مواضيع اليوم

2010 عام الاعتذار من سوريا وترقّب القرار الاتهامي

عبدو شامي

2011-01-01 05:22:49

0


2010
عامُ الاعتِذارِ مِنْ سُورِيا وتَرَقُّبِ القَرارِ الاتِهامِي


بقلم
عبدو شامي

 

2011
http://abdoshami.elaphblog.com

الفهرس
مقدمة 4
كارثة سقوط الطائرة الأثيوبية واستبعاد فرضية العمل الإرهابي 7
المهرجان الشعبي في ذكرى 14 شباط 2005 يواجه تحديَين لتحقيق نجاحه 7
نجاح ذكرى 14 شباط وقيام القادة بمكاشفة ومصارحة مع جمهورهم 7
وليد جنبلاط يتابع انقلابه زحفاً نحو الشام 8
تلاوة جنبلاط "فعل الندامة" وطلبة المعذرة من الأسد عبر قناة الجزيرة 9
الأسد يقبل "توبة" جنبلاط ويستقبله في دمشق 9
حسن نصر الله يكشف عن استدعاء لجنة التحقيق الدولية 18 عنصرا من حزبه، ويحذر من "مسار التحقيق الجاري" 9
إجراء الانتخابات البلدية والاختيارية بعد سجال طويل 9
نتائج الانتخابات تعكس التدهور المستمر في شعبية الجنرال عون 10
رئيس المحكمة الدولية يرجح صدور القرار الاتهامي بين أيلول وكانون الأول 10
الحكومة أمام امتحان تحديد موقف لبنان من التصويت على العقوبات ضد إيران 10
"حزب ولاية الفقيه" يطلق حملة تهويل وتهديد تستهدف المحكمة وقرارها المرتقب 11
غابي أشكينازي يطلق شرارة حملة الحزب والمخابرات الإسرائيلية تواكبها 11
نصر الله يبدأ بعرض مسلسل التخبط التلفزيوني بعنوان "كاد المريب يقول خذوني" 11
الحلقة الخامسة والأخيرة من المسلسل ومحاولة الحزب إلصاق التهمة بإسرائيل 12
تهويل نصر الله يفعل فعله وانطلاق المسعى السعودي-السوري من لبنان 12
إشاعة الحزب جواً إعلامياً بأن المسعى السعودي-السوري يريد إجهاض المحكمة 12
طرح قوى 8 آذار ملف ما يسمى "شهود الزور" وانعكاسه السلبي على المؤسسات 13
مواجهة مشرّفة على الحدود بين الجيش اللبناني والعدو الإسرائيلي 13
الجنرال عون وتياره يتعرّضان لنكسة كبيرة مع اعتقال العميد المتقاعد فايز كرم بتهمة العمالة لإسرائيل 13
اعتراف الجنرال بعمالة كرم ثم قيامه بحملة شرسة للدفاع عنه يثير التساؤلات 14
اشتباك مسلّح بين "حزب ولاية الفقيه" و"الأحباش" والجيش يتقاعس كعادته 14
بلمار يخرج عن صمته ويكشف عدم اعتماد التحقيق على ما يسمى "شهود الزور" 15
القوى الإستقلالية تؤكّد بطلان ملف "شهود الزور" قضائياً وفراغه من أيّة إفادات 15
نكسة لـ 14 آذار: الحريري يعتذر من سوريا ويعترف بوجود "شهود زور" 15
ثبات قوى 14 آذار وتيار المستقبل على موقفهم من ملف ما يسمى "شهود الزور" 16
اشتداد تمسّك الفريق الانقلابي بملفه الموهوم بعد تصريح الحريري 16
عدم قانونية إحالة ملف "شهود الزور" على المجلس العدلي، وغاية 8آذار من ذلك 16
اعلان بنود التسوية التي يطلبها الفريق الانقلابي من الحريري وفريقه الاستقلالي 16
"حزب ولاية الفقيه" يقتحم المطار لمنع تبلّغ جميل السيّد مذكّرة استماع قضائية 17
سوريا تصدم الحريري بـ33 مذكّرة توقيف تستهدف فريق عمله وآخرين 17
الحريري يعتبر مذكرات التوقيف سياسية ويتمسك ببناء أفضل العلاقات مع سوريا 17
نجاد يعلن من لبنان قيام محور يمتد من طهران الى بيروت ويهاجم المحكمة 18
فطور صباحي جمع نجاد وقوى 8 آذار ذكّر بـ"لقاء عين التينة" 19
الحزب ينصب كميناً للجنة التحقيق في عيادة طبيبة نسائية ويسرق حقيبة 19
رسالة الهجمة النسوية وصلت والمحكمة تدين وتؤكد تصميمها على كشف الحقيقة 19
تحليل طلب المحققين بيانات من الطبيبة النسائية تعود لزوجات عناصر حزبية 19
احتدام التهدبد والوعيد ورد 14 آذار عبر اجتماع مسيحي موسّع في بكركي 20
الجنرال البرتقالي ينحدر إلى خطاب طائفي مكروه وممجوج 20
المجلس الشرعي من دار الفتوى ينوّه بالبيان اللقاء المسيحي في بكركي 21
جلسة حكومية محتدمة منع فيها الرئيس سليمان التصويت على ملف "شهود الزور" 21
أسباب عدم إصرار الفريق الإنقلابي على التصويت ودخول الحكومة حالة تعطيلية 21
الحريري يعلن رفضه إملاءات الفريق الإنقلابي ويرفض تهم التخوين 21
الحريري يقوم بجولة على عدّة بلدان تقطيعاً للوقت ويبدأ بزيارة إيران 21
نجاد يبلّغ الحريري القواعد الايرانية لانتظام الحكم، ورحيمي يمارس التقيّة 22
الأسد من فرنسا في موقف لافت: القرار المبني على أدلة قاطعة لن يرفضه أحد 22
النائب محمد رعد يهدد بتغيير وجه لبنان ويضع مهلة أيام للانصياع لأوامر حزبه 23
احتفالاً طرابلسياً من العيار الثقيل يجعل الحزب يراجع حساباته ورعد يتراجع 23
سليمان ينجح في عقد جلسة للحكومة ويرفعها لعدم التوافق على التصويت 24
خامنئي يوجه صفعة جديدة للحريري ويعلن أن قرارات المحكمة لاغية وباطلة 24
الحريري يعض على جرحه، والمحكمة تعلن أن بلمار لا يزال في مرحلة التحقيق 25
السنة تنتهي بموقف جريء لرئيس الجمهورية، وآخر تخويفي من إيران، وثالث تصعيدي وغير رسمي من الأسد 26
خاتمة 28

مقدمة

دخلت سنة 2010، وفي اعتقاد معظم المحللين انها ستشهد اعلان القرار الاتهامي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تبعها من اغتيالات حصدت ثلة من خيرة قادة "ثورة الارز". ونظراً لوجود فريق متخوِّف من اعلان الحقيقة إلى حدِّ الذُعر، كان لمرحلة ترقُّب صدور القرار الاتهامي اثرها السلبي على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد طيلة تلك السنة.
ومما يدعو للاسف في بلدنا لبنان، أنّ الكلمات والعهود والمواثيق يمكن ان تفقد صدقيتها وتتبخر في اية لحظة، فتصبح مجرّد حبر على ورق، او بضع كلمات لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به او الورق الذي دونت عليه، وما ذلك إلا لأن احد اصحاب التواقيع والالتزامات ممن يُتقِنُون "فنّ التقيّة"، قرر قلب الطاولة على الجميع ونقض عهوده والتنصّل من مسؤولياته، مستقوياً على الدولة وعلى بقيّة الأفرقاء بترسانته العسكريّة.
فنقضاً للإجماع الذي انعقد على المحكمة الدولية عام 2006 اثناء جلسات طاولة الحوار الوطني، ونسفاً للبيانات الوزارية التي نصّت على التزام لبنان بالمحكمة، شهدنا عام 2010 وللمرة الاولى منذ قيام المحكمة الخاصة بلبنان بموجب القرار رقم 1757 الصادر عن مجلس الامن في 30 أيار 2007، شهدنا هجمة منظّمة ومبرمجة ومركزة تستهدف المحكمة الدولية تمهيداً لإلغائها، ما يعني منع معرفة الحقيقة وعرقلة العدالة.
فقد شنّ فريق 8 آذار بقيادة "حزب ولاية الفقيه"، حملة تهويل وتخويف وترهيب موجهة ضد قيادات وجمهور 14 آذار والرأي العام العالمي، تُنذر بفتنة سنية-شيعية قد يشعلها صدور القرار إن لم يُسارعوا الى اعلان تخلّيهم عن المحكمة، وتُحذر الدولة بأجهزتها الأمنية ومؤسّساتها من التعامل معها، مهدِّدة الجميع بـ"7 ايار جديد سيكون نهائياً وحاسماً هذه المرة".
وكان لافتا في هذه الحملة، تزامنها وترافقها مع حملة موازية داعمة لجهودها، أخذها على عاتقه العدو الإسرائيلي! فقد عمد الأخير عبر مخابراته إلى ضخ كمّ هائل من التقارير والمقالات والتصاريح الى وسائل اعلامه، تتهم فيها إسرائيل ومسؤوليها "حزب ولاية الفقيه" باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتجزم بأن القرار الظني للمحكمة سيأتي بهذا المضمون. وقد وصل الأمر بالإسرائيليين إلى توقّع إقدام الحزب على إشعال "الجبهة" في الجنوب، في محاولة للهروب من مفاعيل القرار الظني إذا صدر موجِّها أصابع الإتهام إليه. وكان الحزب الإيراني كعادته يتلقّف تلك المواقف الإسرائيلية "الذكيّة"، ويتخذ منها وقودا يُسعّر به حملته الهجوميّة على المحكمة ويرد بها على داعميها ليؤكِّد زعمه بشأن تسييس المحكمة واعتباره إياه أداة إسرائيلية.
ولا شك أن تصرّف العدو الصهيوني يدعو للشك والريبة، إذ لا يخفى عليه بالتأكيد أن تصاريحه تلك إنما تخدم الحزب في حربه الإستباقية على المحكمة وقرارها المرتقب، لأنه بلا شك يدرك بذكائه وخبثه ومكره ودهائه، أنه لو كان امتنع عن إطلاق تصاريحه الملغومة تلك، لكانت وطأة القرار الاتهامي على الحزب وفضيحته أمام الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي- فيما لو كان متورّطاً فعلاً بالجريمة- أكبر بكثير مما ستكون عليه لدى صدوره بعد هذه الحملة. فإسرائيل بكل بساطة، أوجدت للحزب منذ تقرير "دير شبيغل" ذريعة لاتهام المحكمة بالتسييس، وفتحت له كوَّة للتشكيك في نزاهتها، وأعطته خشبة الخلاص للنجاة من ورطتها، وهدر دماء مؤيديها والمتعاملين معها.
ومهما يكن من امر، فالواضح أنّ فريق 8 آذار بقيادة "حزب ولاية الفقيه"، قد أعد خطة جهنمية ودقيقة من أجل إجهاض المحكمة، ونسف أسسها حتى قبل ان تلفظ قرارها الظني.
في المقابل، نجد الفريق الاستقلالي والسيادي، بجمهوره وقياداته امانته العامة، لا يزال ثابتا على مواقفه السابقة تجاه المحكمة، يُبدي كامل ثقته بها، ويرفض التشكيك بصدقيتها.
وفي حين تؤكد قوى 14 آذار حتى الآن اصرارها على التمسّك بالمحكمة والقبول بقرارها اذا كان مستندا لادلة مقنعة، فإن جولة سريعة في الماضي القريب لتلك القوى لا تدعو الى الاطمئنان!
فقوى 14 آذار خضعت للابتزاز وقدّمت الكثير من التنازلات خوفا من استعمال السلاح غير الشرعي في الداخل، وتعريض السلم الأهلي للخطر، وذلك ابتداء من عدم تمكُّنها من إسقاط الرئيس اميل لحود في الشارع ما بين عامي 2005 و2007، مرورا بعجزها عن انتخاب رئيس للجمهورية من فريقها بالنصف زائداً واحداً عندما اعتلى الفراغ سدة الرئاسة الاولى من اواخر عام 2007 إلى منتصف عام 2008، وكذلك فيما خصّ ممانعتها انتخاب عسكري لرئاسة الجمهورية، أو لناحية رفضها تشكيل حكومة ملغومة بالثلث المعطل... ثم قبولها بذلك كله بعد تسوية الدوحة، وتكراره عام 2009 بعدما فُرِض ذلك الثلث القاتل بشكل مضمَر او مموَّه في حكومة ما بعد الانتخابات، فضلاً عن قبولها توزير الراسبين الذي عارضته لفترة، وإعادة تشريعها السلاح الميليشيوي في البيان الوزاري، وكان سبق ذلك موافقتها على إعادة انتخاب نبيه بري رئيساً لمجلس النواب رغم قفله اياه مدّة عامين تقريباً في وجه نواب الامة، معطِّلا بذلك الاستحقاقات الدستوريّة وعمل الدولة اللبنانية. ولا ننسى أنّ ذلك السلاح نجح في إخضاع النائب وليد جنبلاط للواقع السياسي الجديد بعد حوادث 7و11ايار الإرهابية، فأعلن طلاقه مع القوى الاستقلالية واعتذاره من النظام السوري وتخندقه الى جانب ما يسمى "المقاومة".
والسؤال المطروح هنا: هل سيصمد الفريق الاستقلالي هذه المرة في وجه تهويلات وتهديدات الفريق المتخوِّف من إعلان الحقيقة؟!
أيًّا يكن الجواب، فما نستطيع قوله إن المحكمة أُنشِئَت بقرار دولي تحت الفصل السابع، وباتت منذ ذلك الحين في قبضة المجتمع الدولي والامم المتحدة، وبالتالي لم يَعُد للبنان القدرة على تعطيل مسارها، وإلا اصبح خارجا على الشرعية الدولية.
لكن مع ذلك، يبقى أمام قوى 14 آذار التزام اخلاقي وأدبي تجاه قافلة شهداء "ثورة الارز"، لجهة معرفة حقيقة من اغتالهم ومحاكمته، ولا سيما الذين سقطوا منهم على درب إنشاء محكمة تضع حداً نهائيا للجرائم السياسية في لبنان، كالشهيدَين جبران تويني وبيار الجميّل، ومن هنا فإن أي تراجع او تَخَلٍّ عن العدالة وإن كان غير مؤثّر على عمل المحكمة، سيكون بمثابة اغتيال ثان للرئيس رفيق الحريري وسائر الشهداء الذين سقطوا بعده. فالعدالة العدالة، والصمود الصمود، ليبقى لبنان، ولكي لا نغتالهم مرة ثانية.


