يودّع العالم والعربي منه ،بالخصوص، سنة 2011 بحصاد واعد وغنم جليل وبمشاعر مغايرة لتلك المحبِطة التي رافقت طيَّهُ لعقودٍ من زمنه المتثاقل الكالح الرّتيب...بدت سنة 2011 للشعوب العربية سنة الأمل والحلّ في آنٍ واحدٍ...جعلت النّوافذُ مشرَّعة على أفق رحب بديع تصنعه الشعوبُ دون قائد مُلهمٍ ولا نبيّ منتظر...فجأة اكتشف العرب أنّ الشارع هو منقذهم إنْ لجئوا إليه احتجاجا على هوانهم واستعبادهم واعتمادا عليه في الإطاحة بأعتى الدكتاتوريات وأشدّها شراسة وأكثرها فسادا...
أجل،لم تضع سنة 2011 حدّا لكلّ الآلام ولم تُحقق كلّ الأحلام،لكنّها جاءت بالوصفة السحريّة للخلاص من كلّ الندوب والعيوب التي ترتهن إرادة الشعوب...إنّها تلك الوصفة التي لا تستوجب سوى أن يخرج الناس للشارع ليجهروا بصوت واحد بما كانوا يقولونه سرا في بيوتهم وبين الجدران المغلقة...ثبت بالدليل القاطع أنّ صوت الحشود الشعبية في الشارع يزرع الرعب في نفوس أعدائها مهما امتلكت من ترسانة بطش وتدجّجت بوسائل إرهاب ودمار...صوت الشعوب المزمجرة المحتجة في الشارع أمضى من أيّ سلاح فتاك لأيّ سلطة باغية...سلطة الشارع هي السلطة الوحيدة الرادعة والمنتصرة لا تضاهيها أيّ سلطة سواء تلك التي يمتلكها الحكام المستبدّون أو تلك التي يُرَوِّج لها رجال الفكر والتنظير الحالمون...
ثمة دروس ثمينة ومواعظ بليغة وعبر نفيسة جاءت لنا بها سنة 2011 التي هي جديرة بالإشادة وبتأبينها تأبينا يليق بعطائها السخيّ وحكمها المتفرّدة...إنّ أنفس ما تكرّمت به سنة 2011 هي التبصير بأنّ السيادة لا تكون سيادة في أيّ بلد إلا إذا كانت ملكا للشعب والشعب الذي لا يملك سيادته هو قد تخلّى عنها في غفلة منه وارتهن إرادته مخدوعا بمقولات القائد المصلح والملهم والفذ...أو التعويل على مفكريه ونخبه المناضلة من أجل أن تصنع له غده المشرق...الشعوب وحدها تصنع قدرها برفضها للسائد البائد اعتمادا على الشارع الذي تملأه باحتجاجها ورفضها...سيُسجّل التاريخ لسنة 2011 أنها مكنت الشعوب من اكتشاف سلطة جديدة هي "سلطة الشارع"،وهي سلطة متاحة لعامة الناس بل لا يملكها غيرهم ولا تضاهيها قوة وتأثيرا أيّ سلطة أخرى مهما ادّعت احتكامها لشرعية...
من دروس سنة 2011 الناتجة عن اكتشاف "سلطة الشارع" أنّ النخب السياسية والفكريّة قد تسهم في إلهام الشعوب وشحذ هممها لكنها لا تحرّرها من هوانها ولا تخلّصها من عذاباتها...هي تستحثّها على العصيان والتمرّد حتى إن فعلت الشعوب ذلك واكتسحت الشارع وسادته وأطاحت بطغاتها هرعت النخب مستبشرة مهلّلة لتمدح العامة وتتملّق إليها وتستدرّ عطفها وتوهمها أنها الأجدر بالائتمان على ثمار ثورتها التي تعلّبها في علب تسويق تجارية عصيّة على فكّ شفراتها من جمهور متعطّش للكرامة والخبز...
بين النخب الفكرية والسياسية وعامة الناس ثمة هوّة تبدو محيّرة في عالمنا العربي،هي بحاجة إلى جَسْرها عبر معالجة متأكدة وجدية تبحث في أسبابها المرَضيّة المتأتية،على الأرجح،من ذلك التباعد الفظيع بين الأوتيوبيا والواقع،بين الأدلجة تحليقا وهموم الناس معاناة،بين روعة التصور وانحرافات السلوك،بين الترف الفكري وضغط الحياة اليومية...
ثمّة صورة بليغة في مغزاها روّجها تونسيون على مواقع التواصل الاجتماعي تعْرض مشهدا لمواطن بسيط كادح يُكابد من أجل لقمة العيش باشتغاله كعامل بناء بما يُوحي به ذات العمل من مشقّة وعناء وقد ذُيّلت الصورة بتعليق في شكل تساؤل: "هذا علمانيٌّ أم إسلاميٌّ..."
شتّان بين ما يطرحه المثقفون من مفكرين وساسة وبين واقع عامة الناس ومشاغلهم...
عامّة الناس ليس لهم متّسعٌ من الوقت لتصريفه في "البذخ الفكري"،وبما أنّ البذخ يُجافيهم ولا يدخل بيوتهم ولا عقولهم،فإنّهم يتعاطون مع شظف عيشهم بحذق وحصافة،وعليه فتجربتهم في الحياة علّمتهم أنّ الخبز الذي ينشدونه لا سبيل إليه إلا بعرق الجبين وأنّ الحياة الكريمة لا سبيل إليها إلا بالحرّيّة.....وتتفق على ذلك الأغلبية الساحقة من الناس دون حاجة إلى أن يحذقوا لغوا إيديولوجيا أو أن يُصنَّفوا تصنيفا عقائديا يتحايل عليهم به الساسة من أجل إشغالهم عما ينشدونه في وطنهم من كرامة...
في كلّ الحالات لا يجب التغافل على أنّ الشعوب اكتشفت في سنة 2011 "سلطة الشارع" وهي سلطة لا يقدر على امتلاكها غيرها وأنها تبقى أنفس ذخيرة تلجأ إليها كلما اضطرّت لذلك...وعسى أن تكون سنة 2012 سنة تعزيز مكاسب سلطة الشعوب واتّعاظ الحكام المستبدّين وسماسرة السياسة بدروس سنة 2011 التي تفرض عليهم تعديل عقارب ساعاتهم على سلطة الشارع الرّهيبة...تلك السلطة التي لن يقدروا على امتلاكها لأنها حصريا ملك للشعوب...
التعليقات (0)