بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذى هدانا لهذا البيان ، لنبيّن هذا البيان للنبى العدنان ، ولشرعه المبارك الذى أنزله فى هذا البيان ، والهداية التى منّ بها علينا قبل خلق أى إنسان ، ﴿ فالْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله ﴾ ( الأعراف : 43) .
والصلاة والسلام على الحبيب الأعظم ، والإمام الأكرم سيدنا محمد وآله الحكماء ، وصحابته الأتقياء ، وكل من تبعهم على هذا النقاء وهذا الصفاء إلى يوم العرض والجزائ . آمين .. آمين يارب العالمين
إخوانى وأحبابى بارك الله عزّ وجلّ فيكم أجمعين ..
لعل سائل يسأل :
ما الذى يفيد الإنسان من إنتسابه للصالحين ، وسيره معهم مع وضوح شريعة الله عزّ وجلّ ؟
فكلنا نعلم أحكام الصلاة وأحكام الصيام وأحكام الزكاة ، وأحكام المعاملات ، وأحكام الميراث ، ومن لا يعرفها يمكنه السؤال عنها : ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ ( النحل : 43) مثلا الكثير من الناس ، يقول الواحد منهم : علىّ أن أتعلم وأعمل فحسب ، فما الذى أريده من الصالحين ؟ .. بل ويقول : ما الذى يزيده الصالحين فى الدين ؟
الصالحون لا يزيدون فى الدين .. لكنهم يعيدون الأحوال والقيم التى كان عليها أصحاب النبى الأمين ، فما أكثر المصلين ، لكن إختبرهم عند البيع والشراء ، أو عند الحديث ، ومن الذى يتوّرع منهم عن الغيبة والنميمة ، أوحتى يعّدّهُا جُرْمَا ً ؟
لقد أصبحت فاكهة ً يلوكونها بألسنتهم ، فيقول كل واحدٌ منهم بين يدى الله فى كل ركعة ٍ من ركعات الصلاة : إهدنا الصراط المستقيم ـ مثل مُنبّه ـ صراط الذين أنعمت عليهم .
من هم الذين أنعم عليهم الله ؟ ..﴿ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ ( النساء : 69) ، فالقرآن يفسّر بعضه بعضا :
﴿ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ ( النساء : 69) .
وهكذا يتضح الدليل ، فنحن ندعوا فى كل صلاة : أن يهدينا الله الصراط المستقيم ..
صراط الذين أنعم الله عليهم .. من هؤلاء ؟ النبيين ، ولم نراهم ولم نعاشرهم ، أننا فى آخر الزمان .. أما من نستطيع أن نلحق بهم ، ونعاشرهم ونلحق بهم فهم الصدّيقين والصالحين أو الشهداء الذين فازوا بمقام المشاهدة ، وماتو بسبب محبة العزيز الغفار ، وهم الذين يقول فيهم الحبيب المصطفى : ( أكثر شهداء أمتى أصحاب الفُرُش ، ورُبّ قتيل بين الصّفين لا أجر له ) يموتون على فرا شهم فى محبة الله و محبّة حبيب الله ومصطفاه صلىّ الله عليه وسلم ، وهؤلاء يرّكزون على جانب لا غنى للمرء عنه إذا أرادوا أن يعملوا بشرع الله كما يحب الله ويرضى ، وذلك لأن الشريعة تعلمنا الأحكام الظاهرة ، أما هؤلاء فإنهم يُعلمّونا الأ داب الباطنة التى تصّح بها الأحكام الظاهرة ، ولا غنى لأحدهما عن الآخر ، فالمتشرع لا بدّ وأن يتعلمّ الآ داب الباطنة التى ينال بها رضاء الله والقبول من عند مولاه ، وإذا كان الإ نسان صوفيا ًباطنيا ً ، فلا بدّ من شرع الله يجرى عليه فى هذه الحياة ، لأنه قدوة يقتدى به الخلق ، فلا يترك الشرع ، بل هم أعلم الناس بالشرع ، إذ عليه أن يتبحّر فى شرع الله لكى يستطيع أن يعبد الله كما ينبغى على منهج حبيب الله ومصطفاه ، وقد ذكر الله هذه الحقيقة فى القرآن فى آية قال فيها للأ نبياء :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ( المائدة : 48) كل واحد له شريعة يعّلمها للكل ، والمهاج يلوم به نفسه ، أو أهل الخصوصية الذين يريدون أن يكونوا معه ، ولذلك عندما فرض الله الصلاة ، فرض على الجميع خمس صلوات ، أمّا حضرة النبى ، فقد أعطا ه فريضة سادسة ، كانت فى البداية نافلة : ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ﴾ ( الإسراء : 79) ثم أصبحت فريضة عندما قال له :
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلا (4) ﴾ ( المزمل) .