عبدو شامي
1/1/2011

 

2010 عام الاعتذار من سوريا وترقُّب القرار الاتهامي

بدأت حوادث العام 2010 مع كارثة سقوط الطائرة الأثيوبية قبالة شاطئ بلدة الناعمة في 25 كانون الثاني، وذلك بعد نحو أربع دقائق على إقلاعها من مطار رفيق الحريري الدولي، ما أسفر عن مقتل كافّة ركّابها وطاقمها. وفيما رجَّحت التحقيقات الأولية استبعاد فرضيّة العمل الارهابي، عزَت أسباب حصول الكارثة إلى سوء الأحوال الجويّة وخطأ بشري يتحمّل مسؤوليته قائد الطائرة.
في 14 شباط 2010، كانت جماهير "ثورة الارز" كالعادة على موعد مع مهرجانها السنوي الحاشد، في الذكرى الخامسة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري. كان نجاح المناسبة هذه المرة يواجه تحدياً خاصاً لسبَبَين: أحدهما، انقلاب النائب وليد جنبلاط في 2آب2009 وانسحابه من صفوف 14 آذار، والثاني، الإحباط الذي أصاب الجمهور الاستقلالي بسبب التنازلات الكبيرة التي قدّمها فريقهم السياسي، ولا سيما تلك المتعلقة بتشكيل حكومة ما بعد انتخابات 2009.
وقد نجح جمهور 14 آذار في اجتماعه في التغلّب على حال الإحباط التي اصابته، فشكَّلَ مشهد الحشود المجتمعة في ساحة الحريّة تفويضاً جديداً يُعادل في مفاعيله نتائج الانتخابات النيابيّة السابقة التي لم يُؤخذ بها عملياً، والتي أدَّت المُساومات السياسيّة إلى إجهاض نتائجها. وجاءت الاحتفالية الضخمة، لتُسقط المراهنات على انفراط عقد حركة 14 آذار، وتكشف زيف الصورة التي يُراد فرضها على عُموم اللبنانيين، بأن زمن السيادة والاستقلال والحرية وشعارات الوحدة الوطنية انهزمت، وأخْلَت مكانها لشعارات زمن الوصاية والهيمنة ورفع الاصابع وفرض الاملاءات والقرارات والحروب الاهلية على شعب لبنان.
وقد انتهز قادة "ثورة الأرز" هذا الاجتماع، ليكون فرصة للمصارحة والمكاشفة مع جمهورهم. فحرص الرئيس الحريري في "مكاشفته" على شرح ملابسات زيارته سوريا قائلاً: "بهذه الروح، وضعنا لبنان على خارطة المصالحات العربية، وليس سراً على أحد، أنني شخصياً، شريك في رسم هذه الخارطة وإعدادها، وأنّ زيارتي إلى دمشق كانت جزءاً من نافذةٍ كبرى، فتحها الملك عبد الله بن عبد العزيز وأعطت نتائجها في أكثر من ساحة عربية. وإنني بكل صراحة وصدق ومسؤولية، أمينٌ على إبقاء هذه النافذة مفتوحة، والشروع في بناء مرحلة جديدة من العلاقات بين لبنان وسوريا، من دولةٍ سيدةٍ حرةٍ مستقلة، إلى دولةٍ سيدةٍ حرةٍ مستقلة(...). لقد خطونا خطوة تاريخية، رأى البعض أن خسائرها الشخصيّة علينا كانت كبيرة. لكن المهم، أن نسأل، عن فوائد هذه الخطوة على الإستقرار في لبنان، وعلى مصير العلاقات العربية". هذا مع العلم أنه مضى على الزيارة التي تمّت في 19/12/2009 قرابة الشهرين، ولم تترجم بعد أي خطوة او إجراء لما كان تم التوافق عليه بين الرئيسَين، والذي حرص الحريري على حفظه والتكتُّم عليه حتى ضمن الحلقات الضيِّقة المحيطة به، احتراماً منه لما دار بينه وبين الأسد.
وتابع الرئيس أمين الجميل عملية المصارحة، فتوجّه إلى الجمهور السيادي بالقول: "كنتم تنتظرون حكومة تكون تعبيراً واضحاً عن نتائج الانتخابات، إلاّ أنّ الظروف التي تعرفونها جميعاً حتَّمت أن تكون الحكومة حكومة شراكة تَضُمُّ مختلف الأطراف. والواقع حتى الآن أظهر تعثُّراً واضحاً في مواجهة وحسم الملفات العالقة ولا سيما الاساسية منها، مما أوقع البلاد في حال المراوحة الخانقة، وبات يتطلّب معالجة سريعة".
وكانت كلمة للرئيس فؤاد السنيورة، عكست ثبات "تيار المستقبل" على منطق الدولة، حيث قال: "لا نقبل أن يفرض أحد رأيه علينا بالقوّة والسلاح، ونحن لا نقبل أن نفرض رأينا بالقوّة، ونقبل بالتغيير والإصلاح عبر الأساليب الديموقراطية(...) ونحن ضد سيطرة الميليشيات".
وكان لا بد من رفع معنويات الجمهور السيادي، وشدّ عصبهم، ومَن أفضل لهذه المهمة مِن رئيس الهيئة التنفيذية في "حزب القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع، فقد حرص على تحقيق هذه المعاني قائلاً: "أبو بهاء، نَمْ قريرَ العَين، فنحن قومٌ لا يُقتَلُ لهم شهيد مرتَين، مرة بالاغتيال ومرة بالنُّكران. إذا رأيتَ الأرز يمدُّ يدَه، فلا تظنَّنَّ أن الأرزَ يُساوِمُ. يا شعب 14 آذار، قالوا رَحَلْتُم إلى غير رجعة، فها أنتم تَعودُون".
في هذه الأثناء، ومنذ مؤتمر "البوريفاج" الشهير في 2آب 2009، الذي أعلن فيه انقلابه على تاريخه الاستقلالي وسنوات النضال المشرّفة التي أمضاها مع 14آذار، كان النائب وليد جنبلاط يواصِل استدارته ويَبذل قُصارى جهده زحفاً نحو بوّابة الشام، علّه يحظى بنظرة رضى وتأشيرة دخول من "طاغيتها"، كما اسماه في احد ايام "الغربة المقيتة" التي امضاها في صفوف القوى الاستقلالية، يوم كان متحالفاً مع "اليمين الغبي" او "الفينيقي" المسيحي، وهي عيَّنة من التعابير المُخزية التي أطلقها جنبلاط خلال سنة 2010 عبر سلسلة طويلة من المقابلات الصحافية والتلفزيونية تسديداً لفواتير قديمة، وتأكيدا على ثباته في انعطافته الجديدة.
كان 13آذار 2010 يوما فيصلا في "توبة" جنبلاط، ففي مقابلة له مع قناة "الجزيرة" الفضائية القطرية، تلا جنبلاط "فِعلَ النَّدامة" قائلاً: "صدر مني في لحظة تخلٍّ كلام غير لائق وغير منطقي بحقّ الرئيس بشار الأسد، في لحظة من التوتر الداخلي والمذهبي في لبنان والانقسام الهائل. وكانت لحظة تخلٍ كما يقول العقلاء الدروز (...)، هل يُمكنُه تجاوز تلك اللحظة وفتح صفحة جديدة؟ لست أدري!". وتطرق إلى ذكرى استشهاد والده كمال جنبلاط في 16 آذار 1977، وقال: "اليوم ستختم هذه المرحلة. آنذاك قلت أسامح ولن أنسى، اليوم أسامح وأنسى"!! ولم يكتفِ جنبلاط بهذا القدر من التنكُّر لشهادة والده، بل امتَنَعَ عن وضع وردة حمراء على ضريحه في ذكرى استشهاده كما درجت عادته في كل عام، تاركا هذه المهمة "المخجلة والمخزية" لابنه تيمور.
قُبِلَت "توبة" جنبلاط، فأعلن "حزب ولاية الفقيه" فتح طريق دمشق امام الزعيم الدرزي، لشهد لبنان في 31 آذار2010 يوما سياسياً استثنائياً. فقد استقبال الرئيس السوري بشار الأسد، رئيس "الحزب التقدّمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط، الذي انهى بزيارته للعاصمة السورية قطيعة دامت زهاء ست سنوات، في ما اعتبر تعزيزاً للمكاسب السياسية السورية في لبنان في الآونة الأخيرة.
وفي ذلك اليوم التاريخي، برز تطور لافت، وتمثل في ردّ الأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" حسن نصرالله على موجة ما سمي "التسريبات والإتهام السياسي" للحزب في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهو اتهام لم يصدر عن أي طرف من مكوّنات 14 آذار، وانما تناقلته بشكل مريب ومشبوه الصحافة الاسرائيلية وبعض الصحف العالمية المرتبطة بها. فكَشَفَ نصر الله استدعاء 18 شخصاً محازِبِين أو مقرَّبِين من الحزب إلى التحقيق الدولي، محذراً من خطورة استمرار "المسار الجاري" في التحقيق عبر تفنيد طويل لرؤيته إلى لجنة التحقيق والمحكمة الخاصة بلبنان. وقرن استمرار تعاون الحزب مع التحقيق بشرط منع التسريب ومحاكمة المسرِّبين، كما نبّه الى خطورة ما وصفه بـ"محاولة تشويه" صورة الحزب.
وكانت هذه المرة الاولى التي يتناول فيها نصرالله ملف التحقيقات بهذا الإسهاب، اذ خصص لها اكثر من نصف المقابلة التلفزيونية (غير البريئة) التي اجرتها معه قناة "المنار" في تلك الليلة، واستمرّت نحو ساعتين ونصف ساعة! ما أشعر بأن الحزب يمهّد الأجواء لأمر ما.
في شهر ايار 2010، وبعد مخاض عسير في مجلسي النواب والوزراء، خاضته القوى الاستقلالية من أجل حصولها في موعدها، كانت القوى السياسية على موعد مع استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية، التي تميَّزت في بعض المناطق بانقلاب واسع على المعايير السياسية التقليدية التي قسمت البلاد منذ عام 2005 بين معسكري 8 و14 آذار، مع تشكيل بعض اللوائح المشتركة بين المعسكرَين، وأخرى غير مسيّسة، اذا صح التعبير.
وعلى الرغم من الانتكاسة التي مني بها تيار المستقبل في بعض قرى البقاع الغربي وقرى الضنية لمصلحة قوى 8آذار، فان نتائج مختلف المناطق، وخصوصاً بيروت والبقاع، كانت بالنسبة لقوى 14 آذار أفضل مما كانت عليه في الانتخابات النيابية الماضية.
وفى قراءة هادئة لنتائج الانتخابات البلدية فى جبل لبنان، تبيَّن للمتابعين أن المعارك الشرسة التى دارت فى المدن والبلدات وخصوصًا المسيحية منها، أعطت دلائل كثيرة على أن عصر الهبوط التدريجي للعماد ميشال عون لا يزال مستمراً، وأن قوّة "14 آذار" فى الشارع المسيحى بدأت تعطي التراكم المطلوب القادر على محاصرة عون ومشروعه، وعلى قطع الطريق أمام "حزب ولاية الفقيه" وسورية، اللذين يستثمران اختراق عون للساحة المسيحية لصالح التحالف السوري الإيراني، الذي يطمح لإحكام السيطرة على لبنان بواسطة تكتيكات القضم البطيء .
ولم يخل شهر ايار من تطوّرات منتظرة على صعيد المحكمة الدولية. فقد كشف رئيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أنطونيو كاسيزي في 17ايار 2010، ان المدّعي العام دانيال بلمار "في صدد اصدار القرار الإتهامي في إغتيال الرئيس رفيق الحريري ما بين أيلول وكانون الأول". مضيفاً: "ليس لدي معلومات عن أسماء المتهمين، نظراً للسرية التامة التي تحيط بالتحقيق تطبيقاً لسياسة المحكمة الصارمة بهذا الشأن." موضحاً أن الإستقالات التي شهدتها المحكمة كانت لدوافع "شخصية وعائلية".
