت أشجع "م" على السير، كان يتوقف بين الفينة والأخرى ليصرخ بأعلى صوته أن لعنة الله على اليوم الذي فكر فيه أن يصبح معلما، فيضيع صراخه في العتمة كما ضاع مصيرنا في خضم المجهول، وفي لحظة يأس قاتلة صب زميلي جام غضبه على المسؤولين، وما كنت أظنه يصل هذا الحد من الشجاعة لو لا أن رأى الهلاك بأم عينيه، لم نشعر إلا ومجموعة من الكلاب الضالة تحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم، ضاقت بنا الأرض بما رحبت، زميلي "م" أصيب بالهستيريا فألقى بحقيبته أرضا، وحاول الفرار، أمسكته من ذراعه بصعوبة وأفهمته أن الكلاب ستتعقبه... رحنا نقذفها بالحجارة والوحل وبكل ما تلتقطه أيادينا من الأرض، بعد أن تجاوزناها وضع "م" حقيبته على الأرض، وكان الإجهاد قد بلغ منه مبلغا عظيما، اضطررت لحملها بدلا عنه...كان يساعدني بين الفينة والأخرى كلما أحس من نفسه قدرة على ذلك، عندما اقتربنا من البيت زلت قدمي، وهويت في منحدر سحيق كاد أن يوردني موارد الهلاك لولا أن تمسكت بجذع شجرة من أشجار التين المتناثرة هنا وهناك، وبمساعدة "م" استعدت توازني وواصلت المشي...حين وصلنا إلى البيت كان الماء قد غزا أرجاءه، وأرضيته تلطخت عن آخرها بالأوحال التي جرفتها مياه الأمطار من التلة المجاورة...
التعليقات (0)