قد يقول البعض أن المنهج خصوصية الرسول الله ..
فنقول أن ربنا قد أدخل طائفة معه عندما قال :
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ﴾ ( المزمل : 20) هذه الطائفة لهم منهج خاص فالجميع يعمل بشرع الله خائفين وراغبين ـ خائفين من الجحيم ، وراغبين فى النعيم :
﴿ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ ( الأنبياء : 09) يدعون ربّهم خوفا ً وطمعا ً، أمّا الطائفة الخاصة تجد أن عبادتهم وطاعتهم ، يقول فيها حضرة الله :
﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ ( الكهف : 52) وهؤلاء هم الذين أمر الله حضرة النبى أن يُصّبّر نفسه معهم ، وهؤلاء نسميهم أهل الإرادة أو أهل العزيمة ، يملكون إرادة قويّة وعزيمة صلبة ، فلا يريدون الجنّات لذاتها ، وإنّما يتمتعون بالنظر إلى وجه الحق عزّ وجلّ فيها ولولا تجلى الحق لهم في جنات النعيم لصارت تستوي عندهم بالجحيم , وذلك لأن أكبر نعيم عندهم :
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ (القيامه : 23) إذن من الذي صنف هاتين الطائفتين ؟ .....الله جل في علاه وذلك على حسب القدرات .
فهناك منهج للكل يشترك فيه المسلم والمؤمن وهو شرع الله عزوجل , لكن المحسن والموقن فله وضع خاص وقد بين حضرة النبي هذا وذاك .. فما هوالإحسان ؟
أن تعبد الله كأنك تراه ومع أنه ليس هناك فرائض زياده إلا أنه يُعلّمَهُ كيف يصل إلى مرحلة في العبادة .. أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك , والوصول لهذه المرحلة أين يكون في الشريعة ؟ .. هل أتوضأ خمس مرات بدلاً من الثلاثة ؟ .. أبداً , هل أقرأ من الركعن الواحدة جزء قرآن ؟..أبداً لكن الأمرهذا الأمر يستلزم :
(إن في القلب لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسم كله ألا وهي القلب) .
وهم بذلك يُعرّفُونا أن الجسم لعبادة الله والقلب للمعاني التي تصاحب العبادة والتي يُحِبُها الله .. كيف؟.. ماذا تريد يارب في العبادة ؟..
يقول : ﴿فَادْعُوا الله مُخْلِصِينَ ﴾ (غافر:14) .
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ (البينة:5) وهو بذلك يريد اإخلاص .. فأين هذا اإخلاص ؟ .. فى القلب أم فى الظاهر ؟ من يارب الذين هم صلا تهم مقبولة عندك ونالوا الفلاح والنجاح ؟ .. هل الذين يطيلون في الركوع والسجود والتلاوة ؟..
قال :لا .. وإنما : ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ (المؤمنون:2) ولايكون الخشوع إلا في القلب ولا يتم ذلك إلا بالإخلاص والتواضع والحضور مع المذكور على الدوام .
وجميع هذه المعاني يا إخواني معاني قلبيه وهي آداب باطنية , لأنني إذا عملت الأعمال الشرعية كما ينبغي ومع ذلك آتاني في باطني فيروس الغرور فإن العمل الذي عملته بور، لأنني سأظن بذلك أني خير من الناس بعبادتي أوخير من فلان أو فلان بعملي مع أننى لا أعلم هل قُبل هذا العمل أم لا , وهذا الغرور يا إخواني بضاعة إبليس لأنه أول من إغتر فقال :
﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ ( الأعراف : 12) فإذا وجد هذا المرض فهل تنفع الطاعات والعبادات وتُـقبل عند رفيع الدرجات ؟.. أبداً :
﴿إنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة:27) ، و( إن الله طيبٌ لا يقبل إلا ّ طيب ).
