في مثل هذا اليوم من السنة الماضية دخل محمد البوعزيزي من حيث لا يدري سجلات التاريخ من أوسع أبوابها، حينما أشعل شرارة الثورة التي استحالت إعصارا تجاوز حدود بلده، و أصبح ينتقل من دولة لأخرى في مشهد لم تعهده شعوب المنطقة، و لم يعرف العالم له مثيلا. محمد البوعزيزي أصبح بطلا ملهما، و تحولت حروق جسده إلى نيران ملتهبة أحرقت كثيرا من أركان النظام الرسمي العربي، و هي مازالت متأججة حتى الآن. حروق البوعزيزي أذكت في هذه الشعوب، التي تعودت على الصمت و أدمنت المهانة، روحا جديدة من التضحية و التحدي و نزعت الخوف من القلوب، لتصنع في تونس و مصر و ليبيا و اليمن و سوريا نسخا رائعة من ربيع ثوري جعل سنة 2011 عنوانا للتغيير و رفض الذل و التمرد على الطغاة.
أحرق البوعزيزي جسده احتجاجا على الظلم، لكن شعلة اللهب القاتلة التي أطفأت روحه أياما بعد ذلك، أشعلت نيرانا أكثر التهابا، و أيقظت أهالي سيدي بوزيد الذين كسروا قاعدة الصمت المعتادة في مثل هذه الوقائع، و بسرعة قياسية التقط كل أبناء تونس إشارة سيدي بوزيد، و بالسرعة ذاتها ارتفع سقف المطالب، و أصبحت لازمة : " الشعب يريد إسقاط النظام" تتردد على كل لسان. و كان ما كان. سقط النظام، و بدأ موسم الثورات يثمر هنا و هناك في حركة بدت أشبه بموجة من الموضة. لكنها كانت موجة ضرورية لأن حال هذه الشعوب لم يكن مختلفا على كل حال. سنة 2011 كانت موعدا استثنائيا في تاريخ هذه الشعوب، ولا بد أن تكون لها تداعيات مختلفة في المنطقة مستقبلا. و بغض النظر عن نتائج الحراك الشعبي في الدول المذكورة و ما تمخض عنه من تأثيرات سياسية شملت المنطقة عموما، فإن هذا الربيع الثوري يحمل دلالات كثيرة تؤشر لتحول عميق- و إن بدا بطيئا و ضبابيا- في طبيعة التفكير و في العلاقة بين الحكام و الشعوب بشكل يؤهل هذه المنطقة لتنفس بعض من هواء الديموقراطية المفقود إذا تم استغلال هذه المرحلة بالشكل الذي يتطلع إلى المستقبل، و لا يلتفت إلى الماضي أو يتوق إلى إحيائه بأي شكل من الأشكال.
شرارة البوعزيزي التي انطلقت في 17 دجنبر 2010، أصبحت الآن نارا مستعرة. لكن ما زاد في سعيرها و جذوتها هو سياسة الحديد و النار التي انتهجتها الأنظمة العربية في مواجهة غليان الشارع. لذلك لم يكن البوعزيزي وحده من قدم نفسه قربانا للثورة، فمعين الشهداء لا ينضب، و في كل يوم تلتحق أفواج جديدة بالقافلة. لكن مشهد الدم و حفلات القتل لا تزيد الثائرين إلا إصرارا على المضي قدما في التخلص من الظلم و الطغيان. لذلك فإن أكثر الدروس التي تعلمتها هذه الشعوب من تجربة البوعزيزي، و ما تلاها من أحداث، هي تكسير حاجز الصمت و الخوف الذي ظل جاثما على النفوس و كاتما للأنفاس طيلة عقود طويلة. و من المؤكد أن هذه الخطوة تشكل قفزة نوعية في تاريخ هذه الشعوب. فقد اعتاد الحكام من المحكومين كل الطاعة و الخضوع، أما الآن فقد بدا واضحا لكل الحكام أن عليهم إعادة النظر في كثير من عاداتهم. ذلك أن الطريقة التي مات بها البوعزيزي شكلت ثقافة جديدة و صنعت مواطنين يستطيعون أن يقولوا: لا. و بات الشارع يتحدث بدون خوف عن المحاسبة و محاربة الفساد و المطالبة بالحريات و الحقوق في كل مكان.
17 دجنبر إذن ليس مجرد رقم في سلسلة حساب الأيام و الشهور و الأعوام. إنه بداية لفجر جديد بكل المقاييس. و إذا كان من حق كل بلد أن يحتفل بذكرياته الخاصة في مواعيدها المحددة، فإن هذا اليوم ينبغي أن يكون عيدا لجميع شعوب المنطقة ولكل أحرار العالم، لأن التاريخ سيخبر الأجيال المقبلة أن إعصار الثورة بدأ من هنا. محمد مغوتي.17/12/2011.
التعليقات (0)