مع مطلع شهر حزيران، كانت الحكومة اللبنانية تواجه امتحاناً حسّاساً ومصيرياً، فبوصفه عضواً غير دائم في مجلس الأمن، كان لبنان معنياً بالمشاركة في التصويت على "العقوبات" المراد فرضها على ايران على خلفية برنامجها النووي. ففي التاسع من حزيران، سجّل المشهد الحكومي انقساماً لم يسبق له مثيل في الموقف الرسمي من قرار العقوبات على ايران، وانتهى الأمر الى صيغة "اللاغالب ولا مغلوب" التي عمل على انجاحها رئيس الجمهورية، وتمثّلت بتصويت فريق المعارضة مع وزراء رئيس الجمهورية ضد تصويت لبنان مع قرار العقوبات في مجلس الأمن، بينما أيّد فريق 14آذار ووزراء النائب جنبلاط الامتناع عن التصويت، فكانت النتيجة التعادل 14 – 14، فكان القرار ابلاغ مندوب لبنان موقف "اللاقرار"، الذي لم يغيِّر بدوره شيئًا في تيجة التصويت الدولي الذي انتهى بإقرار "العقوبات". وكان لنتيجة التصويت داخل الحكومة دلالة خطيرة، أكّدت أن الحضور الايراني ثبّت مواقعه في لبنان على الضفة الأخرى للدور السوري والحضور السعودي والاميركي والفرنسي.
دخل لبنان في النصف الثاني من عام 2010، وفي صورة مفاجِئة، انطلقت حملةٌ من التهديد والتهويل بخصوص المحكمة الدولية، مفادها أن سلام لبنان متوقّف على إنكار العدالة والحقيقة، وعلى الحريري والقوى الاستقلالية الاختيار بين العدالة ومعرفة الحيقة وبين الاستقرار في البلاد.
ولهذه الغاية، أخذ المهوِّلون يخترعون سيناريوات تخويفية وتهويلية استباقية، تُنذر بفتنة سنية-شيعية عظيمة، وتستحضر نموذجي 7 أيّـار (مضاعفا 70 مرّة) وحرب تمّوز. وهكذا، بدأت مرحلة الحملة المركّزة على المحكمة الدولية التي نظمها "حزب ولاية الفقيه"، والحرب الاستباقية المفتوحة التي شنّها مستهدفا قرارها الظني المرتقب.
إلا انّ اللافت في الموضوع، كان في هوية مطلق شرارة حملة الحزب وصاحب الضوء الاخضر لانطلاقتها، ألا وهو رئيس أركان الجيش الاسرائيلي اللفتنانت جنرال غابي اشكنازي! فقد توقع اشكينازي في 6 تموز 2010 ان يشهد لبنان "صراعاً وتوتراً على خلفية النشر المُزمَع في أيلول للقرار الظني الذي سيصدر عن المحكمة الخاصة بلبنان، التي تُحقِّق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه".
وعلى الرغم من علمه بأن اشكينازي لم يأت بجديد لناحية التوقيت، نظراً لإفصاح رئيس المحكمة الدولية في 17 ايار عن توقعه صدور القرار بين أيلول وكانون الاول، لم يُضيِّع "العدو اللدود" لإسرائيل حسن نصر الله فرصة استثمار تلك الخدمة الصهيونية الجديدة، فقد حرص في خطاب ألقاه في 16 تموز2010 على إعطاء كلام أشكينازي صدقية كبيرة، فاستشهد به واتخذ منه ذريعة لشن حملة على المحكمة الدولية، واطلاق تهم التخوين والعمالة تلميحا وتصريحا تجاه اكثرية الشعب اللبناني المؤيدة للمحكمة الدولية، معتبراً ان "القرار الظني المقبل للمحكمة الدولية مشروع إسرائيلي"!
ومنذ ذلك التاريخ بدأ نصر الله الفاقد لأعصابه والمتوتر، مُسلسل التخبُّط والتشويق والإثارة البوليسي المؤلّف من خمس حلقات، والذي عرضه على جميع شاشات التلفزة اللبنانية الأرضية والفضائية، في الفترة الممتدة ما بين 16تموز و9آب2010، وحمل عنوان "كاد المريب يقول خذوني"!
كانت حلقات ذلك المسلسل، أشبه بمرافعات قانونية متلفزة مليئة بالتخبُّطات والسَقطات والعَثَرات، حاول من خلالها نصر الله إقناع اللبنانيين مستخدماً مختلف الوسائل المتاحة بما فيها التهديد والوعيد، بوجهة نظر بدا واضحا أنه شخصيا غير مقتنع بها! ما أثار الشكوك في دور الحزب وتورطه في الاغتيالات منذ عام 2004، لكونه الوحيد الذي يرفع السقف ويتهم نفسه مسبقاً، ويشكك في المحكمة، ويطلق التحليلات على عواهنها.
وفي هذا السياق، كان للحلقة الأخيرة من المسلسل في التاسع من آب ميزة خاصة، لأنها عكست مدى استخفاف الحزب بعقول جمهوره فضلا عن بقيّة اللبنانيين ومتابعيه في العالمَين العربي والاسلامي. ففي تلك الحلقة التي جرى الترويج لها من قبل أوساط قوى 8 آذار على انها مؤتمر صحافي "سيكشف معطيات كفيلة بقلب مجريات التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولن يكون ممكناً بعد كشفها تجاهل القرائن التي سيكشفها، مما سيضع جميع المعنيين أمام واقع جديد"، تفوَّق نصر الله على "ألفْرِدْ هيتشكوك" و"شيرلوك هولمز"، فحاول توجيه تهمة اغتيال الحريري غلى إسرائيل، عارضاً مجموعة حوادث وأفلام واعترافات حمّلها اكثر مما تحتمِل، وبنى بينها رابطاً وهمياً مفترضاً للتأثير في قناعة الجماهير... فبدا المؤتمر الذي استأثر باهتمام اعلامي وسياسي واسع، دون المستوى الذي أُعلِنَ عنه والأهميّة التي رُوِّج لها، حتى صحَّ فيه المثال العربي القائل: "تمخَّض الجبل فولد فأرا"!
ومع أنّ قوى 14آذار أعلنت بقوّة وصراحة وحَزْمٍ تمسُّكَها بالمحكمة الدولية وثقتها بها، ورفض اتهامها المسبق بالتسييس قبل صدور القرار وقراءة مضمونه وأدلته، وذلك قبل مسلسل نصر الله وأثناءه وبعده، يمكن القول إنّ تهويل نصر الله فعل فِعْلَه بعد عرضه أولى حلقات مسلسله، فكان التحرُّك العربي السريع للتهدئة والشروع في إيجاد "حلول" تحت ما يسمى "المظلة العربية"، أو الـ "س-س" التي أعادت النفوذ السوري رسميا الى لبنان، لكن عبر البوابة السعودية.
ففي 30 تموز2010، انبسطت المظلة العربية المنتظرة مع هبوط الطائرة الملَكية التي أقلّت العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس السوري بشار الأسد في مطار رفيق الحريري الدولي. وصدر عن القمة الثلاثية التي انعقدت في بعبدا مع الرئيس سليمان بيان ختامي أكَّد "التزام عدم اللجوء إلى العنف، وتغليب مصلحة لبنان العليا على أي مصلحة فئوية، والاحتكام إلى الشرعية والمؤسسات الدستورية وإلى حكومة الوحدة الوطنية لحل الخلافات". وخلافا لمعلومات قوى 14 آذار، حرص "حزب ولاية الفقيه" والقوى الملحقة به على إشاعة جوٍّ إعلامي، مفاده أنّ القمة الثلاثية أوالمسعى السعودي-السوري، إنما يبحث كيفية تأجيل القرار الظني وإبعاد أي تهمة قد توجه الى الحزب، او بعبارة اخرى: وضع أسس تسوية تجهض المحكمة وكافة مفاعيلها.
بعد القمة الثلاثية، بدأ يتفاعل بقوة سجال بين القوى السياسية حول ملف ما يسمى "شهود الزور"، الذين تتهمهم قوى 8 آذار بتضليل التحقيق وحرفه عن المسار الصحيح، وتتذرع بهم لضرب صدقية المحكمة وقرارها الظني، مطالبة الحكومة اللبنانية وقوى 14آذار بمحاكمتهم. وقد انسحب هذا السجال الى مجلس الوزراء ولجنة المال والموازنة في مجلس النواب، مع رفض القوى الإنقلابية إقرار بند تمويل المحكمة الدولية للعام 2011. وقد أبدت عدّة دول استعدادها للحلول مكان أي جهة تتخلّف عن سداد حصّتها المالية.
وهنا، لا بد من الإشار الى حدثَين بارزَين تخلّلا فترة عرض نصر الله مسلسله الشهير "كاد المريب يقول خذوني". الحدث الاول وقع في 3 آب 2010، ففي أخطر تدهور أمني تشهده الحدود اللبنانية-الاسرائيلية منذ إعلان وقف "الأعمال العدائية" في 14 آب 2006، اندلعت اشتباكات على محور بلدة عديسه الجنوبية بين الجيش اللبناني والعدو الاسرائيلي، على خلفية محاولة إسرائيل اقتلاع شجرة قرب الحدود، اعتبرها الجيش اللبناني داخل الأراضي اللبنانية، ما أسفر عن استشهاد عسكريَّين اثنَين وصحافي من الجانب اللبناني، وسقوط عدد من الجرحى ووقوع أضرار في مراكز الجيش، فيما سقط للجيش الإسرائيلي ضابط برتية عالية وأُصيب آخر بجروح خطرة. وكادت الأمور تنزلق الى حدّ اشتعال الجبهة الجنوبية لولا مسارعة المحافل الدولية الى التدخّل من أجل لجم الأمور.
وقد كان لدخول الجيش بامكاناته المحدودة في مواجهة غير متكافئة مع القوات الإسرائيلية، فارضاً بدماء شهدائه وجرحاه معادلة احترام الحدود اللبنانية وسيادتها، صدى ايجابياً جداً ومشرِّفا لدى الشعب اللبناني، الذي يعتبر قسم لابأس به منه أنه شَهِدَ للمرة الأولى منذ زمن بعيد اشتباكاً وقتالاً حقيقياً ضد العدو الصهيوني، بعيدا كل البُعد عن "المسرحيات الدعائية" التي شهدتها هذه الجبهة.
أما الحدث الثاني، فتمثّل بنكسة من العيار الثقيل مني بها الجنرال عون وتياره. فوسط الأجواء المشحونة التي ترافقت مع عرض نصر الله حلقات مسلسله، وفي 4 آب 2010 تحديداً، جاء الكشف عن توقيف شُعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي العميد المتقاعد في الجيش والقيادي البارز في "التيار الوطني الحر" فايز كرم بتهمة التعامل مع إسرائيل، ليفجر مفاجأة ضخمة وصدمة لدى"التيار". وهو تطوّر فريد في سياق الكشف عن شبكات التعامل مع العدو التي كرَّت سبحتها في ذلك العام، بحيث يطاول متهَماً ذا صفة سياسية إلى جانب كونه ضابطا رفيعاً متقاعدا تدرّج في الجيش، وتولى مراكز قيادية كان آخرها رئيس فرع مكافحة الارهاب والتجسس حتى العام 1990. وكان كرم في عداد الضباط الذين اعتقلوا في سوريا عقب عملية 13 تشرين الاول 1990، التي أطاحت حكومة العماد ميشال عون العسكرية، وانضمّ إلى العماد عون في منفاه في باريس، ثم عاد معه الى لبنان عام 2005 وخاض الانتخابات النيابية على لوائح الجنرال في دورتي 2005 و2009.
