شهد لبنان خلال العام 2009 احداثا كثيرة، تنوّعت توصيفاتها ما بين استحقاقات تاريخية وحوادث مفصلية وانقلابات سياسية، تمحورت بمعظمها حول حدث الانتخابات النيابية الذي كاد ان يكون حدث العام مع ما تبعه من ازمة تشكيل الحكومة وصياغة بيانها الوزاري، لولا زيارة الرئيس سعد الحريري لسوريا التي خطفت الصدارة لتكون حدث سنة2009 بلا منازع.
فمع مطلع العام 2009، بدأ فريق الرابع عشر من آذار استعداداته لخوض الامتحان الانتخابي المصيري والمفصلي المقرّر في 7 حزيران؛ وكانت اولى الاستحقاقات التي واجهته، الاعداد والتعبئة الجماهيرية من اجل تأمين اوسع مشاركة شعبية لاحياء الذكرى الرابعة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، في الرابع عشر من شباط كما في كل عام. وبالفعل، كان ذلك اليوم الوطني يوما مليونيا آخر، فقد غمرت الجماهير الوفيّة قلب بيروت، لتعلن ثباتها على المبادئ الاستقلالية والسيادية لثورتها، وان التخويف والترهيب لن يثنيها عن متابعة مسيرتها.
يوم الاحد 1آذار 2009، كان يوما تاريخيا في المسيرة الاستقلالية، فقد اعلن افتتاح وانطلاقة المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في "لاهاي"، بعد 4 سنوات على زلزال 14 شباط 2005. بَيْد ان المفاجأة او الصدمة الكبرى، وقعت في 29 نيسان، اي في عز التحضيرات للاستحقاق الانتخابي، مع افراج المحكمة الدولية عن الضباط الاربعة المشتبه بتورّطهم في "جريمة العصر"، لتنطلق مع تخليتهم عاصفة كبيرة من التداعيات السياسية والحملات الهجومية التي شنّتها المعارضة على القوى الاستقلالية.
الا ان قوى 14 آذار، استطاعت التغلّب على هذا الحدث الذي خدم بتوقيته الواقع على مشارف الانتخابات قوى 8آذار، معتبرة ان قرار التخلية جاء ليؤكّد منطق التيار الاستقلالي حول عدم تسييس المحكمة؛ مع العلم ان قرار اخلاء سبيل الضباط الاربعة ليس بمثابة صك براءة نهائي اعطي لهم، لأن ذلك لن يعرف الا بانتهاء المحاكمة واكتمال التحقيقات؛ وهذا ما اكّده القاضي بلمار يوم تخليتهم، اذ لفت الى امكان استدعائهم في حال ثبوت ادلة تستدعي اتهامهم في وقت لاحق.
وفي السابع من حزيران 2009، خضع جمهور ثورة الارز للامتحان المصيري، الذي لم تُقدِم المعارضة على تعطيله كما توقّع بعض المحلّلين، لأنها على ما يبدو كانت واثقة فعلاً من فوزها فيه، غير أن "ثوار الأرز" نجحوا في امتحانهم نجاحاً تاريخيا باهراً، أثمر عن فوز كاسح لقوى 14 آذار، حيث نالت71 مقعداً نيابياً مقابل 57 للمعارضة، مجدّدة بذلك أكثريتها النيابية، ومنتصرة لمنطق الدولة على الدويلة، وللحرية والسيادة على التبعية والإرتهان.
وبناء على تلك النتيجة المشرّفة، ظن بعض الجمهور الاستقلالي المتفائل، انه بإنجازه العظيم هذا، تكون القوى الإستقلالية قد طوَت تسوية الدوحة الظالمة وثلثها القاتل المدمّر لمدّة اربع سنوات مستقبلية على الاقل، فيما بالغ آخرون معتبرين ان هذا الفوز جاء بمثابة اعلان فشل وانهيار المشروع الايراني في لبنان والعالم العربي!
غير ان مجريات الاحداث بعد الانتخابات ما لبثت ان اثبتت عكس ما ظنه المتفائلون وما شطح اليه المبالغون، مع صدمة الانقلاب الجنبلاطي على القوى الاستقلالية في الثاني من آب، وبروز معادلة خطيرة بسبب الوضع الشاذ الذي تواجهه البلاد للمرة الاولى في تاريخها، وهو قيام تحالف مذهبي مسلّح واحادي القرار، يضع الاكثرية والمذاهب الاخرى بين خيارين: اما عودة التوترات الامنية، وتعطيل عمل المؤسسات مع إحداث فراغ فيها، اذا اصرّت القوى الاستقلالية على تشكيل حكومة تعكس نتائج الانتخابات، وإما ان تسلّم الاكثرية بما تريده الاقلية المسلحة في هذا التحالف، اذا كانت تهمها "مصلحة الوطن" وحمايته من السقوط في الفوضى وفي المجهول...
وبناء على هذه المعادلة، تمادت القوى التعطيلية في فرض شروطها على قوى الاستقلال، لانها تعلم ان الخطر عندما يصل الى حد تهديد الكيان والهوية والنظام والسلم الاهلي...فإن الاكثرية سوف تتراجع عن مواقفها وتتنازل...والدليل على ذلك ما حصل منذ عام 2005 الى اليوم.
