الفراغ ألد أعداء الإنسان، والطبيعة ترفضه، ومن سوء حظنا أن الفراغ الذي عشناه في "أفراس" ملئ عن آخره بالتفاهات، الكلام نفسه يتكرر يوميا، والحكايات ذاتها لا تتغير، ولئن كان الإبداع في شق منه ينبني على إعادة تشكيل المكتسبات في قوالب جديدة، فقد كانت إبداعاتنا لا تخرج عن نطاق إعادة بناء الثرثرة واللغو.
كانت علاقتنا بالسكان متشنجة بعض الشيء، يطبعها نوع من الجفاء المتبادل... وقد نسجت حولنا الحكايات الكاذبة للنيل من سمعتنا، فقيل أننا نقضي الليل رفقة المعلمات اللواتي كن يقطن ببيت أمام "فيلتنا" مباشرة، كل ذلك كان مجانبا للصواب فمنذ الوهلة الأولى للقائنا بالمعلمات، نشبت بيننا حرب خفية سببها محاولتهن للاستحواذ على استعمال الزمن الأمثل لدى المعلمين، والذي تكون فيه عشية السبت وصبيحة الاثنين فارغتين، اقترحت أن نجري القرعة فثرن في وجهي قائلات بأنهن فتيات وأن علي احترامهن...بداخلي رددت ساخرا... إيه أين النضال من أجل المساواة مع الرجل؟ أم أن المساواة تقتصر على الحقوق دون الواجبات؟ رضخت في نهاية المطاف بسبب إلحاح المدير وباقي الزملاء، ولم أكره قاسم أمين في حياتي قط كما كرهته يومها، فيما بعد توترت العلاقات بيننا إلى الدرجة التي كنا نتحاشى فيها الطرق التي يسلكنها حتى لا يلقي بعضنا التحية على البعض الآخر، ثم ساءت الأمور فلم نعد نقضي صباحا واحدا دون مشاكل ولا أدري كيف ادعى السكان المغفلون أننا نقضي الليل بكامله في هناء معهن، المعلم "ج" أخبرني أنه سمع أن سكان الدوار تراهنوا على أننا لا نفوت ليلة دون أن نقصد بيت المعلمات للسمر ولقضاء بعض الأوقات الجميلة، وأنهم انتدبوا من أجل التأكد من هذا الأمر شابين لمراقبتنا، وفي الليل عندما خرجت لقضاء حاجتي بدورة المياه المتواجدة بجوار الفيلا، وجدت الشابين يتوسطان الطريق المؤدي إلى منزل المعلمات، لم يكتحلا بنوم تلك الليلة طبعا، فأنعم به من جد وكد في سبيل تقويم ما اعوج من أخلاق المعلمين، نصحنا "ج" بأن من مصلحتنا تأكيد هذه الشائعات لأن ذلك من شأنه أن يبعث الطمأنينة في نفوس السكان على بناتهم، كما حكى لنا قصة المعلم الذي قضى سنوات طويلة بهذه القرية كيف انتهى به الحال إلى الإصابة بعاهة مستديمة بعد أن أصابه أحد السكان بفأس في رأسه لأنه تحدث إلى الفتيات حين كان يجلب الماء من العين، هذه القصة ملأت نفوسنا خوفا ورهبة، خاصة وأن الفتيات كن سباقات إلى جذب أطراف الحديث معنا كلما قصدنا العين، ولم يكن حديثا خارجا عن حدود اللياقة والأدب على كل حال، فهذه تسأل عن أخيها التلميذ وتلك تلتمس العذر لبنت أختها كي لا تبعثها إلى المدرسة في الغد، لكن قصة العاهة المستديمة جعلتنا نعدل عن الجواب عن أي سؤال توجهه لنا أنثى كيفما كان نوعه، كنا نتجاهل كلامهن مخافة أن نقضي بقية أيام حياتنا متنقلين على كراسي متحركة، وذات مساء عندما عاد زميلنا "م" من بيت والديه بعدما غاب عن المدرسة لمدة يومين، وجدنا في حالة غير عادية، كان ذلك مما تفتقت عنه أذهاننا المبدعة، إذ اتفقنا على ترويعه بأي ثمن. استفسرنا المسكين عن سبب عصبيتنا فكان الرد أن المفتش زار المدرسة وحين اكتشف غيابه أقسم بأغلظ الأيمان أن حسابه معه سيكون عسيرا، راح "م" يسب ويلعن اليوم الذي فكر فيه في ترك المدرسة، واحتقن وجهه وهو يتساءل: ألا يمكن أن أكتب رسالة للمفتش أخبره فيها أنني على استعداد لتعويض التلاميذ عن الأيام التي تغيبت فيها؟ قلت مستاءا: أهذا ما يهمك؟ لن تبقى على قيد الحياة إلى اليوم الذي تكتب فيه هذه الرسالة، رد مذهولا: ولماذا؟ قلت: قصدنا العين البارحة كعادتنا لجلب الماء، وقد تجمهر السكان هنالك وتوعدوا بقتلنا، وتظاهرت بالهلع وأنا أردف: إنني خائف من أن يقصدوا البيت الآن للاعتداء علينا، قام في عنف هذه المرة وهو يقول: لنجمع أغراضنا ولنغادر الآن، تدخل "س" لثنيه عن عزمه قائلا: "لقد حل الظلام الآن، وسيسهل عليهم حتما اقتناصنا في هذا الليل الدامس، صرخ "م" وقد فقد الأمل في النجاة: ماذا أفعل الآن؟ المفتش سينتقم مني، وهؤلاء إن غادرنا البيت سيقتلوننا، وإن بقينا هنا فلا بد وأنهم الآن في طريقهم إلينا، هل كتب علينا أن نموت كما تموت الكلاب؟ أسعفته بحل يساعده على الموت كآدمي: سنكتب رسالة ندون فيها أسماء الأشخاص الذين قاموا بتهديدنا حتى لا تضيع دماؤنا سدى، فلتكتب حالا... سأملي عليك الأسماء... خطك جميل، وستكون قراءته سهلة على من يعثر على الرسالة. أخذ ورقة وقلما وراح يكتب دون أن أملي عليه شيئا، نظرت إلى الورقة وسألته: لم أمل عليك شيئا بعد، ماذا تكتب؟ قال بنبرة من يستظهر نصا مقدسا: من الواجب احترام التراتبية الإدارية... كان يدون في رأس الصفحة اسم وزير التربية الوطنية ونائبه ومدير المدرسة, لم نتمالك أنفسنا فانفجرنا ضاحكين... غريب أمرك أيها المعلم، إنك لا تهمل احترام رؤسائك حتى وأنت تواجه الموت، ترى كيف ترسخ في ذهنك أنهم مقدسون إلى هذا الحد؟ أعلم يقينا أنه لا يسعك انتقادهم ولا رفض أوامرهم، لأنك أداة للتنفيذ وكفى، ولكن أن تقيم وزنا لهذه الأشياء في اللحظة التي ترى النهاية ماثلة أمام ناظريك، فذاك يشي بأنك تعيش فراغا داخليا رهيبا عدا الفراغ الخارجي الذي فرض عليك.
التعليقات (0)