وفي أوّل تعليق له على اعتقال كرم، اعترف عون بعمالة "ساعده الأيمن" مشبها نفسه بالسيد المسيح في 5/8/2010 حيث قال: "من لا يتوقَّع أن يسقط معه أشخاص يكون غبياً وساذجاً...التيار الوطني الحر سيتحمل هذه الامور وكأنها جزء من الخسارة في المعركة (…) ومِن رُسُل السيّد المسيح الذين اختارهم بنفسه سقط 25 في المئة"!! إلا إن المفاجأة كانت في عودة عون عن تصريحه ذاك بعد شهر على إطلاقه، وبعدما سطّر المدعي العام اللبناني ادعاءه على كرم بجرم التعامل مع مخابرات العدو الإسرائيلي، فقد أطلق عون حملة دفاع شرسة عن كرم، متهما فرع المعلومات بإرغام الأخير تحت التعذيب على الإدلاء باعترافات كاذبة ذات اهداف كيدية وسياسية بامتياز. ولم تستبعد مصادر في التيار العوني ان يكون وراء حملة عون ما ورد في الرسالة التي نقلتها محامية العميد المتقاعد الموقوف فايز كرم الى عون، ومفادها ان على قيادة التيار ان تتحرك "لانه لا يقبل بأن يبقى هو كبش محرقة".
وفي هذا السياق نقلت محطة الـ "أم•تي•في" في 22ايلول 2010، على لسان مصدر في "التيار الوطني الحر"، أن الحملة التي يشنها النائب ميشال عون على شعبة المعلومات ومدعي عام التمييز القاضي سعيد ميرزا سببها اعتراف أدلى به العميد المتقاعد فايز كرم أمام قاضي التحقيق رياض أبو غيدا أكد فيه معرفة عون بعمالته أقله منذ العام 2006•
وأضاف المصدر الذي اشترط عدم الكشف عن إسمه، أن محامي كرم حذر عون من أن ذلك الإعتراف يشكل دليلاً على معرفة عون المسبقة بعمالة كرم للإسرائيليين ورَدَّة فعله لم تحمل أي تأنيب أو أي إجراء تأديبي بحق كرم لمنعه من متابعة العمالة، إضافة إلى عدم قيامه بواجبه الدستوري والقانوني والمدني بإبلاغ السلطات المعنيّة هذه المعلومات•
مساء 24 آب 2010، أبى "حزب ولاية الفقيه" إلا أن يؤكّد أن سلاحه الذي يدّعي أنه مُعَدّ لمواجهة العدو الاسرائيلي، ليس إلا سلاحاً ميليشيوياً مُعَداً للاستخدام في أزِقّة بيروت والداخل اللبناني، وموجَّهاً إلى صدور اللبنانيين بمن فيهم "حلفاؤه"! فقد سقط في ذلك الليل مسؤول من "حزب ولاية الفقيه" ومرافقه وعنصر ثالث في منطقة برج أبي حيدر في بيروت، في اشتباكات مسلّحة بين عناصر تنتمي الى "جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية" (الاحباش)، واخرى الى الحزب شهدتها تلك المنطقة ذات الكثافة السنيَّة، وذلك على خلفية حادث وصفه الطرفان المتحالفان-المتقاتلان بالـ"الفردي", وقد استخدمت في الاشتباكات التي استمرّت نحو ثلاث ساعات، الأسلحة الرشّاشة والقذائف الصاروخية، وامتدت الى أحياء مجاوِرة قبل أن يُسمَح بالتدخُّل للجيش اللبناني الذي بقي متفرِّجاً (كعادته) على ذلك الفصل الدموي، فعمل على ضبط الوضع وإعادة الأمور الى طبيعتها. كما استدعى النظام السوري طرفي الإشتباك، وصالحهم، فأعلن "الأحباش" أنهم لا يزالون في خندق واحد مع ما يسمّى "المقاومة".
وبذلك، ثبت بالتجربة والبرهان في اشتباكات "اللون الواحد"، أن السلاح الطائفي والمذهبي، يجعل التحالفات السياسية عاجزة عن ضمان عدم استعماله في الداخل او على الأقلّ ضد الحليف، فعندما "يجدّ الجدّ" لن يعترف ذلك السلاح الا بالولاء العقائدي المحض. فالإشتباك وإن بدأ "فردياً" كما يزعم طرفاه، إلا أنه ما لبث ان اتّسع ليصبح أشد زخماً وعنفاً من غزوات 7 أيار 2008 و11 منه، مع إطلاق عشرات القذائف الصاروخية على مراكز "الحلفاء"، واستهداف المساجد والمؤسسات المدنية بالقصف والقنص والحرق، فضلاً عن خطف الحزب 24 "حبشياً" من منازلهم.
في ذلك الوقت، كان السجال الذي أثاره الفريق الإنقلابي حول ملفّه الشهير والموهوم لا يزال مستمراً، ما دفع المدَّعي العام الدولي دانيال بلمار إلى الخروج عن صمته، فأوضح موضوع ما يسمى "شهود الزور" في 1/9/2010، مؤكداً أن "المحكمة لن تعتمد كلام محمد زهير الصديق". وتساءل بلمار: "من وصف هسام والصديق بأنهما شاهدا زور؟". وأضاف: "لم يسبق لي أن استخدمت هذا التعبير. حتى الآن هو غير متّهم، مثله مثل الصديق". وكان ذلك الموقف كافياً للجم المعارضة عن مطلبها وإسكات تُرَّهاتها، إلا أنّ "حزب ولاية الفقيه" أصر على المُضي في استكباره على الشعب اللبناني، واستقوائه بسلاحه الميليشيوي، فلم يُقفل ملفّه الموهوم، وأمعن في طغيانه.
كان موقف الفريق الاستقلالي واضحا لناحية رفض طلب المعارضة "الهميوني" المتعلق بمحاكمة ما تسميهم "شهود الزور"، فالملف الذي تطالب القوى الخائفة من المحكمة بفتحه فارغ قانونياً وباطل قضائياً، نظراً لاحتفاظ لجنة التحقيق الدوليّة بإفادات الشهود ورفضها الإفراج عنها إلى حين صدور القرار الظني حفاظاً على سرية التحقيق. فقبل الاطلاع على الإفادات لا يمكن الحكم على من أدلوا بها بارتكاب جرم شهادة الزور.
بَيد أن موقف القوى الاستقلالية الصلب والمتماسك حيال ذلك الملف الوهمي، والذي نجح إلى حدٍّ ما في ايجاد "توازن قوى" كبح جماح المعارضة المصرّة على فتحه وصولاً إلى طرحه على مجلس الوزراء للبت في أمره، تعرَّض الى نكسة قوية وضربة مزلزلة، مع تقديم الرئيس سعد الحريري تنازلاً موصوفا من الدرجة الاولى معنوياً وسياسياً ومبدئياً، من غير الجائز أن يصدر عن القطب الأول في 14 آذار دون تشاور وتنسيق مع بقيّة الأقطاب والقيادات والأمانة العامة، ولا سيّما أننا لا نزال في مرحلة التحقيق الدولي والمحكمة لم تلفظ قرارها الاتهامي بعد.
ففي مقابلة اجرتها معه صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، ونشرت في 6 ايلول 2010، اعتذر الرئيس سعد الحريري من سوريا عن اتهامه إياها سياسياً باغتيال والده، كما اعترف للمعارضة بوجود "شهود زور" قائلاً: "نحن في مكان ما ارتكبنا اخطاء. في مرحلة ما، اتهمنا سوريا باغتيال الرئيس الشهيد، وهذا كان اتهاماً سياسياً، وهذا الاتهام السياسي انتهى". "هناك اشخاص ضلَّلوا التحقيق، وهؤلاء ألحقوا الأذى بسوريا ولبنان (...). شهود الزور هؤلاء خرّبوا العلاقة بين البلدَين وسيَّسوا الاغتيال، ونحن في لبنان نتعامل مع الامر قضائياً".
أربك ذلك التصريح المشؤوم الذي عزّز مكاسب سورية وحلفائها في لبنان قادة قوى 14 آذار، فحاولوا التخفيف من وطأتِهِ، من خلال وصفه بالـ"موقف الاعلامي الخالي من ايّة تبعات قضائية"، ولوحظ بقاء كتلة الحريري النيابية على إصرارها بعدم الاعتراف بما يسمى "شهود زور" قبل الاطلاع على نتائج التحقيق، وكذلك سائر مكوِّنات 14 آذار.
بيد أن تصريح الحريري لم يمر سياسياً بسلام، فنتيجة لخضوعه في موقفه ذاك لابتزاز المعارضة، وهو موقف لا يعبِّر بالتأكيد عن قناعته الشخصية، وإنما هو نتيجة لطلب المسعى السعودي-السوري، والضغط السعودي تحديدا، اتخذَت حملة المعارضة في ملف ما يسمى "شهود الزور" منحى اشد زخما وعنفا، مستندة الى اعتراف الحريري بوجودهم، وأخذت القوى الانقلابية تطالب صراحة بتحويله إلى المجلس العدلي عبر مجلس الوزراء، علماً أن قانون المجلس العدلي ينص على أنه لا تحال على المجلس العدلي الدعاوى المتفرِّعة إلا مع الدعوى الأساس، والدعوى الأساس وهي دعوى اغتيال الرئيس الحريري أصبحت في المحكمة الدولية، وبالتالي فإنً دعوى ما يسمى "شهود الزور" المتفرّعة عنها لا يمكن احالتها على المجلس العدلي، إلا اذا قرَّر استرجاع الدعوى الأساس مخالفاً نظام المحكمة الدولية وتعهّدات الدولة اللبنانية والقضاء اللبناني بالتخلي عن القضيّة لصالح المحكمة الخاصة بلبنان، وهو ما يصبو إليه الفريق الإنقلابي لاجهاض المحكمة وطمس الحقيقة.
ونتيجة لذلك التصريح أيضاً، سرّبت أوساط معارِضة للإعلام لائحة بالخطوات المطلوب من الحريري والفريق الاستقلالي اتخاذها من أجل تجنيب البلاد فتنة لا تُبقي ولا تَذَر؛ وقد تمثلت تلك الخطوات الاستسلامية والانتحارية، بإعلان لبنان وقف مساهمته المالية في تمويل المحكمة من خلال قرار يصدر عن المجلس النيابي وبالتالي عن الحكومة، وإعلانه سحب القضاة اللبنانيين الممثلين في المحكمة، وإقرار تفاهم سياسي داخلي لتنظيم عملية إبطال مسبق لأي قرار اتهامي مهما كانت الادلة التي سيستند اليها.
حدث أمني "بطولي ومقاوم" جديد، كان اللبنانيون على موعد معه في 17/9/2010؛ فبعدما أصدر القضاء اللبناني مذكّرة استماع وليس توقيف بحق اللواء جميل السيد الموجود خارج البلاد، على خلفية تطاوله في أحد مؤتمراته الصحافية "البذيئة" على القضاء اللبناني والرئيس الحريري وتهديده الأخير بالقتل قائلاً: "قسماً بالله إن لم تعطني حقي يا حريري بنفسك فسوف آخذه منك بيدي"، وللحوؤل دون تبليغه المذكرة في المطار وليس توقيفه، نَفّذت ما يسمّى "المقاومة" عملية "نوعية" من الطراز الأوّل، اغنصب فيها "مقاوموها" مطار بيروت الدولي. فقد اقتحم "حزب ولاية الفقيه" حرم المطار بأكثر من 20 سيارة دفع رباعي لا تحمل لوحات، وبداخلها العشرات من الأشخاص المدججين بالسلاح، الذين اقتحموا بأسلحتهم أيضا صالون الشرف، وذلك من دون الحصول على إذن، لا من وزارة الخارجية ولا من وزارة الداخلية ولا من جهاز أمن المطار، فأخرجوا جميل السيّد من الطائرة ورافقوه إلى منزله الذي وضعوا على بابه حراسة مشدّدة من قبل عناصرهم المسلّحة منعاً لتبلّغه المذكّرة القضائية حتى وهو في منزله، ممارسين بفعلتهم الآثمة تلك "عهراً ميليشيوياً" منقطع النظير، يطيح بالقضاء وبما تبقّى من هيبة الدولة.