ومن الجائز أيضاً عندما يسير الإنسان مرحلة في العبادة يُصاب بداء العُجْبِ ويفرح ويُعْجَب بنفسه وينتشي والعُجْب يُحبط العمل ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ (التوبة:25) .
فهل تريدهم يارب مثل يوم بدر﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّة ٌ﴾ (آل عمران:123) , والذل هنا ليس لأحد من الخلق ، وإنما للواحد الأحد :
﴿ وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون:8).
لكن أتكَبّر بين يدي الله وأشعر أنني أفضل من كل الناس كالطاووس فكيف أقابل الله إذن ؟ وكيف أناجيه ؟.. ولكي تدخل على الله يجب عليك أن تتجرد حتى من الحول والطول ، وترى أن مافيك من حول وطول وقوة إنما هو معونة من الله وإمداد منه جل في علاه :
اللهم لولا الله ما إهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
من يا أحباب الذي يعالج هذا المرض ؟.. هل أطباء الشريعة ؟ .. أبداً فهم يعلمون الوضوء ونواقضه وما شابه ذالك من أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج ، لكن أهل الباطن من الصالحين عيونهم تتركزعلى باطن الإنسان .
وقلب الإنسان لكي يُصلحُوه .. وإذا صَلُحَ الباطن صَلُحَ العمل ، وإذا صلح العمل وجد الإنسان ما يطلبه وما يحدوه من أمل أن يكون من أهل مقام الإحسان فيصبح كلٌ منهم كالرجل الذي قال له حضرة النبي : ( كيف أصبحتَ ؟ قال : أصبحتُ مؤمناً حقاً ، قال : إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟
... ما أول شئ في البرنامج الذي وضعه رسول الله والذي نطق به الرجل .. كان –
قال : عزفت نفسي عن الدنيا - وهو أول شئ في طريق الله : الزُهد ، فإن قال أنا في طريق الله ومع ذلك يجمع ويقطع في الدنيا ، فإنّ هذا دَعِىّ ولاشأن لنا به ، فنحن نتكلم عن الصادقين الذين قال لنا الله فيهم :
﴿ اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ (التوبة :119) - عزفت نفسي عن الدنيا - بعد ذلك تنفع العبادة وتصّح ـ فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ـ بعدها ينفع القيام والصيام ، لكن القيام والصيام بغير الزهد في الدنيا يكون مختلطاً بذنوب وآثام وحديث نفس وهواجس ووسواس شيطان تعكر على المرء صفو العلاقه بينه وبين حضرة الرحمن ، فلم يتذوّق طعم الإيمان وحلاوة الإيمان ، ولن يتذوّق طعم الإيمان وحلاوة الإيمان إلا ّ من مشى على برنامج رسول الله .. وعزفت نفسى عن الدنيا .. وليس معنى ذلك أن يترك الدنيا لأننا مأمورون بعمارتها
﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الارْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ ( هود : 62) .
لكن الإنسان عليه أن يحصلها من حلال ، ثم يشكر الله على هذه النعم ، ثم بعد ذلك لا ينشغل عن طاعة الله وعن عبادة الله طرفة عين ولا أقل ، وينفّذ قول الله لحبيبه ومصطفاه :
﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) ﴾ (الشرح ) .