ففي 9 تشرين الثاني وبعد اكثر من 4 اشهر من المفاوضات، خضعت الاكثرية لتلك المعادلة الخطيرة مجددا، التي نجحت قوى الامر الواقع بواسطتها في فرض اعادة إنتاج اتفاق الدوحة معدلاً، والتمديد لمفاعيله، بعد وضع مسحة من "الماكياج" التمويهي عليه، بفرض حكومة تحتوي على ثلث قاتل مضمر، اضافة الى بيان وزاري شرّع سلاح ما يسمى بالـ"المقاومة"، مكرّسة اعرافا جديدة تتعارض ودستور الطائف، ومؤكدة بصوت صارخ ابتداء زمن "الشيعية السياسية" الذي افتُتِح رسميا باتفاق الدوحة في 21 ايار 2008.
ومن اجل الالتفاف على قضية السلاح خارج اطار الدولة، كان لافتا عند بروز موقف مسيحيي 14آذار السيادي المعترض على البند السادس من البيان الوزاري الذي يعطي شرعية واستقلالية لسلاح ما يسمى "مقاومة"، اقدام "حزب ولاية الفقيه" على طرح موضوع ضرورة تشكيل "الهيئة الوطنية العليا لالغاء الطائفية السياسية"، واضعا في الواجهة رئيس مجلس النواب نبيه بري، ومحاكيا بذلك التكتيكات التي كان يلجأ إليها السوريون كلّما إرتفع صوت مطالباً بانسحاب الجيش السوري من لبنان، عندما كانوا يطرحون مقايضة إلغاء الطائفية السياسية في مقابل المطالبة باستعادة سيادة لبنان واستقلاله وقراره الحر.
ولا يخفى ما ينطوي عليه مطلب الغاء الطائفية السياسية من ابتزاز سياسي، خصوصا وان المسيحيين اصبحوا أقليات، لا سيّما وان الهدف من ذلك المطلب بالتوقيت والظروف التي يطرح فيها ليس وقف التعداد الطائفي، وانما الهدف منه اقصاء الطوائف الأقل عددا عن الساحة السياسية. ما يؤكّد الخشية من ان يكون الغاء الطائفية السياسية مدخلا لمزيد من الطائفية، اي استئثار الطائفة الشيعة بحكم البلاد.
وقد خلّف هذا الواقع وموضوع السلاح غير الشرعي تحديدا، انقساما حادا داخل فريق 14آذار؛ ففي حين اعترض مسيحيو هذا الفريق على البند الذي يعطي الشرعية والاستقلالية لذلك السلاح في البيان الوزاري، ايّد مسلمو الفريق الاستقلالي ما ورد في هذا البند الخطير دون تحفّظ!! فعاد بنا هذا المشهد المخزي والانقسام الاليم، الى الاصطفافات السياسية زمن الوصاية السورية، حين اسّس المسيحيون الاستقلاليون عام 2001، "لقاء قرنة شهوان"، الذي طالب بتحقيق السيادة وتصحيح العلاقات اللبنانية-السورية، في مواجهة من كانوا يعتبرون وجود القوات السورية في لبنان " شرعيا وضروريا ومؤقّتا".
كما اعاد الى الذاكرة موضوع شرعنة سلاح "حزب ولاية الفقيه" او ما يسمى بـ"المقاومة"، الاتفاق الذي تم بين سلاح المنظمات الفلسطينية في لبنان والدولة اللبنانية، وعُرِف بـ"اتفاق القاهرة"، وكيف ان التنظيمات الفلسطينية لم تحترم أحكام الاتفاق، فاعتدت على سلطة الدولة وسيادتها، ما استتبع اشعال حرب لبنانية-فلسطينية دامت سنتين، ثم ولّدت حروباً دامت 15 سنة وصفت بحروب الآخرين على ارض لبنان، ولم تتوقف الا بعد دخول القوات السورية اليه واقرار اتفاق الطائف.
يوم السبت في 19/12/2009، من دون دعوة رسمية ولا جدول اعمال صادر عن مجلس الوزراء، وصل الى مطار دمشق الدولي على متن طائرته الخاصة، رئيس وزراء لبنان سعد رفيق الحريري، في زيارة فرض عليه منصبه القيام بها قبل انجلاء نتائج التحقيقات في قضايا الاغتيالات، وعُدّت بمثابة مصالحة تاريخية بين الحريري الابن والقيادة السورية، التي اتهمها الحريري يوما باغتيال والده.
وعلى الرغم من اعتبار تلك الزيارة المفصلية بداية لمرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين، الا ان الطريقة التي تمت بها وحصولها بعد انتصار كبير(وربما نهائي) لحلفاء المحور السوري-الايراني في لبنان، تمثّل بتشكيل حكومة شرّعت سلاحهم ومنحتهم الثلث القاتل، يجعلنا نتساءل: هل ستكون المرحلة المقبلة من العلاقات اللبنانية السورية، مرحلة تصحيح شوائب الماضي ام عودة النفوذ السوري الى لبنان؟ الجواب متروك للعام 2010.
عبدو شامي
التعليقات (0)