نتائج تصريح الحريري الشهير لـ"الشرق الأوسط" لا تزال تتوالى وتتفاعل. فقد اعتبرت سوريا بعد ذلك التصريح، أنّ من حقّها تحريك قضية "شهود الزور" التي كان رفعها اللواء جميل السيد في محاكمها، فاتخذت قرار توجيه أقوى نكسة للصفحة الجديدة بين لبنان وسوريا عموماً وبين سوريا ورئيس الحكومة خصوصاً، مؤكدة صحّة وجهة نظر القائلين باستحالة تغيير سوريا طريقة تعاملها مع لبنان نتيجة للعقيدة البعثية التي يتبناها النظام السوري الحاكم.
فقد صدمت سوريا الرئيس الحريري بعد خمس زيارات قام بها الى دمشق، واضعة صفحة علاقتها الجديدة معه أمام منعطف تصعيدي، مع إقدام القضاء السوري في 3 تشرين الاول 2010 على إصدار 33 مذكرة توقيف غيابية في حقّ سياسيين وقضاة وضباط وإعلاميين، مستهدفا بشكل مباشر فريق الحريري السياسي والإعلامي والأمني والإستشاري، وهم اشخاص كان ادعى عليهم اللواء الركن جميل السيد أمام القضاء السوري قبل نحو سنة في قضية "شهود الزور".
وفي حين حاول مجلس الوزراء الذي انعقد في 4/10/2010 أن يحصر احتواء مذكّرات التوقيف بوزارتي العدل اللبنانية والسورية ضمن "الأصول والسيادة"، أثارت الخطوة السورية ردود فعل سلبية ورافضة للمذكرات شكلاً ومضموناً لدى مجمل قوى 14 آذار ولا سيّما منها كتلة "المستقبل". اما تعليق الرئيس الحريري فتركه إلى جلسة مجلس الوزراء حيث قال: "الأمور أصبحت واضحة لنا، وآسف لصدور هذه المذكرات التي لا اعتبرها مجرد موضوع قضائي بل تدبير سياسي ولن اتعاطى معها بشكل ايجابي، فالعلاقات التي أردناها مع سوريا انما هي علاقات بين بلدين في اطار مؤسساتي وليس بهذه الطريقة". ولفت إلى انه "في الماضي كانت هناك استنابات قضائية ومفهوم لماذا تركت مفتوحة وفي أي اتجاه". وإذ نبّه الى "الخطاب التصعيدي الذي يثير هواجس ومخاوف لدى اللبنانيين"، أكّد مضيّه "في بناء افضل العلاقات مع سوريا"، مذكراً "بالتزامه المحكمة الدولية ومعالجة كل المشاكل بالحوار والحكمة".
الثالث عشر من تشرين الاول2010، كان يوما استثنائيا؛ فقد وصل الى مطار رفيق الحريري الدولي الرئيس أحمدي نجاد على رأس وفد رسمي موسع تلبية لدعوة رسمية من الرئيس سليمان، في زيارة استمرت ثلاثة أيام. وقد استقبل "حزب ولاية الفقيه" الرئيس الايراني استقبال الفاتحين، وذلك من خلال تنظيم استقبال شعبي حاشد على طريق المطار، تُوِّج بمهرجان آخر اقيم على ملعب الراية في الضاحية الجنوبية لبيروت حيث تحدّث فيه الرئيس احمدي نجاد والأمين العام لـ"حزب ولاية الفقيه" حسن نصرالله.
في ذلك المهرجان، تطرّق نجاد الى قضية المحكمة الدولية ضمناً غامزاً من ناحية "تسييسها"، فقال: "في لبنان نجد أن يد الغدر الآثمة قد امتدّت إلى صديق عزيز وشخصية غيورة على وطنها، ثم نرى بعد ذلك كيف تُلفّق الاخبار، وكيف تُستغل المجامع الحقوقية التابعة لأنظمة الهيمنة لتوجيه الاتهام الى بقيّة الأصدقاء سعياً للوصول إلى المرامي المشؤومة والباطلة، عبر زرع بذور الفتنة والتشرذم". وفي إعلان له دلالته المعبّرة والمتصلة بالـ "هلال الشيعي" والمتاجرة بالقضية الفلسطينية وشعار "المقاومة"، اعلن نجاد عن ولادة محور يمتد من طهران الى بيروت، قائلا: "لقد تشكلت جبهة مقاومة الشعوب في فلسطين ولبنان وسوريا وتركيا والعراق وايران، وكل هذه المنطقة، واعلن بكل ثقة ان الكيان الصهيوني يتدحرج اليوم في مهاوي السقوط".
وفي صباح اليوم الثاني على زيارته التفقدية للقاعدة العسكرية البحرية التي اقامها نظامه على الشاطئ الشرقي للمتوسط، أقام الرئيس الإيراني أحمدي نجاد فطوراً في مقر إقامته بفندق "فينيسيا"، ضمّ عدداً من الزعماء السياسيين المنتمين والمقرّبين إلى قوى 8 آذار، وهي الشخصيات الرئيسة نفسها التي شكّلت "لقاء عين التينة" سابقا، لكن مع تعديلات بارزة فرضتها التموضعات السياسية الجديدة، وتمثلت بحضور العماد ميشال عون والنائب وليد جنبلاط الذي حض الحريري في ذلك اليوم على "المطالبة بإلغاء المحكمة لتخفيف التوتير، وعدم تحويل لبنان الى عراق جديد"!!
وكان لافتا في فطور الفينيسيا امران: أولهما، انه لم تُدعَ إليه أي شخصيّة من قوى 14 آذار. وثانيهما، ان الكلمات التي تخللته تركزت في مجملها على المحكمة الدولية والقرار الظني المرتقب الذي يقلق قوى 8آذار ويخيفها إلى درجة الذُّعر، وهو ما يجعلها تصفه بـ"المؤامرة الإسرائيلية" وتكيل للمتمسكين بالمحكمة تهم العمالة والخيانة، الامر الذي أعادنا بالذاكرة الى الايام القليلة التي سبقت "جريمة العصر" وكأننا امام "لقاء عين التينة 2"، الذي يحشد قواه هذه المرة ليس لمواجة القرار 1559 وحسب، بل لمواجهة العدالة والحقيقة وانهاء آخر مفاعيل ثورة الارز المتمثلة بالمحكمة الدولية، بغية وضع اليد في شكل كامل على الدولة بعدما انقلبت موازين القوى لمصلحة الدويلة. وبات السؤال المطروح بقوة: هل اعطيت اشارة الانطلاق لهذه الخطوات الدراماتيكية في الزيارة التاريخية للرئيس الايراني قبيل صدور القرار الظني، و"البشرى" التي حملها معه الى ذراعه المسلح في لبنان، المشار إليها في عبارة "اهلا وسهلا حامل البشرى" الواردة في مقدمة النشيد الذي نظمه "حزب ولاية الفقيه" ترحيبا بنجاد في "معقل الامجاد"؟!
بدأت نتائج زيارة نجاد تتبلور، ففي تطور خطير على صعيد التحقيق الدولي، نصب "حزب ولاية الفقيه" في 27/10/2010 كمينا لمحققَين ومترجم من لجنة التحقيق الدولية، كانوا حضروا إلى عيادة طبيبة نسائية في الضاحية تعالج زوجات كوادر من الحزب، وطلبوا معلومات عن مريضات عندها يراوح عددهن بين 14 و17 منذ عام 2003. فقد اقتحمت العيادة فرقة نسوية مؤلّفة من 150 امرأة تابعة للحزب، فاعتدَين على المحقيقين، وتمكنَّ من انتزاع حقيبة من فريق لجنة التحقيق قبل أن يتمكّن من مغادرة المكان. وأفاد أحد المحققين عن وجود عدد من الرجال متنكرين بزي "التشادور" النسائي من بين النسوة اللاتي قمن بعملية الاقتحام، ومن بينهم ذلك الذي انتزع الحقيقبة من يد المحقق.
وصلت الرسالة إلى من يهمه الأمر في الداخل والخارج، وأصدرت المحكمة في اليوم نفسه بيانا دانت فيه محاولة "اعاقة العدالة"، وأردفت: "يجب أن يعلم مرتكبوا هذا الإعتداء أن العنف لن يردع المحكمة الخاصة بلبنان، وهي محكمة قضائية، من إنجاز مهمّتها".
هذا، وقد حلّل البعض أسباب زيارة المحققين عيادة الطبيبة النسائية، وطلبهم معلومات عن زوجات كوادر في الحزب يتعالجن عندها، على أن لجنة التحقيق تحاول التأكّد من وجود عناصر معيّنة من الحزب في لبنان يوم 14 شباط 2005، قد يكون الأمن العام تكتم في بياناته عن تواريخ دخولهم أو خروجهم من البلاد، يشتبه المحققون في تورّطهم في "جريمة العصر"، وذلك استنادا الى بيانات زوجاتهم الطبية التي قد تفيد حصول حمل لدى إحداهن في تلك الفترة، ما يعني تأكيد وجود الزوج المشتبه به في البلاد فترة وقوع الجريمة.
بعد هذه الحادثة الخطيرة احتدم التهديد والوعيد في البلاد، وكأننا على أعتاب 7 ايار جديد إن لم تنصع 14 آذار لاملاءات الحزب الايراني بالنسبة لبت ملف ما يسمى "شهود الزور" في مجلس الوزراء، وإعلان "موقف واضح يرفض القرار الإتهامي بصرف النظر عما سيستند إليه من أدلّة"!!
جاء رد قوى 14آذار على اعتداء الحزب على لجنة التحقيق الدولية في 5/11/2010، ومن الصرح البطريركي في بكركي بما يرمز ويمثّل. ففي خطوة تعيد إلى الأذهان اللقاءات التي واكبت مرحلة ما قبل "انتفاضة الاستقلال" وما بعدها، ولعل ابرزها في هذا الصدد نداء المطارنة الموارنة عام 2000 ولقاءات "البريستول"، انعقد اللقاء المسيحي "الآذاري" في بكركي موجهاً "نداء من أجل لبنان"، انطلق من الخطورة التي تهدّد لبنان "كياناً ونظاماً ديموقراطياً ومجالاً مفتوحاً على العالم"، ووجّه رسائل تعددت أبعادها، وناشد "الشركاء في الوطن العمل معاً لإنقاذ لبنان من الأخطار، وتجاوز الحساسيات الطائفية والمذهبية، والعودة الى الدولة بشروطها لا بشروط طائفة أو حزب". ودعى اللقاء "الآذاري" المسيحيين "الى استعادة الدور الذي لعبوه، والإنضواء تحت الثوابت الوطنية للكنيسة، وتحمُّل مسؤولياتهم التاريخية في الدفاع عن لبنان الكيان". وقد لاقى هذا البيان في اليوم التالي تأييدا بالغ الدلالة من المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى، الذي انعقد في دار الفتوى برئاسة مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد رشيد قباني وحضور الرئيس فؤاد السنيورة واعضاء المجلس، فقد نوّه في بيانه بالموقف الصادر عن اجتماع الشخصيات المسيحية "لما تضمنه من مرتكزات وطنية، ولما نبّه إليه من إشارات مقلقة، وهواجس تقض مضاجع كل اللبنانيين، خصوصاً مع تنامي مؤشرات الضغط على مؤسسات الدولة".
وفيما كان عبير اللقاء المسيحي "الآذاري" الذي احتضنه الصرح البطريركي يفوح في لبنان، كان الجنرال البرتقالي يُوبئ الأجواء بخطاب طائفي مكروه وممجوج، أطلقه خلال زيارته جمعية "المرسلين اللبنانيين الموارنة" في جونية، حيث قال: "إن الشيعي هو الوحيد" الذي ليس لي معه "مشكلة" خلافاً لـ"السني الذي شتمني عندما دعمت المقاومة(...). ان المستهدف هو سلاح حزب الله الذي لغاية اليوم لم يشترك في الصراعات المحلية"!