وقد يسأل سائل عن الناس السائحين فى البلاد ، الذين يتركون الأهل والأولاد يظن الناس ويقولون عنهم أنهم صالحين .. ومنهم من يمشى حافى القدمين ، ومنهم من يمشى عريان ، ومثل هؤلاء نقول عنهم أنهم قد يكون عندهم بعض الخلل فى عقولهم ، أو قد يكون أخذوا برنامج فى العبادة فوق طاقتهم ، وقدراتهم ، فاشتغلوا فى العبادة ونسوا حاجات أجسامهم ، فحدث لهم هذا الخلل ، ولا شأن لهؤلاء بالصالحين والأولياء ، وهذا لأمر يدعونا لأن نسأل حضرة الله .. من هو الولى يارب ؟
﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ ( يونس : 63) .. إذن فالولاية إيمان وتقوى ، فهل قرأ أحدكم فى السيرة النبوية الشريفة ، أو فى حياة الصحابة أنه كان واحد منهم يمشى عريانا ً أو حافى ؟
لم يحدث فقد كانوا كلّهم فى التجارات وفى البيع والشراء ، حتى أن ربنا حين مدحهم .. مدحهم بأنهم مع شدّة شغلهم بالبيع والشراء لا يسهون عن ذكر الله :
﴿ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ﴾ ( النور : 37)
أمّا المجذوب الحق فهو الذى تعلقّ قلبه بالحق ، لذلك تجد أن قلبه بالحق لذلك تجد قلبه وهو فى البيت معلقا ً بالمسجد ، وكذلك يكون فى العمل ، وقلبه معلقٌ بذكر الله حتى وهو يأتى أهله ، فلا ينسى مولاه طرفة عين ولا أقلّ .. وذلك لأنه يرى أن كل ما يقوم به لا يقوم به إلا ّ بمعونة الله وتوفيق الله ..
إذن فهو لا يغيب عن الله ولا عن ذكر الله مع قيامه بأكمل الأعمال التى كلفّه بها الله :
( كلكم راع ٍ وكلكم مسئول عن رعيّته ) وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرهبانية وقال :
( لا رهبانية فى الإسلام ) وكان أصحاب النفوس الضعيفة عندما يجلسون فى المسجد بهذه الكيفية يخرجهم .. وذلك عندما دخل ورأى واحدا ً منهم ، قال : ماذا تفعل ؟ قال : أعبد الله .. قال : ومن الذى يطعمك ؟ قال : أخى .. قال : أخوك أفضل منك ) فهل هناك بيان بعد ذلك ، وعندما زاد هذا الأمر فى عهد سيدنا عمر أمسك بالدّرة ، وضربهم وطردهم من المسجد ، وقال :
{ لقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ً ولا فضة } وهذا يا إخوانى ما أساء للصوفية الآن مع أن الصوفية من ذلك ليس من أساس الصوفية ، وليس من أساس الدين ، لكنها مجرّد نفوس تستسهل ذلك لأنكم تعلمون جيّدا ً أن أعلى دَخْل الآن هو دخل المُتسولين الذين يجلسون بجوار سيدنا الحسين والسيّدة زينب ، فهل نقول على مثل هؤلاء صوفيّة ؟ ..لا .. لا شأن لهؤلاء بالصوفيّة لكنهم يتمسّحون لكى يغدق الناس عليهم ، فتجد منهم من يلبس عمامة حمراء ، ومنهم من يلبس عمامة خضراء ، ومنهم من يلبس عمامة صفراء ليتصنّع ويُمثلّ الدور من أجل أن يعطيه الناس ، وهذا مقصده ، ولا شأن له بدين الله ولا بأهل الصفاء من قريب أو من بعيد ..
لكن الصوفيّة الحقيقية هى صفاء القلب لله عزّ وجلّ ، وهى أن يقبل الإنسان على قلبه ويصّفيه وينقّية على منهج الحبيب .. كيف ؟ .. بذكرؤ الله ، وأعظم ذكر ٍ لله ما كان عليه رسول الله هوما أمر به الله :
﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ .. وما عبادتك أنت ومن معك ؟ ... وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلا ﴾ ( المزمل)
لكن المهم هنا هو أن يرتل الإ نسان لكى يعمل فيقرأ خطابا ً بسيطا ً من خطابات العلىّ الوَهّاب ، مذكوراً فى أى موضع من الكتاب ، فيقوم لينفذ ، ولا ينتقل إلى خطاب ٍ آخر إلا ّ إذا نفّذ الأ وّل .
وقد ذكر الإمام الغزالى فى إحيائه : { أن أصحاب رسول الله كانوا يقولون : كان من يحفظ سورة البقرة من أصحاب رسول الله يدعى عظيما ً } وذلك لأنه حفظ سورة البقرة ...
