لعل الامر المثير للتفاؤل اليوم، هو أننا أصبحنا نستفيق على أصوات تتعالى احتجاجا في كل مكان، فلا يمر يوم دون أن تصادفك وقفة احتجاجية يدعو الواقفون من خلالها المسؤولين إلى الحركة في اتجاه الاستجابة لمطالبهم، لا مجرد الوقوف أمامهم لسماع الشعارات وتسجيلها، شعارات ظلت تتردد على ألسنتهم التي ملت الحديث عن مشاكلها وراء دخان السجائر المتصاعد.
حركة واسعة، إذن، تلك التي تعتمل داخل القطاعات كلها، فبالأمس كان القليل ممن يجرؤون على تفجير غضبهم في وجوه من داسوا على حقوقهم وكرامتهم، واليوم أصبح الجميع يدرك أن التعبير الشفوي آن له أن يغادر المقاهي إلى غير رجعة و أن يأخذ له مكانا تحت الشمس وأمام الادارات والوزارات.
وإذا كان هذا الحراك الذي يطبع مغرب اليوم مفيد وإيجابي بشكل كبير، إلا أن أمورا أكثر أهمية تبدو بحاجة إلى من يرسم معالم حلها عبر تحديد خارطة طريق حيث يتبدد الكثير من الغموض واللبس الذي يلف رحلة البحث المضنية عن خلاص من واقع الازمة السياسية التي تكدر صفو وجوه المغاربة المتفائلة.
فالأكيد أن تغيير الدستور لن يكون إلا بمثابة مرحلة جديدة توفر مساحة واسعة من صلاحيات، تم تحريرها من قبضة الاستبداد التي ساهمت بشكل كبير في خنق نفس التغيير، لتكون تحت تصرف منتخبين عبر صناديق الاقتراع وفي مناخ يُأمل منه أن يكون شفافا ومجردا من سحب الخوف و التزوير التي سادت أجواء مغرب ما بعد الاستقلال.
إلا أن الطريق ستظل عصية على السير ومحفوفة بالمخاطر وستعيق بشكل لا يدع مجالا للشك أي تقدم فعلي يستجيب لطموحات الجماهير التواقة للعيش الكريم، مالم تعبد بجملة من الخطوات العاجلة التي ستفتح ورشا كبيرا يحدث مصالحة تاريخية مع العمل السياسي و قطيعة مع ماضي ميزته حالات الطلاق المتكررة مع علاقات فاشلة وغير شريفة مع الاحزاب السياسية على وجه الخصوص.
ولعل أهم الخطوات التي تقود إلى ذلك هو أن تبادر الاحزاب والنقابات التي تربعت قيادات على عروش كراسييها لسنين طويلة حتى اشتعلت رؤوسها شيبا، إلى إشعال الضوء الاخضر للسماح بمرور حركة تغيير جديدة تقود الى إراحتهم من مسؤولية القيادة، قبل أن يأتي الدور عليها، هي الاخرى، و تُرغم على تذوق مرارة ثورة داخلية تطيح برؤوسها أصوات المحتجين و تَفقد وجوهها ،على إثرها، بريق الاضواء التي آلفتها وهي تؤدي دورها الكومبارسي، ضمن سيناريو يفتقر الى حوار جاد وبناء، على مسرح السياسة المتهالك.
أعتقد ان شروط التغيير لا تتوقف عند صياغة دستور ينسجم مع مطالب الشعب المغربي فحسب ، فالأحزاب السياسية مطالبة بصياغة "دستورها" الداخلي الذي يضمن التناوب على الجلوس على كرسي القيادة كذلك، وإلا فمن المستحيل أن تكون مرحلة ما قبل الاستفتاء على الدستور قادرة على جر قافلة التغيير المنتظر وهو تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية والارتقاء بمستوى الفكر القادر على مواجهة تحديات المستقبل.
لهذا فالسياسيون الذين ينادون بدستور ديمقراطي هذه الأيام ، في محاولة منهم لإرضاء نهم الشارع لإصلاحات عاجلة، يُعول على دورها في تنقية اللعبة الديمقراطية من شوائب أضرت بها وأثرت على نموها في حقل الممارسة السياسية، عليهم ان يلتفتوا فورا إلى بيتهم الداخلي، الذي ضاقت حجرة قيادته أمام من وفد عليهم فيما بعد، ويعمدوا إلى التخلي عن ممارساتهم الاستبدادية التي ظلت تقف حجر عثرة أمام بناء وتحصين أعمدته التي يتهددها السقوط والتلاشي.
إن مجرد وضع عجلة قافلة التغيير على مسارها الصحيح لن يكون كافيا، وليس الهدف الأسمى بحده ذاته، فالأهداف التي ينشدها المواطن هي أن ينعكس الواقع الجديد ايجابا على حياته بشكل كامل، ولهذا، فما لم يتم تأهيل الكفاءات وتأطيرها عبر توفير المناخ الديمقراطي السليم، باعتباره الفضاء المناسب لبروزها كي يتسنى لها أن تسهر على قيادة آمنة تأخذ في عين الاعتبار حسن الصيانة اللازمة وتصحيح المسار، متى لاح في الافق تحديات مفاجأة، ستضيع طاقات ثمينة في خضم الحراك، دون أن تنجح في أداء دورها الفعال في تفجير ابداعها و الحرص على البقاء على طريق سالم، يقود في اتجاه بلوغ كل الاهداف المؤملة، قبل الوصول الى محطة استحقاقات قادمة.
فالدور الحقيقي للأحزاب السياسية هو العمل على خلق هذه الشروط اللازمة لضمان مستقبل أفضل، وليس تحريف النقاش من خلال تعليق فشل اللعبة على مشجب دستور لم يكن يوما مبررا لممارسة الاستبداد الذي ارتضوه نهجهم "الديمقراطي" داخل مقراتهم المغلقة في انتظار الانتخابات، ولا مسوغا لاحتلال ابدي لكرسي القيادة.
إن الديمقراطية أكثر بلاغة من أن تُعبر عنها الشعارات الفارغة، و أقوى مكانة من أن تظل محصورة وحبيسة بين دفتي الدستور. إنها منظومة قيم من الاخلاق التي تستدعي السلوك السياسي الذي يحكم أي خطوة نخطوها على خارطة السياسة الملغومة ونحن نتوق الى الوصول الى كرسي تسيير الشأن العام.
ولهذا فعلى الكثير من الاحزاب السياسية ، التي بدأت تعُد العدة للمشاركة في الانتخابات المقبلة، متكئة على مواقف مرحلية لا مبدئية، من أجل استمالة قلوب الجماهير و انتزاع موقع متقدم داخل الرقعة المقبلة، أن تخجل من نفسها وهي تنظر في مرآة الشارع الكبير، الذي عكس صورتها الحقيقية، بعد أن جردها، على حين غرة، من قناع مصطنع أفلح، ولعقود طويلة، في إخفاء حقيقة وجوهها القبيحة.
التعليقات (0)