وقد تناسى الجنرال عون أن الشيعة لا يُختذلون بـ"حزب ولاية الفقيه"، بل منهم من يؤمن بمشروع الدولة تماماً كقوى 14 آذار، وأنْ ليس "السني" مَن انتقده في تحالفاته الخاطئة، بل فريق استقلالي عابر للطوائف. ثم إننا لا ندري عن أية مقاومة تحدّث الجنرال، أعن مقاومة 1/6/2006 التي اجتاحت المناطق اللبنانية على خلفية عرض إحدى المحطات برنامجا فكاهيا تناول شخصية أمين عام "حزب ولاية الفقيه"؟ أم عن مقاومة احتلت وسط بيروت التجاري مدة 16 شهرا تقريبا؟ أم عن مقاومة اليومين الأسودين في 23و25/1/2007، أم عن مقاومة 27/1/2008في مار مخايل، أم عن مقاومة 7و11ايار2008في بيروت والجبل، أم مقاومة 28/8/2008 في "سجد"، أم مقاومة 28حزيران 2009 في عائشة بكار، أم مقاومة 24 آب2010 في برج ابي حيدر، أم مقاومة 18/9/2010 في حرم المطار، أم مقاومة 27/10/2010 المتخصصة باقتحام عيادات الطب النسائي في الضاحية؟! أليس من ارتكب كل هذه الآفات هو "حزب ولاية الفقيه" الذي "لغاية اليوم لم يشترك في الصراعات المحلية" على حد زعم عون؟!
تابع السجال السياسي حول الملف الوهمي المسمى "شهود الزور" تفاقمه ليبلغ أوجه في 10تشرين الثاني2010، مع جلسة محتدمة لمجلس الوزراء منع فيها سليمان التصويت، ليتأجّل معها بتّ ملف "شهود الزور" وتعلّق أعمال الحكومة !
كان باستطاعة وزراء 8 آذار في تلك الجلسة، الإصرار على التصويت وتعطيل الحكومة وإجبار وزراء قوى 14 والحريري على الإنسحاب، أو أن يستقيلوا هم من الحكومة، إلا إنهم لم يفعلوا أي شيء من ذلك ولم يصرُّوا على التصويت خلافا للتهويل الإعلامي الذي استبقوا به الجلسة، لأن هذه القوى الإنقلابية ببساطة لا تزال بحاجة الى الحكومة والحريري تحديداً، بسبب سعيها الى استصدار قرار حكومي يعلن فيه لبنان تسييس المحكمة وانه غير معني بها، وتطمع بأن يذيّل ذلك القرار الانتحاري بتوقيع الرئيس الحريري الذي لا يقدّر بثمن، لأنه "ولي الدم" (كما وصفه نصر الله) في الجريمة الأساسية التي أُنشِئت المحكمة من أجل كشف مرتكبيها ومحاكمتهم.
في تلك الجلسة الشهيرة ادلى الحريري بمداخلة وصفت بأنها حازمة وحاسمة، اكّد فيها أنه "لا يقبل بالإلهاء الحاصل في ملف شهود الزور بهدف تمييع عمل المحكمة الدولية"، مشيراً الى أنه قَبِلَ بالبحث في ملف "شهود الزور" وأقر بوجودهم ليس من أجل إيجاد أزمة سياسية هدفها ضرب المحكمة. وقال، كما نقلت عنه المصادر: "اذا كنتم تريدون فتح هذا الملف بالسياسة فليفتح من بداياته، من أحمد أبو عدس مروراً بالذين اتهموا دولاً اخرى كما طاولتنا نحن اتهامات شخصية، لكن كل هذا الكلام لن يؤدي سوى الى مزيد من الانقسام والتشنّج. وعندما وُجِّه الاتهام الى سوريا كان اتهاماً سياسياً، وقرار المحكمة لن يكون مبنياً على شهود الزور، والا فإننا سنكون أوَّل من يرفضه. حرام ان نكمل بما نفعل الآن بالبلد".
وقالت المصادر الوزارية إن وزير الاتصالات شربل نحاس اتهم "المتهربين" من التصويت ومن احالة الملف على المجلس العدلي بأنهم يخضعون لضغوط دول مثل أميركا وإسرائيل، وعندها رد الحريري عليه قائلاً: "هذا كلام غير مقبول لا اسمح لك به، اسرائيل تضغط عليك وعلى امثالك وليس علينا". واضاف: "اذا كنتم تريدون تغيير لغة التعاطي فأنا سأغير خطابي، ولن اقبل اياً كانت النتيجة بما تفرضونه عليّ من تعاط غير مقبول".
ونتيجة لتلك الأجواء المشحونة والجو المتشنج، وُضِعَت الحكومة أمام معادلة قديمة-جديدة فرضها التوازن السلبي والفريق المعطِّل، تتمثل في تحويلها رهينة لملف "شهود الزور"، بما يعني شلّها تحت وطأة الضغوط المتصاعدة لبت هذا الملف، ومنعها من معالجة أي جدول أعمال قبل حسم هذا الموضوع. وكذلك تم تعطيل جلسات هيئة الحوار العقيم، التي تبحث موضوع الاستراتيجية الدفاعية.
اغتنم الرئيس الحريري فترة تعطيل الحكومة وتعذُّر انعقادها، ليقوم بجولة على عدة بلدان تقطيعا للوقت، ريثما يصدر القرار الظني الذي رجّحت عدة مصادر معنيّة بالمحكمة الدولية أن صدوره بات وشيكاُ جدا جدا.
ولعل ابرز زيارات الحريري كانت لإيران، فقد حطّت طائرته في طهران في 27/11/2010، في زيارة عبّرت في ذلك السياق المحتدم عن أكثر من نيّة طيّبة وإرادة بالانفتاح موجودتين لدى الرئيس الحريري، الراغب في فتح صفحة جديدة مع "نظام ولاية الفقيه".
وفي تلك الزيارة، أبلغ أحمدي نجاد رئيس وزراء لبنان الزائر سعد الحريري قواعد و"ألف باء" انتظام الحكم في لبنان، وأملاها على مسامعه قائلاً: "إذا وقفت الحكومة اللبنانية والمقاومة في جبهة واحدة، عندئذ يمكن أن تمضي البلاد على مسار الكرامة والتنمية، ولن يكون هناك أي شيء يمكن أن يفعله النظام الصهيوني ولا حلفاؤه".
وفي ختام زيارته، عقد الحريري مؤتمراً صحافياً مشتركاً مع النائب الاول للرئيس الايراني محمد رضا رحيمي، الذي تناول المحكمة الدولية بقدر كبير من التقيّة، فأكد ان بلاده "تدعم كشف الحقيقة بمعناها الحقيقي، وتؤكد ضرورة ان تكون المحكمة بعيدة جداً من المهاترات السياسية وان تبعد نفسها عنها". أما الحريري، فأدرج زيارته في اطار "اعادة التأسيس لمرحلة طيبة من العلاقات اللبنانية – الايرانية"، مشيراً الى ان "النتائج السياسية للزيارة كانت جيدة ومفيدة وقطعت الشك باليقين بأن ايران دولة صديقة تريد الخير للبنان ولجميع ابنائه".
في العاشر من كانون الأول، برز موقف لافت للرئيس السوري بشار الأسد. ففي مقابلة مع قناة "تي اف 1" الفرنسية للتلفزيون، أجراها في ختام زيارة لفرنسا استمرت يومين، أجاب الأسد لدى سؤاله عن المحكمة الدولية: "عندما يكون قرارها مبنياً على دلائل قاطعة فان الجميع يقبلونه وليس فقط سوريا بل ايضا لبنان، ولكن اذا كان القرار مبنيا على شبهات او تدخل سياسي فلا احد سيأخذ القرار على محمل الجد". وقد حيّر الموقف السوري المحلّلين، فمما لا شك فيه أن النظام السوري لا يريد المحكمة من أساسها لأنها قد تطاله في أحكامها، وأنه يقف وإيران وراء حملة الحزب الإيراني ضدها ويقدّم له الدعم، وبالتالي فإما أن يكون موقفه الجديد من قبيل المراوغة، وإما أن يكون بات مطمَئناً على وضعه بعد تصفيته المعنيين بالجريمة في سوريا، وإما أنه يمهّد لمرحلة جديدة كان مرجحاً ان تبدأ بعد صدور القرار الاتهامي من خلال إعداد العدة لدحض مضمون القرار سياسياً واعلامياً، ونقض الأدلة التي يحتمل أن ترد في هذا القرار، على نحو يعطّل مفاعيله سلفاً.
في ذلك اليوم نفسه، هدد رئيس "كتلة الوفاء للمقاومة" محمد رعد القوى المؤيدة للمحكمة واصفاً إياهم بـ"الأدوات والنِّعال"، وحذّرهم قائلاً: "الوقت بدأ يقصر، وقد ادلينا بما لدينا من حجج وبراهين كي لا يبقى لأحد ذريعة. موقف الحسم اصبح يقترب، وعلى الجميع ان يراجعوا حساباتهم، نحن نضع معادلة: المتعاون مع الظالم ضد المقاومة عليه ان يراجع حساباته. يوجد فرصة حاليا قد تمتد يومين او ثلاثة او اربعة، عليهم ان ينتهزوا هذه الفرصة، واذا حان الوقت للموقف الحسم، فلبنان سيدخل مرحلة جديدة نحرص على ان يكون هؤلاء قد راجعوا حساباتهم قبل فوات الاوان". وجدد رعد في اليوم التالي (12/12/2010) تحذيره، ملوِّحاً بـ"ان صورة لبنان ستتغير تلقائيا في حال صدر القرار الاتهامي من دون تسوية وتفاهم بين اللبنانين، معتبرا انه يحب على الجميع ساعتئذ ان يتحمل وزر ما فعل".
غير أن احتفالا طرابلسياً حاشداً أقيم بمناسبة بدء العام الهجري في ذلك اليوم أعاد لميزان القوى بين فريقي 14 و8 آذار اعتباره، بعدما تمادى الحزب في تهديداته مراهناً على خوف وانكفاء الفريق الاستقلالي من فتنة تريدها إسرائيل ويحذّر منها الطرف المسلّح الوحيد في لبنان!!
ففي ذلك الاحتفال الشعبي الذي حضره نواب من "تيار المستقبل" ، ومؤسس "التيار السلفي" الشيخ داعي الاسلام الشهال، وفعاليات وهيئات شعبية، ألقيت عدّة كلمات وضعت النقاط على الحروف بخطاب ناري من العيار الثقيل، وكان أبرزها كلمة النائب خالد ضاهر الذي أوضح لمن يهمّه الأمر"ان اهل السنة والجماعة لا ينامون على ضيم وهم حماة الدولة والمؤسسات". وخاطب رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد قائلاً: "نقول له ولكل من يرفع أصبعه أو صوته مهدداً أو متوعداً: عودوا الى رشدكم وأقلعوا عن اللغة العدوانية واحترموا أنفسكم، فأهل السنة والجماعة وأبناء البلد مسلمين ومسيحيين لن يتراجعوا عن بناء البلد وحماية مؤسساته والدفاع عن كرامتهم ووجودهم. ونقول له ايضاً هوّن عليك وهدّئ من روعك فتهديداتك انت وغيرك لن تخيفنا". واضاف: "نقول لهم أقلعوا عن سياستكم الخرقاء وعودوا الى رشدكم، فلن تستطيعوا أن تخضعوا هذا البلد لمشروعكم بل سيبقى بلداً عربياً كما كان ولن يصبح فارسياً ابداً".