كيف حَفِظهَا ؟ حفظها علما ً وعملا ً ، بعد أن حفظها قراءة ً وتدّبُرَا ً، وهذا دأب الصالحين الأكابر ..
أما الأصاغر فى البداييات.. نأمره بالإستغفار من الذنوب التى إقترفها ، وكذلك نقول له : صلىِّ على حضرة النبىّ لأنك مازلت مشغول البال .. والصلاة على النبي مقبولة على أىّ حال ، لكن إذا ذكرت الله ، فإنّ الحبيب يقول .. يقول الله : ( لا أقبل ذكرا ً من قلبٍ ساهى ) وهو حديثٌ قدسى ، أمّا الآية التى فى القرآن والتى تقول : ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ ( الكهف : 24)
قال عنها الصالحون : إذا نسيت سواه ، فإن لم يكن بداخلك إلا ّ هو ، فهذا هو الذكر الحقيقى :
أذكر الله إن نسيت سواه قل بقلب ٍ فى الذكر يا ألله
أى ليس باللسان فقط ، وإنما القلب مع اللسان .. فيجاهد الإنسان فى تصفية القلب فى البداية بالإستغفار والصلاة على الحبيب المختار ، وكبح جماح النفس حتى لا تقع فى المعاصى والأوزار ، وأساس ذلك كله وبدؤه المطعم الحلال ، وذلك لأن العبادة بغير المطعم الحلال لا تنفع الإنسان ، ويردّها حضرة الرحمن عزّ وجلّ ، قال صلى الله عليه وسلم :
( إنّ المرء ليقذف باللقمة الحرام فى جوفه ، لا يتقبّل الله منه عملا ً أربعين يوما ً ) .
وبعد التصفية والتخلية ، تأتى التحلية ، فيذكر الله بترتيل كلامه : ( إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد .. قيل وما جلاؤها يا رسول الله .. قال ذكر الله عزّ وجلّ ) ، وهذا هو ذكر الأكابر .
ويقول سيدى أحمد بن إدريس رضى الله عنه فى ذلك : { تربّيت على يد شيخى الشيخ عبد الوهاب التاجى .. وهو من كبار أولياء المغرب ، وبعد إلتحاقه بالرفيق الأعلى ، إنتقلت إلى رجلٍ آخر من رجال الله الصالحين .. وبعد إنتقاله إستغثت برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتانى فى المنام ، فقلت له ماذا أفعل ؟ .. قال : عليك بكتاب الله } .. فأصبح ورده كتاب الله .
كذلك سيدى أحمد البدوىّ رضى الله عنه والذى يسميه الناس إمام المجذزوبين باطنيا ً إلى رب العالمين ، ظلّ يتعبّد فى غار حِرَاء سبع سنوات ، بعد أن حفظ القرآن ، وجوّده بالقراءات السبع ودرس الفقه على مذهب الإمام الشافعىّ ، وألّف فيه كتاب .. وبعد ذلك كله دخل الخلوة فى غار حراء .. ومع ذلك كله كان لا يترك فريضة إلا ّ ويؤديها فى بيت الله الحرام فى وقتها فى جماعة ، ومن ذهب منكم إلى هناك ، يرى مدى المشقة البالغة لمن يفعل ذلك .. إذ كيف يصعد إلى الغار ، وكيف ينزل ، وكيف يذهب إلى مكةّ ، وكيف بعود .. وذلك لنعلم جميعا ً أنّ هذا هو الجذب الحق .
فالمجذوب الحقيقى الذى غاب حتى عن الناس ، وعلامته أنه عند صلاة الفرض يستيقظ ويصحو ، ليصلىّ ، ويحفظ الله عليه أداء الصلوات ، وكذلك فى بداية شهر رمضان يصحو ويستيقظ ليصوم مع المسلمين ، وهذا هو الجذب الحق الذى غرسه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. غرسه فى أصحابه البررة الكرام ..