ثم تابع المهمة النائب محمد كبارة قائلاً: "من طرابلس، عاصمة اللبنانيين السنة، اعلن صراحة بوضوح وشفافية ان كل اصبع ترتفع في وجه لبناننا الحبيب سنكسرها، وكل لسان سيتطاول على مؤسساتنا سنقطعه، وكل عين ستنظر شذراً الى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان سنقتلعها، ولن نسكت بعد اليوم عن استهدافنا في السياسة والقضاء والادارة والامن، ولن نسمح لاحد مهما بلغت غطرسته بأن يستهدف الموقع السني الاول في مؤسسات الدولة. يريدون عصر الرئيس الحريري ليكسبوا منه تنازلاً عن العدالة الدولية ومحكمتها، فليحاولوا، ولكن اقول لحلفاء "حزب الله"، كل حلفائه وفي اي مكان في لبنان، إن السنة لن يكونوا مكسر عصا وليسوا جناحاً مكسوراً".
فعلت تلك الحملة فعلها في كبح جماح الفريق الانقلابي ولو كلامياً، فقد اضطر الى مراجعة الحسابات التي أمر غيره بمراجعتها، فأصدر النائب رعد بياناً تراجع فيه عن تحديد المهل والتهديد والوعيد، قال فيه: " نحن لا نهدّد ولا نتوعّد، وإنّ ما روّجته بعض وسائل الإعلام منسوباً اليّ حول تحديد مهلة ثلاثة او أربعة ايام لظهور نتائج الجهد السوري – السعودي، لتسوية الأزمة اللبنانية، جاءت صيغته غير دقيقة، مما اوهم المتابعين بأن القصد هو رسم سقف زمني نهائي لذلك الجهد. فيما كان المراد ان المأمول ظهور نتائج هذا الجهد في وقت قريب، وعليها يبنى المقتضى".
مرّ خمسة أسابيع على الجلسة الحكومية الأخيرة، مَنَعَ في خلالها الفريق الانقلابي مجلس الوزراء من الانعقاد لأنه يريد فرض موضوع إحالة ملف "شهود الزور" على المجلس العدلي كبند أول على جدول أعمال مجلس الوزراء الذي يعود لرئيس الحكومة وحده بالتشاور مع رئيس الجمهورية وضع جدول أعماله.
وبذلك، دخلت حكومة الرئيس سعد الحريري قد دخلت عمليا في مسار تعطيل حتمي، نتيجة الضغط المتبادل حول ملف "الشهود الزور" والمحكمة الدولية والقرار الاتهامي. فمجلس الوزراء لم يعد مؤلفا من أكثرية لوزراء "14اذار"، أي لم يعد هذا الفريق قادراً على كسب معارك التصويت فيه. لكن قوى 14 آذار لا تزال تملك اكثر من ثلث اعضاء الحكومة، ما يعني انها قادرة على منع خصومها من الفوز بأي معركة حسابية في مجلس الوزراء عن طريق التعطيل.
في 15 كانون الاول، وبعد مساعي حثيثة لاستئناف عقد جلسات مجلس الوزراء، توصل رئيس الجمهورية إلى "اتفاق سلبي" يقوم على تمرير الجلسة فقط "الإنعقاد للإنعقاد"، مع إدراج بند "شهود الزور" في الصدارة؛ فعقدت الجلسة وعندما تقرر البدء بمناقشة البنود، بيَّن رئيس الجمهورية للوزراء أن أكثرية وزارية مؤلفة من 20 وزيراً هم وزراؤه ووزراء جنبلاط و14 آذار ترفض التصويت(كل منهم لاعتباراته الخاصة)، فلم يُطرَح الموضوع على التصويت، ولا كان انتقال إلى جدول الأعمال المثقل بأكثر من 310 بنود، بل رفعت الجلسة وخرجت منها الحكومة بواقعها التعطيلي السائد. بهذه البساطة، وبدم بارد، ضرب الفريق الإنقلابي بمصالح الناس وملفات همومهم المعيشية المكدّسة على طاولة مجلس الوزراء عرض الحائط، ولم يُقِم لها أي وزن واعتبار، فلْيذهب الناس إلى الجحيم إن لم يُبَت الملف المزوّر!!
وعلى الرغم من هذا الواقع المأسوي، فقد تركت هذه الجلسة انطباعاً طيّباً عن رئيس الجمهورية الذي مارس دوراً وسطياً بإصراره على التوافق، وكذلك بالنسبة للنائب وليد جنبلاط الذي وإن كان قريباً جداً في مواقفه من فريق 8آذار، إلا أنه لا يزال على الصعيد الحكومي -وحتى إشعار آخر- حريصاً على لعب دور الكتلة الوسطية.
قبل مضي شهر على زيارة الحريري طهران، تلقى صفعة جديدة ليس من بشار الأسد وإنما من "الولي الفقيه" هذه المرّة، فكانت تلك الزيارة أشبه بالزيارة الأولى التي قام بها الحريري لدمشق من حيث المردود السلبي الكبير الذي أسفرت عنه، إذ فٌهِمَ أنها شكّلت تنازلاً وإقراراً بالواقع القائم وليس بالمصالحة وفتح صفحة جديدة، بدليل ما ترجمته العلاقة لاحقاً والتحوُّل السوري في التعاطي مع الرئيس الحريري ومن دون سبب واضح.
ففي 20/12/2010، سدّد خامنئي ضربة للمسعى السعودي-السوري، معلناً أن "هذه المحكمة شكلية ومرفوضة، وتتلقى أوامر من جهات أخرى، وأي حكم ستصدره يُعتَبَر لاغياً وباطلاً". واضاف: "آمل في أن يتصرّف جميع الأطراف النافذين الذين لهم كلمتهم في لبنان بمنطق وحكمة، كي لا تتحوّل هذه المسألة مشكلة"، مشدداً في الوقت عينه على أن "المؤامرة على لبنان لن تنجح".
ومع أن موقف إيران السلبي من المحكمة الخاصة بلبنان معلن ومعروف ولا يشكّل مفاجأة لأي دولة أو طرف، وهو ما يعكسه حزبها في لبنان الذي لا يستطيع الخروج عن سياستها قيد أنملة... مع ذلك اكتسب كلام مرشد الجمهورية الايرانية بُعداً مختلفاً، بدا معه بمثابة الموقف الأعنف من المحكمة مع تصاعد التوقّعات بقرب صدور القرار الاتهامي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، ولا سيما أن طابع الموقف أوحى وكأنه "تكليف شرعي" او"فتوى" "تحرّم" على الحزب الايراني في لبنان وعناصره ومؤيديه التجاوب مع أي طلب يرتبط بالمحكمة، ويُبيح لهم في المقابل أو "يوجب" عليهم مواجهتها والتصدي لمؤيديها بشتى الطرق المتاحة.
من جهته، عضَّ الحريري على جرحه مفضلا سَكْب الماء البارد على الحماوة التي أثارها الموقف السلبي الذي فجّره خامنئي في وجهه ووجه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، فصرّح في اليوم التالي: "نحن نحترم المرشد الاعلى السيد علي خامنئي، وحين زرت ايران تحدثنا في كل الامور. لا شك في ان الجميع لديهم وجهة نظر في هذا الشأن، ولكن في ما يخص القرارات الدولية فإنها قرارات دولية، وأنا لم يسبق لي أن تحدثت في هذا الشأن، لكني اقول إن هذا الموقف ايراني، ونحن في لبنان لدينا مواقفنا كحكومة، وان شاء الله الكل يسعى الى الاستقرار في المنطقة". وقد رأت أوساط وزارية من قوى 14 آذار ان موقف رئيس الحكومة جاء تعزيزاً لقرار التهدئة الناجم عن الحوار المستمر بين دمشق والرياض.
ووسط هذا الجمود والتوتر اللذين يسودان الوضع الداخلي، والتعطيل الذي يكبل الوضع الحكومي، برز تطوّر يتيم اكتسب دلالات مهمة، وتمثّل في خروج المسؤولين الرئيسيين الكبار في المحكمة الخاصة بلبنان عن صمتهم حيال الأسئلة والاتهامات المتداولة عن المحكمة منذ مدّة، فجاءت الإيضاحات من المدّعي العام الدولي دانيال بلمار، ورئيس المحكمة الخاصة بلبنان انطونيو كاسيزي، ورئيس القلم فيها هرمان فون هايبل.
وفي وقت كانت التوقعات والتقديرات والتسريبات في لبنان تشير الى ان القرار الاتهامي للمحكمة في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه سيصدر عشيّة عيد الميلاد، كشف فون هايبل أن المدعي العام بلمار "لا يزال حالياً في مرحلة التحقيق" وان "قرار الاتهام هو الخطوة الأولى في الاجراءات".
هذا، وقد ختم العام 2010 بثلاثة مواقف في غاية الأهمية لخصت الأزمة التي عاشها لبنان خلال ذلك العام، وكان أوّلهما للرئيس ميشال سليمان الذي رد من بكركي بعد تهنئته البطريرك بعيد الميلاد في 25/12/2010، على اتهام العماد عون إياه ورئيس الحكومة سعد الحريري بتعطيل مجلس الوزراء، فأعلن سليمان ان "مصلحة البلد مسؤول عنها رئيس الجمهورية، ولا أحد يحدّد للرئيس أي ساعة يصوِّت أو لا يصوّت". ولفت الى أن "الدستور يشدّد على الوفاق، وهذه هي روحيّته، ورئيس الجمهورية يستكمل المعطيات اللازمة ويقيّم الوضع ويعرف متى ينتظر الوفاق ومتى يذهب إلى التصويت، ولا نستطيع تقييد رئيس الجمهورية بصلاحياته، فكل هذا من صلاحياته".
وقد لاقى هذا الموقف إعجاب رئيس الهيئة التنفيذية في "حزب القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع، فوصف "الحكيم" من بكركي موقف رئيس الجمهورية الأخير بـ"الموقف البطريركي"، معتبراً أننا "في هذه المرحلة وللمرة الأولى منذ عشرين سنة، نشعر أن هناك رئاسة جمهورية تتحمّل مسؤوليّاتها كما يجب في إطار الدستور وضمن القوانين وبكل مسؤولية الى أبعد حد".
أما الموقف الثاني، فكان من نصيب نائب رئيس مجلس الامن القومي الايراني علي باقري، الذي قال خلال مؤتمر صحافي عقده في السفارة الايرانية بعد لقائه الرئيس السوري، ردا على سؤال عن احتمال لجوء "حزب ولاية الفقيه" الى العنف والقوة بعد صدور قرار المحكمة التي يتوقع ان توجه اتهامات اليه: "أعداء لبنان يستهدفون استقرار لبنان، أما بالنسبة الى حزب الله فان القرار والموقف الذي سيتخذه يعود إليه. والحزب قال كلمته في المحكمة وقرارها". ورأى "أن الاستقرار في لبنان رهن بالوحدة الوطنية وتعزيز تيار المقاومة (...) وأي اجراء او تحرك يمس بهذه الوحدة الوطنية أو المقاومة يصب في اتجاه ما يريده الاعداء".
وجاء الموقف الثالث متناغماً مع الموقف الإيراني، حيث نقلت مصادر غير رسمية قول الرئيس السوري في مجلس خاص جمعه وعميد الأسرى "المتشيِّعين" أو "المحرّرين" سمير القنطار: "إذا وافق الحريري على رفض القرار الاتهامي وعمل على عدم صدوره، فسيسقط 17 أيار جديد في لبنان". وقد تعاملت القوى السياسية المعنية مع ما نُقل عن الأسد بحذر شديد ترجم بامتناع معظم هذه القوى عن التعليق على الكلام المنسوب الى الاسد. وقالت مصادر بارزة في قوى 14 آذار لـ"النهار" انه يصعب التعامل رسمياً مع هذا الكلام ما دام لم يطرح في إطار رسمي ولم يتداوله الإعلام الرسمي السوري نفسه. غير أنها أبرزت ضرورة عدم تجاهل أبعاده، خصوصا ان أي نفي له لم يصدر ايضا.
وعلى هذا الجو المحتدم والمفتوح على جميع الإحتمالات، أسدل العام 2010 ستائره، تاركاً مكانه لسنة 2011 التي يتوقّع أن تشهد صدور القرار الإتهامي في بدايتها.