ويحكى الشيخ أحمد حجاب رضى الله عنه .. وهو رجلٌ من الأولياء إنتقل منذ خمسة عشرعا ما ً تقريبا ً ، وكان يتعبّد فى مسجد سيدى أحمد البدوىّ فى غرفة فوق سطح المسجد ، وكان سيدى أحمد البدوىّ يربيه ويكلمه ، فقال : إحترت ذات مرّة .. وهذا الكلام مذكورٌ فى كتاب إسمه العظة والإعتبار ..آراء فى حياة سيدى أحمد البدوىّ البرزخية والدنيوية ، والكتاب مطبوع عن طريق المجلس الأعلى للشئون الإسلاامية .. قال : ذات مرّة إحترت .. بماذا أشتغل ؟ .. هل بذكر الله ، أم بالقرآن .. وإذا بسيدى أحمد البوىّ يقول لى : القرآن .. القرآن .. القرآن .
وكذلك إمامنا الإمام أبو العزائم رضى الله عنه ، كان هذا منهجه ، فقد كان لا ينام إلا ّ إذا جلس واحدٌ بجواره يقرأ عليه القرآن ، وكان القارئ إذا رآه يستغرق فى النوم توقف عن القراءة ، فيقول له الإمام : أكمل وهو نائم .. وأحيانا ً إذا كان القارئ غير متقن ، أو غير مجوّد يصحح له نطق الآية وهو نائم .. وهذه هى عبادة الصالحين يا إخوانى .. القرآن ، ولكنها تأتى بعد تصفية القلب ، لأنه بعد هذه التصفية عندما يقرأ القرآن ، ويتمعّن ويتدبر آياته ، تلوح لقلبه أنوار القرآن ، ويتمتع فؤاده بالمناظر الإلهية العجيبة التى يراها وهو يقرأ آيات القرآن ، فإنه يجد من الله عزّ وجلّ برهانا ًأمامه ساطعا ً يراه بقلبه ليثبّت فى قلبه هذه الآية :
﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ (آل عمران : 32) .
وهذا باختصار شديد .. فالذى يستفيده اإنسان من إنتسابه للصالحين ، هو أنهم يؤدّبون الإنسان بالآداب الباطنة التى بها تصّح المعاملة مع الله وذلك ، لأن الأدب قبل الطلب كما أمر الله سيدنا موسى أن يذهب إلى الرجل الصالح ليعلمه الأدب فى التعامل مع مولاه ، ولذلك كنا نجد رجال الأزهر الشريف ... العلماء الأكابر ، بل رجال المذاهب الأربعة يذهبون للصالحين ليعلموا ماعندهم من الآداب الباطنة والأخلاق الراقية ، حتى يشربوا بالعينين ، ويشهدوا بالمشهدين ، فقد قال الإمام الشافعى :
{ صحبت الصوفية سبتين ، فاستفدت منهم كلمتين :
الأولى : نفسك إن لم تشغلها بالحق ، شغلتك بالباطل .
والثانية : الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك }.
كذلك الإمام أبو حنيفة والذى صحب سيدى جعفر الصادق سنتين ، قال عنهما :
{ لولا السنتان لهلك النعمان } .
كذلك الإمام مالك صحب آل بيت النبىّ فى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى رأسهم سيدى محمد الأنور والد السيدة نفيسة رضى الله عنها ، وكان من كُمّل الصالحين ..
كذلك سيدى أحمد بن حنبل الذى كان يتردد على الصالحين ، فيذهب لزيارة بشر الحافى ، ويذهب لزيارة معروف الكرخىّ .. وكان إذا تحيّر فى مسألة يذهب إلى رجلٍ يُسمّى أبو حمزة الصوفىّ ، فيفّك له عضال هذه المسألة .
وهذا النهج كان ولا يزال إلى وقتنا هذا .. وذلك لأن الإثنين يكمل كلٌ منهما الآخر ... إذ لا بدّ من الشريعة ، ولكى تُقبل الشريعة .. لا بدّ من اآداب الباطنة التى تكون فى القلب ، والمعانى النورانية التى تكون فى الفؤاد تصحب العمل ليصّحَ العمل ، ويأتى فتح الله عزّ وجلّ .
نسأل الله عزّ وجلّ أن يرزقنا علما ً نافعا ً وعملا ً رافعا ً ولسانا ً ضارعا ً.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الموقع الرسمى لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد
التعليقات (0)