خاتمة
مضى عام 2010 دون أن يشهد صدور القرار الظني خلافاً للتوقعات التي سادت خلاله، إلا أن تحاليل أهل الخبرة وإن خابت بالنسبة لتوقيت صدور القرار، فقد صدقت فيما يتعلّق بالشأن الحكومي والعلاقة مع سوريا.
إذ خلافاً لأجواء التفاؤل المضخّمة والمزيَّفة، وما وُصِفَ بـ"النيّات الحسنة"، التي طغت على الخطاب السياسي عقب الإعلان عن ولادة الحكومة اللبنانية أواخر عام 2009 لدى جميع الأطراف وخصوصا طرف المعارضة، أثبتت حكومة ما سُمِّي "الوحدة الوطنية" عجزها وفشلها في تحقيق أي إنجاز يُذكَر، سواء على صعيد الملفات الشائكة كملفي التعيينات والموازنة وتمويل المحكمة الدولية، أوعلى صعيد أولويات وهموم الناس، كملفات الماء والكهرباء، التي اتخذت الحكومة منها عنواناً عريضاً في بيانها الوزاري.
فكانت "حكومة الدوحة الثانية" التي فرضها الفريق المسلّح والخاسر في الانتخابات، وجعل "الشراكة" فيها مرادفة للثلث المعطل، "حكومة التعطيل والتأجيل" بامتياز، وإعلاناً صارخاً لفشل ما أطلقوا عليه تسمية "الديموقراطية التوافقية". وهذا ما كان متوقعاً، فحكومة تجمع الأضداد وأصحاب مشاريع متناقضة كلياً، لا يُتنظَر منها إلا ان تكون بمثابة "عربة يجرُّها حصانان، الأول نحو الأمام والثاني الى الخلف"، تماماً كما توقّع وحذّر البطريرك صفير في فترة تشكيلها.
وفي حين عادت قوى 8 آذار بتصميم واضح إلى لعبة التعطيل وشلّ الدولة والمؤسسات والمحكمة والحكومة، بدَت قوى 14 آذار مُربَكَة وخجولة ومتردِّدة، لأنها تتصرَّف من موقع ردّة الفعل، ولا تملك الخطة الواضحة المتماسكة للدفاع عن الدولة ومبدأ "العبور إلى الدولة" الذي رفعته منذ زمن ولا يزال مجرد كلام.
اما رئاسة الجمهورية، فباستثناء الانتفاضة الأخيرة لرئيس الجمهورية التي نالت إعجاب قوى 14 آذار وأظهرت دوراً توافقياً بامتياز، فقد كانت خلال استحقاقات العام ضائعة ما بين التوافق والتوازن ورد الفعل، لأنها هي الأخرى، لا تملك تصوّراً مستقلاً لفرضه على الجميع، ولا تزال غارقة بين "تهميش" و"برستيج". والانكى من ذلك، اعتمادها حياداً غير مقبول تجاه المواضيع المصيريّة في البلاد، من خلال إحجام وزرائها عن التصويت في القرارات الخلافيّة، كأنهم عدد إضافي للبصم على التوافقات فقط!
أما على صعيد العلاقة مع سوريا، فقد ترجمت حوادث العام امتعاضاً سورياً من سلوك رئيس الوزراء سعد الحريري الذي بقي صامداً ومتمسكا بالشراكة الاسلامية -المسيحية (العمود الفقري لقوى 14 آذار)، كما ظلّ وفياً لتحالفاته مع مسيحيي 14 آذار، ولا سيما منهم "حزب القوات اللبنانية"، وبالتالي لم ينفِّذ الاستدارة المأمولة منه بعد زيارة دمشق الأولى، إن لجهة انسحابه التدريجي من قوى 14 آذار بدءا بالتمايز عن طروحاتها، وصولاً إلى إطلاقه رصاصة الرحمة على التيار الاستقلالي، بفرط تحالفه مع "الحكيم".
وعلى الرغم من تلك النقطة الايجابية، فلا يمكن التنكّر للمكاسب السورية التي تحقّقت في العام 2010، وذلك ابتداء من الاعتذار المذلّ للنائب وليد جنبلاط الذي فتح أمامه أبواب دمشق، مروراً بمعادلة الـ"س-س" التي أعادت النفوذ السوري (وليس الوصاية السورية) رسمياً الى لبنان عبر البوابة السعودية، وصولاً الى اعتذار الرئيس الحريري من النظام السوري عن اتهامه إيّاه سياسياً باغتيال والده، وهو اعتذار من نتاج تلك المعادلة التي تتناقض وشعار "لبنان أوّلاً" الذي يرفعه الحريري والفريق الاستقلالي، ومن شأن هذه المعادلة إذا تمادت في فرضها الإملاءات والتنازلات على الحريري أن تنهي قوى 14 آذار.
وإننا اذا تأملنا هذا الواقع السياسي والحكومي الأليم، سوف ندرك أن لبنان ينزلق يوما بعد يوم نحو مرحلة ما قبل 2005، الامر الذي سيؤدي حكما الى عودة "الوصاية"، ليس بدهاء الحكم السوري وصلابته، ولا بسطوة سلاح "حزب ولاية الفقيه"، بل بسبب استضعاف التيار الاستقلالي لنفسه! فقد تمكّن حلفاء سوريا وإيران من وضع اليد مجدّداً على الدولة اللبنانية، على الصعيدين الامني والحكومي على اقل تقدير.
ففيما يتعلق بالاول، ها هم يصوِّبون سهامهم على شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي، لأنها الجهاز الأمني السيادي الوحيد المتبقي في لبنان. وفيما يتعلق بالثاني، أعادوا الحكومة الى ما قبل عام 2005 عندما كان رئيسها رفيق الحريري والطاقم الوزاري المحسوب عليه محكومَين بإملاءات الوصاية السورية في رسم السياسات ووضع المعايير، لكن مع فارق تحوّل هذه الوصاية الأحادية الى وصاية سورية-ايرانية مشتركة.
والآن لم يعد أمام الفريق الانقلابي المسلّح لكي يستعيد الإمساك بالدولة بشكل كامل ونهائي سوى معركة إسقاط المحكمة الدولية لبنانياً، التي يعني فوزه فيها القضاء على آخر ما تبقى من مفاعيل "ثورة الارز" ومنجزاتها، وربما استغلّوا الأزمة المتولّدة حول المحكمة لجرّ لبنان إلى وضع دستور جديد يتناسب مع تعاظم حجم الطائفة الشيعية التي يحتكر قرارها "حزب ولاية الفقيه" سياسياً وعسكرياً وديموغرافياً، ما يعني نسف الصيغة اللبنانية القائمة على المناصفة والتعددية والديموقراطية والحريات العامة والخاصة والطائف.
فكما قامت قوى 14 آذار بانتفاضة شعبية اطاحت حكومة الرئيس عمر كرامي وفرضت تشكيل لجنة تحقيق دولية ثمّ إنشاء محكمة دولية للنظر في جريمة العصر ومعاقبة مرتكبيها، فإنه لا يُستبعَد أن ترد قوى 8 آذار الرِّجْل لقوى 14 آذار وتقوم بانتفاضة شعبية (أو عسكرية) مضادة متذرعة بصدور القرار الظني الذي سيتهمها (بحسب زعمها وجزمها) تقلب الأوضاع في البلاد رأساً على عقب، بدعم سوري-ايراني واضح وقوي.
وعندئذ يوضع الرئيس الحريري أمام احتمالين أحلاهما مُرّ، وكلاهما انتصار لقوى 8 آذار والمتحالفين معها، فإما أن يرضخ الحريري لشروطها في موضوع المحكمة الدولية وفي موضوع القرار الظني، وفي تعديل الحكومة على نحو يجعل ممثلي قوى 8 آذار والمتحالفين معها هم الاكثرية أو هم الصوت المرجح، وإما أن يرفض الرئيس الحريري الرضوخ لشروط الاقلية ويفضّل الاستقالة على البقاء رئيسا لحكومة لا تحكُم أو تكون محكومة.
وفي حال أوصلنا الفريق الانقلابي الى تلك المعادلة، سيكون الرئيس الحريري مدعواً إلى تسجيل وقفة عز وشرف وصدق مع الله والشهداء والوطن والضمير، وفاءً لقضيّته وثورته، وصوناً لكرامة شهدائه، وحفظاً لمكانة الرئاسة الثالثة، من خلال اختياره التمسك بشهادة الحق واتخاذ القرار الشجاع بالاستقالة من الحكومة بدلاً من الاذعان المذلّ لطلب الفريق الانقلابي باغتيال الشهداء مرتين. ولتَعُدْ قوى 14آذار عندئذ إلى موقع المعارضة متعلّمة من أخطاء الماضي ومستبدلة روحه الانهزامية بثقافة الشجاعة والادارة بواقعية، والتنظيم والوحدة والرؤية الاستراتيجية، والقيادة الواعية والأهداف المحدّدة بدقة وموضوعية، ولتحاول إعادة انتاج ثورتها بخطاب استنهاضي جديد، متبنية منطق استكمال المواجهة السلميّة المشرّفة على كلفتها الأمنية الباهظة وإن انتهت بانهزام، بدلاً من الرضوخ للحالة الميليشيوية بالتنازل المخزي مقابل العيش باستقرار ممزوج بذُلٍّ واستسلام.
أما الآن، وقبل فوات الأوان، وللحؤول دون الوصول الى ذلك السيناريو المأسوي، واستعداداً لاستحقاقات السنة الجديدة وفي مقدمها صدور القرار الاتهامي للمدعي العام لدى المحكمة الخاصة بلبنان في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه...لا شك أنّ القوى الاستقلالية مطالبة بالعمل الفوري على إعادة لمّ شمل أمانتها العامّة عبر المبادرة إلى طي صفحة الخلاف مع أحزاب الكتائب والكتلة الوطنية والتجدّد الديموقراطي، والتحضير للقاء جامع على أوسع نطاق وأعلى المستويات، تضع فيه خطة متكاملة وواقعية لسُبُل الصمود والمواجهة في مرحلتي ما قبل وما بعد صدور القرار الظني المرتقب، وهذا اضعف الإيمان.
عبدو شامي
1/1/2011




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !